ترجمة وتحرير نون بوست
يتساءل الكثيرون عمّا إذا كان الوقت مناسبًا لنشهد لحظة استقلال إقليم كردستان العراق الذي يتمتع مسبقًا بحكم ذاتي مستقل عن الحكومة المركزية في بغداد، ولكن على أرض الواقع، لا تبدو اللحظة الراهنة ملائمة لاتخاذ قرار الانفصال؛ فالحرب مع داعش، انخفاض أسعار النفط، الحكم المتصلب، وقرب الإفلاس، تسببوا جميعًا بحالة من الاضطراب السياسي والاقتصادي، تعد الأقسى ربما من بين تلك التي واجهها إقليم كردستان العراق على مدى العقد الماضي.
ولكن مع ذلك، يعمل مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، منذ بضعة أشهر لغاية الاستقلال التام؛ فمنذ أواخر العام الماضي، وجّه البارزاني حزبه، الحزب الديمقراطي الكردستاني، للعمل مع نظرائه السياسيين للتحضير لإجراء استفتاء بشأن هذه المسألة.
إلى الشمال الغربي من الإقليم الكردي، عبر الحدود مع تركيا، أحيت الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK) صراعهما المستمر منذ أمد بعيد؛ فمنذ انهيار مفاوضات السلام في الخريف الماضي، هاجم حزب العمال الكردستاني، الذي يتحصن عناصره في المناطق الحضرية، قوات الجيش والشرطة، قللوا من شأن الخسائر في صفوف المدنيين معتبرينها أضرارًا جانبية، وقوضوا بنية خط أنابيب التحتية المهمة، وبالمقابل، شن الجيش التركي حملة مكافحة تمرد مريرة، حصدت عددًا هائلًا من الخسائر البشرية في جميع أنحاء جنوب شرق تركيا.
لا يمتلك حزب العمال الكردستاني سوى حفنة من القواسم المشتركة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني المحافظ الذي يقوده البارزاني، والذي انتهج في السنوات الأخيرة سياسة الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع أنقرة، وعلى صعيد آخر، يتسبب المقاتلون الأكراد في تركيا بأضرار عميقة الأثر على الثروات السياسية لأترابهم في كردستان العراق؛ فالاقتصاد الكردي العراقي، يعتمد بشكل هائل على تصدير الموارد الطبيعية، ويحتاج تركيا للوصول إلى الأسواق الدولية، وإذا انفصل إقليم كردستان عن العراق، ستضطر الدولة الكردية المستقلة للاعتماد على المتبرعين الأتراك بشكل أكبر من اليوم، وطالما استمر العنف في تركيا، ستبقى أنابيب النفط والغاز، التي تشكل العمود الفقري للعلاقات الاقتصادية ما بين إقليم كردستان وتركيا، واقعة تحت التهديد والخطر، ومن هذا المنطلق لن تعمل الأداة الرئيسية للملاءة الاقتصادية لإقليم كردستان العراق، إلا من خلال التطلف المستمر لحزب العمال الكردستاني من خلال تجنبه إحداث الأضرار ببنية أنابيب النفط والغاز التحتية.
بشكل عام، يأتي اعتماد كردستان العراق على تركيا كنتيجة مباشرة للتدهور المطرد في علاقته مع بغداد‘
لذا، وبدلًا من الاستمرار بحملات النفعية السياسية الساعية للاستقلال، سيستفيد البارزاني وحزبه بشكل أكبر في حال تركيزه على التحديات الشاقة التي يرزح تحت وطأتها إقليم كردستان العراق، كالإصلاح الاقتصادي، وضع إستراتيجية عسكرية، وتجديد صيغة العلاقة مع بغداد.
بشكل عام، يأتي اعتماد كردستان العراق على تركيا كنتيجة مباشرة للتدهور المطرد في علاق أكراد العراق مع بغداد؛ فمنذ عام 2007 وحتى عام 2010، سعى إقليم كردستان العراق للإشراف على تنقيب وإنتاج النفط داخل الإقليم، ولكن بيع الإنتاج بشكل مستقل عن بغداد كان حلمًا بعيد المنال؛ لذا كان أكراد العراق مقتنعين تمامًا باتفاقية بيع نفطهم عبر بغداد وتلقي حصتهم المتفق عليها، البالغة 17%، من ميزانية الدولة العراقية سنويًا.
ولكن على مر السنين، أصبحت علاقة الأكراد مع الحكومة المركزية أكثر توجسًا واضطرابًا، وتوقف إقليم كردستان العراق عن بيع النفط من خلال بغداد عندما عمد رئيس الوزراء العراقي حينئذ، نوري المالكي، لإيقاف الدفع لشركات النفط العالمية العاملة في كردستان، ورغم أن الأكراد وبغداد عقدوا العزم على استئناف التعامل في أوائل عام 2011، إلا أن ذلك لم يكسر جمود وانعدام استقرار العلاقة، خاصة في ظل رفض المالكي تمويل قوات البيشمركة الكردية من الميزانية الوطنية، وقيامه بشكل متكرر بانتقاص حصة الأكراد البالغة 17%.
أسفر الفشل في تشريع قانون وطني للنفط والغاز إلى محاولة إقليم كردستان العراق لاستكشاف سبل لبيع وتصدير النفط بشكل مستقل، وتحقق حلم الإقليم بذلك أخيرًا في نهاية عام 2013 من خلال خط الأنابيب الجديد، وعندما انتقمت بغداد ضد أول مبيع مستقل لنفط الأكراد في عام 2014 من خلال وقف جميع المدفوعات المخصصة لإقليم كردستان العراق، أصبحت تركيا شريكًا لا غنى عنه للأكراد، حيث تم بيع النفط الكردي من ميناء جيهان التركي وتولى البنك المملوك للدولة التركية معالجة المعاملات المطلوبة.
