شعار الطغاة في كل عصر ومصر، شعار يختزل الأمة في شخص قائدها، فهو التاريخ والحاضر والمستقبل، وهو الجدير بالأفق الإعلامي الذي يشيد بإنجازاته صباحًا ومساءً، وهو الجدير بالتصفيق الحاد بعد كل فقرة من خطاباته التاريخية، وهو الجدير بكل موافقة في المجالس النيابية، وهو الذي عليه العمل وكل مخالف له ما هو إلا مغرض وعميل ويهدد مصلحة الوطن وأمنه واستقراره وسلامة أراضيه.
هو الزعيم الملهم الذي صنع بانقلابه التاريخي وجهًا جديدًا لبلده، وجعل لها ثقلاً في المجتمع الدولي باستحداث أصدقاء جدد من الغرب والشرق، هم في الواقع من ساندوه من وراء ستار، لابتزاز خيرات وطنه، وللتحكم في مصير بلده عبر الزعيم الدمية.
هو الثوري المناضل الذي حمل كفنه وركب دبابته وأمسك بندقيته لينقلب على الشرعية كي يحرر الشعب من ظلمة الصندوق الانتخابي إلى نوره هو وحده، وإلى إراحة البسطاء من التفكير والتقرير، وتحمله هو كد وعناء اتخاذ القرارات بدلاً عنهم، وحمل عبء تقرير مصائرهم.
هو الشخصية النادرة الملهمة التي تمتلك بوصلة خفية تهديه للصواب دائمًا، فهو دومًا صائب الفكر والرأي، صاحب المواقف المبهرة، والانتصارات الخارقة، ومحط التقدير محليًا وعالميًا، ولأنه متفرد مبهر تنقاد له الجماهير لشدة حاجتهم إليه، وقناعتهم بضآلة قدرهم وضرورة الاعتماد عليه.
هو القائد الذي يرسم المصير والفكر والرؤية، لأن شعبه برأيه قاصر ذهنيًا، معاق سياسيًا، لا يستوعب آليات الديمقراطية المحلية التي صممها هو لنفسه ولطغمته.
وهو الإداري البارع الذي يمتلك أذرعًا إعلامية متميزة وجبارة، وعلى أعلى مستوى من الكفاءات، تلهج بذكره وتشيد بفضله وتعدد محاسنه وترصد إنجازاته، وفي هذا الفضاء الإعلامي الصاخب تنشط جرافات الوعي وحفارات الضمير في شق قنوات للكذب والوهم، تمر فيها كل أنواع الأباطيل، بمشاركة جيش هائل من نخب ومثقفين واستراتيجيين، زعموا طويلاً أنهم فرسان الاستنارة، فلما حل الخراب تبين للجميع أنهم مقاتلون في جيوش الخرافة.
وهو أيضًا الذي أسس جهاز مخابرات على قمة الأداء العالمي ليعد أنفاس شعبه ويرصد تحركاته ويحدد ولاءاته، وهو صاحب الفضل في تأسيس جيش قوي يسحق أي محاولة شعبية للتملص من حكمه والتفلت من قبضته، ولا ننسى تأسيس دولة الدستور والقانون التي شيدها الزعيم المغوار، والقضاء الشامخ الذي يسجن كل معارضيه ومناكفيه.
هو الزعيم الجريء الذي لا يتردد في عقد التحالفات مع أعداء الشعب، هذا الشعب الذي لا يعرف مصلحته وأدركها نظرة الزعيم الثاقبة وفكره المتقد، ولا يتوانى عن بيع جزء من الوطن، أو على الأقل جعل أرضه مكبًا للنفايات النووية أو محطًا للقواعد العسكرية الأجنبية.
وهو الاقتصادي المحنك الذي حافظ على ديون الوطن، وعرف سرًا الطريق إلى بنوك سويسرا وأمريكا ليضع فيها بعضًا من ثروات الشعب، ولكن باسمه الشخصي وبصمة صوته كي لا يصل إليها الحمقى والسفهاء من رعيته، ولو حدث انقلاب عليه – لا قدر الله – فيعتبرها الزعيم مكافأة نهاية خدمة له ولأبنائه من بعده.
