“فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ: لاَ تَخَافُوا. قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ الَّذِي يَصْنَعُهُ لَكُمُ الْيَوْمَ. فَإِنَّهُ كَمَا رَأَيْتُمُ الْمِصْرِيِّينَ الْيَوْمَ، لاَ تَعُودُونَ تَرَوْنَهُمْ أَيْضًا إِلَى الأَبَدِ” سفر الخروج – الاصحاح الرابع عشر
مما يروى عن محادثات السلام السرية التي تمت بين أنور السادات ومناحيم بيجن في كامب ديفيد عام 1979 أن الأخير وضع حق المواطنين الإسرائيليين في الدخول كخط أحمر لا يمكن مناقشته، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ يستطيع أي مواطن إسرائيلي الدخول إلى شبه جزيرة سيناء بمجرد إظهار بطاقة هويته، فلا حاجة إلى جواز سفر أو أي شيء من هذا القبيل.
يحتفل اليهود في إسرائيل وحول العالم هذه الأيام بعيد الفصح اليهودي، عيد الغفران لبني إسرائيل والسماح لهم بمغادرة مصر وظلم فرعونها، يستمر هذا الاحتفال لأسبوع، الفترة التي استغرقها الوصول إلى خليج السويس لينشق أمامهم ويغرق فرعون وجنده من خلفهم كما تروي القصة الشهيرة.
يكفي تتبع باقي القصة في الكتب المقدسة المختلفة لمعرفة أن العلاقة الإسرائيلية بسيناء شديدة التعقيد والتناقض، فطالما كانت سيناء هي مساحة التحولات الجذرية في حياة بني إسرائيل في مراحل عدة من قصتهم شديدة الطول، فهي ذات الجزيرة التي تحولوا فيها عن عبادة الله الذي أنقذهم من فرعون للمرة الأولى بعبادة العجل الذي صبوه مما سرقوه من حلي المصريين، وهي أيضًا جزيرة التوبة الأولى التي أنزل عليهم فيها المن والسلوى.
خيال مريض
وصف الفيلسوف وعالم القبالاة اليهودي الأشهر جرشوم شولم علاقة بني إسرائيل بسيناء كعلاقة شاب لعوب بفتاة أحبته بعمق، وأبدًا لم يستطع الفتى أن يخلص في مشاعره تجاهها لهوسه الدائم بنفسه وحياته الشخصية وأفكاره، تخلص الفتاة في مشاعرها ولا تنتظر شيئًا في المقابل، إلا أن الفتى يذهب ويعود إليها كل فترة بين مغامراته الحمقاء، تنتظر الفتاة بأذرع مفتوحة دائمًا، تأمل أنه سيدرك أنها ملاذه الحقيقي الوحيد يومًا ما، دائمًا ما يعود الفتى ويذهب مرة أخرى ليقوم بحماقة جديدة، تمامًا كما أعرض عما قدمته إليه من المن والسلوى بحثًا عن الفول والبصل، أو كما اعتبر وجوده فيها لأربعين عامًا تيهًا بالرغم من أنها استقبلته بعد أن رفض أن يقاتل ليدخل إلى فلسطين.
بالرغم من كل هذا لا يستطيع الفتى الأحمق أن يتقبل فكرة أن تنتهي علاقته بها، وكأن هوسه بنفسه وذاته يقول إنه وحده هو من يحدد متى يعود إليها ومتى يريدها، لا يحق لها هي أن ترفض مجيئه أو استقباله، وسيفعل كل ما يستطيع ليجبرها على عدم فعل ذلك، حتى لو كان هذا الأمر هو احتلال أرضها وسفك دماء أهلها بالقوة العسكرية.
سياسة أم أساطير؟
يجب على المرء أن يتوخى الحذر الشديد عند حديثه عن اتصال إسرائيل الحالية وسكانها ببني إسرائيل المنحدرين من يعقوب، وذلك حتى لا يقع في فخ ترسيخ المقولات التي تأسست عليها إسرائيل ظلمًا وعدوانًا، فلا شك في كون إسرائيل الحالية دولة حديثة استعمارية بقيت من عصر الإمبراطوريات الأوروبية الأسود، ولا شك أيضًا أن قاطني إسرائيل الحاليين يأتون من شرق أوروبا وروسيا وفرنسا وإثيوبيا ومن شتى أركان العالم، ما يربط كل هؤلاء ببعضهم البعض يماثل ما يربطهم ككل بأولاد يعقوب، لا شيء.