وهو القائد المنهك والمرهق في إدارة شئون البلاد، ولكنه لدماثة خلقه لا يتبرم ولا يتململ، بل حتى فترات راحته التي يحتاجها لطبيعته البشرية تكون في سرية تامة وبعيدًا عن أعين الشعب وأضواء الإعلام، فلا تراه يتنزه على يخته الملكي أو الرئاسي الفاخر، أو حتى لا تشاهده وهو يتمشى في قصره الشاسع، ولا يمكن أن تحصل على صورة له وهو في منتجعه الخاص، أو مزرعة خيوله العربية الأصيلة، أو على شواطئ الريفيرا أو في الريف الإنجليزي، إنه العاقل الحكيم الذي يتململ في صمت ويروح عن نفسه في صمت.
والزعيم لا يحب كلمة “أزمات” ويمتعض من عبارات أزمة التعليم، أزمة الصحة، أزمة المواصلات، أزمة البطالة، هذا لأنه زعيم إيجابي لا ينظر أبدًا إلى نصف الكوب الفارغ، فهو هنا يضع حجر أساس لمشروع زراعي، وهناك يفتتح مشروعًا سكنيًا، واليوم يتفقد التوسعات أو الإنشاءات أو التشيدات حتى ولو اتهمه المعارضون بأنها مشاريع وهمية، أو حتى إن لم يجد لها المواطن صدى في القريب ولا البعيد.
يقول الأستاذ محمد المهدي: “والزعيم الملهم غالبًا ما يتصف بالطلعة المهيبة واعتدال القامة وقوة البنيان ولمعة العينين وعمق الصوت وسحر النظرة وحسن الملبس، فهو يمثل صورة البطل التي يرى فيها البسطاء أنفسهم.
وهو قادر على مخاطبة الجماهير بصوته الدافئ العميق ونبرته الحماسية التي توقظ بداخلهم الإحساس بالكرامة واحترام الذات، وتنتشلهم من حالة اليأس والانبطاح والاستذلال والخوف من الأعداء الداخليين والخارجيين، والخطاب الجماهيري الحماسي من ضرورات وجود الزعيم الملهم، خصوصًا وسط جماهير تزيد فيها نسبة الأمية وتعلى من قيمة الكلمة المسموعة وتشكل اللغة إحدى أهم دعائم وجودها التاريخي”.
والقائد لا عبوسًا ولا كئيبًا، فهو حريص على حضور احتفالات تخرج الكليات العسكرية، حتى ولو علل ذلك المغرضون بأن مشاركته تقديرًا لجيشه الذي يحمى كرسي حكمه أو عرش مملكته، وهو أيضًا يحضر حفلات ساهرة تحتفل بيوم ميلاده ويوم انقلابه أو بالأصح يوم ثورته العظيمة التي أفاقت شعبه وأعلت مجده.
والقائد العظيم من أكبر قادة العصر حملاً للألقاب والشهادات الفخرية، واسمه من أكثر الأسماء عالميًا إطلاقًا على شوارع ومرافق دولته التي باتت في عهده عظيمة، فهو الرئيس المؤمن، والقائد الملهم، والمفكر المحنك، والراعي الحكيم، ورب الأمة البصير، وكل المفكرين والباحثين عاكفين على تحليل فكره، والتعمق في رجاحة رأيه، وربما قدمت أبحاث دكتوراه وماجستير حول رؤيته القيادية وحنكته السياسية، وفتاوى كبار المشايخ موفورة حول الاجتماع حوله، وحرمة نزع يد الطاعة من ولايته، لأنه الملهم الذي اختارته العناية الإلهية رحمة بهذا الشعب المسكين.
وكل خصوم الزعيم المفدى إرهابيين، ومكانهم السجون، وكل من يختلفون معه يلعبون بنار غضبه التي يمكن أن تحرق كل شيء حتى شعبه أجمع، وفكرة المؤامرة سائدة في عصره، مؤامرة على وطنه الذي تقزم في عهده، ومؤامرة على شعبه رغم أنه هو جلاده، ورغم أن المؤامرة الفعلية في عقله هو والتي جعلته متشككًا في كل من حوله، خائفًا من اغتياله، مرعوبًا من انتفاضة، مذعورًا من إقالة.
إنه أسطورة زمانه، وفريد عصره، وسابق أقرانه، جائزة نوبل أقل من قدره، ولو اجتمعت عليه كل البشرية ما وفته حقه، لذلك تضخمت ذاته حتى ابتلعت شعبه، بل وابتلعت الوطن، فصار هو الوطن.