إلا أن على المرء أيضًا ألا يغفل دور الأساطير في تأسيس وتحريك الدول، فإن انعدام صلة إسرائيل ومواطنيها ببني يعقوب وتراثهم ليس بأقل من إيمانها وإيمانهم بذلك، وكما نعلم من تجارب كثيرة في تاريخ البشرية كالنازية وغيرها، لا أخطر في هذا العالم من فكرة حمقاء يؤمن بها مجموعة من المجانين.
لا شك في كون الاعتبارات الجيوسياسية والعسكرية هي المحرك الرئيسي للسياسات الإسرائيلية فيما يخص شبه جزيرة سيناء، إلا أن إغفال البُعد الثقافي والديني قد يكون من الخطأ بمكان، فالحرص الإسرائيلي على حرية حركة المواطنين داخل وخارج سيناء لا يمكن إرجاعه إلى الاعتبارات الجيوسياسية والعسكرية فحسب، وبينما يمكن تفسير الحرص على عدم وجود أي حركة تنموية اقتصادية أو اجتماعية من ناحية سياسية وعسكرية، إلا أن البعد الرمزي والأسطوري لهذا الحرص أوضح من أن يغفل.
وقاحة وابتزاز
ففي نهاية الأمر، تبقى سيناء في المخيلة الإسرائيلية كأرض التيه، أرض حرام على كل الناس عدا أولاد يعقوب لما “عانوه” هناك، لأن مجموعة من الأماكن المقدسة لهم قد تواجدت هناك في وقت ما.
هذا المنطق الابتزازي طالما كان محركًا رئيسيًا للسياسة الإسرائيلية، فنحن قد كان لنا في يوم من الأيام وطن في أرض بعيدة، ولذلك على أوروبا أن ترحم عذاباتنا وتعطينا إياه بالقوة، نحن قد أحرقنا وعذبنا في أوروبا بطول الحرب العالمية الثانية، ولذلك سنعمل على تذكير الأوروبيين بذلك عبر الأعمال الأدبية والسينمائية ومتاحف الهولوكوست في كل ركن أوروبي، وسيثبت هذا الأمر نجاحًا مبهرًا عندما نقوم سيادة أي من الدول الأوروبية للقيام بعملية اغتيال أو اختطاف غير قانونية، فما نحن إلا مظاليم ضعفاء ندافع عن وجودنا في حدود قدرتنا.
قامت إسرائيل باستغلال كل فرصة سنحت لتقوم باحتلال شبه جزيرة سيناء عسكريًا، فالخطة كانت في الأصل عدم التخلي عن شبه الجزيرة أبدًا بعد احتلالها الأول في العدوان الثلاثي عام 1956، ولولا التهديد السوفيتي لما تركت إسرائيل سيناء من الأساس، وهو ما حدث بعد الهزيمة الساحقة للجيش المصري عام 1967.
وبالعودة إلى التخيل الإسرائيلي المريض لشبه الجزيرة كأرض حرام، يمكن لنا فهم أحد أكثر الأفعال الإسرائيلية وقاحة في سيناء، إذ تجبر الحكومة الإسرائيلية نظيرتها المصرية على حماية ما يعرف بصخرة ديان من أهل سيناء، تلك الصخرة التي قام الجيش الإسرائيلي بنحتها من جبل موسى وكتابة أسماء طياريه القتلى عليها، تبقى الصخرة قائمة حتى يومنا هذا حاملة العلم الإسرائيلي، في نفس المكان الذي قام الجيش الإسرائيلي بذبح المئات من الأسرى المصريين وأهالي سيناء ودفنهم في مقابر جماعية.
تقف الصخرة لتقول: “هذه أرض حرام على من سواي، هذه أرض عذابي وأرض انتصاري، وأنتم عبيدي، تحمونها لي قهرًا وعدوانًا مني”.