بالتوازي مع انهيار علاقة كردستان العراق مع حكومة بغداد، تعمقت العلاقة بين مسعود بارزاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث عملا على تطوير العلاقات الاقتصادية المزروعة منذ عام 2007، ومن ذلك حضور أردوغان لافتتاح القنصلية التركية في كردستان العراق ولافتتاح مطار أربيل الدولي في عام 2011، فضلًا عن الزيارة التاريخية المشتركة لأردوغان والبارزاني في عام 2013 لولاية ديار بكر، في الوقت الذي أُعيد فيه إحياء المفاوضات بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني.
فضلًا عما تقدم، تتشاطر الحكومة التركية والحزب الديمقراطي الكردستاني قدرًا من التوافق حول الصراع السوري، فكلاهما يعارض حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، وفي الوقت الذي ينظر فيه أردوغان لحزب الاتحاد الديمقراطي باعتباره مجرد امتداد لحزب العمال الكردستاني، يتعارض الحزب الديمقراطي الكردستاني مع كلًا من حزبي الاتحاد الديمقراطي والعمال الكردستاني لنفوذهما السياسي في المناطق الكردية في سوريا والعراق، حيث يشعر حزب البارزاني بالتهديد من دعم الولايات المتحدة لحزب الاتحاد الديمقراطي، الأمر الذي يهدد، وفقًا لنظرة البارزاني، الموقع المتفوق لكردستان العراق باعتبارها الكيان الكردي الوحيد الذي يتمتع بعلاقة إستراتيجية مع الولايات المتحدة.
وهكذا، وتحت قيادة حزب البارزاني، تحوّلت تركيا لتصبح الشريك الأول لكردستان العراق، وما كان ينظر إليه كأمر صادم في عام 2009 أصبح حقيقة واقعة في عام 2016.
رغم كل ما تقدم، لم تجرِ الرياح بما يشتهيه أكراد العراق، حيث أدى تعثر أسعار النفط في منتصف عام 2014 إلى تفاقم الاضطراب الاقتصادي في المنطقة، ونتيجة لعدم تدارك كردستان العراق لواقع اعتمادها المفرط على عائدات النفط، تخفيض نفقات القطاع العام الباهظة، ومعالجة نظام المحسوبية السياسية الفاسد، انحدر الإقليم نحو حافة الإعسار، وولّدت التأخيرات في دفع المستحقات والتخفيضات التي فُرضت على رواتب موظفي القطاع العام استياءًا شعبيًا واسعًا، مما أدى إلى قيام احتجاجات دورية في شوارع السليمانية، تحولت إلى أحداث عنف في أكتوبر الماضي.
جرّاء تلك الأحداث، فرضت الحكومة في أربيل تدابير التقشف وباشرت متأخرة بالتحدث عن الحاجة للإصلاح الهيكلي، ولكن الأزمة الاقتصادية ترافقت بأخرى سياسية؛ ففي أغسطس الماضي، انتهت فترة ولاية البارزاني الرئاسية من الناحية القانونية، بدون وجود أي خطة جاهزة لخلافته، خاصة بعد أن تم تمديد ولايته مسبقًا في عام 2013 من خلال تسوية سياسية ما بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وأهم منافسيه السياسيين، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ولكن بعد اتخاذ القرار بالتمديد، حلت حركة كوران “حركة التغيير الكردية”، وهي مجموعة من الإصلاحيين المعارضين لهيمنة الحزبين الرئيسيين على السلطة، محل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني كثاني أقوى حزب في كردستان العراق.
جادل الحزب الديمقراطي الكردستاني بأن الظروف الموهنة للحرب مع داعش والأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها الإقليم، تستوجب التمديد للرئيس خارج إطار القانون مرة أخرى، ولكن كوران كان أقل استيعابًا من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، حيث أصرّ رئيس البرلمان، يوسف محمد، وبرلمانيو كوران التابعون له، على عدم قانونية أي تمديد آخر، مقترحين إجراء انتخابات مبكرة، رغم إصرار لجنة الانتخابات الكردية بأن الاستعداد لها سيحتاج إلى ستة أشهر على الأقل، وأمام هذا الوضع كانت المفاوضات تمثل الطريق الوحيد للمضي قدمًا.
رغم جميع العقبات السياسية والتدهورات الاقتصادية التي يعاني منها إقليم كردستان العراق، جدد البارزاني مؤخرًا الدعوة لإجراء استفتاء على استقلال الإقليم
ولكن الحزب الديمقراطي الكردستاني أوصد الباب في وجه المفاوضات من خلال قيام قوات الأمن في أكتوبر بمنع محمد من دخول العاصمة، فضلًا عن قيام رئيس الوزراء نيجيرفان البارزاني بإقالة وزراء كوران من الحكومة الائتلافية، مما أسفر عن تشدد كوران في موقفهم المعارض لتمديد رئاسة البارزاني، لتبقى الأزمة السياسية أمام طريق مسدود منذ ذلك الحين.
في غضون ذلك، جدد الرئيس البارزاني دعوته لإجراء استفتاء على الاستقلال، حيث كلّف حزبه في اجتماعات قيادة الحزب في ديسمبر الماضي بالعمل مع الأحزاب الأخرى لإجراء الاستفتاء، وكرر هذه الدعوات منذ ذلك الحين، ويبدو بأن التوقيت الذي اختاره البارزاني لإعادة تجديد هذه الدعوات دفع الصحفي المخضرم أمبرين زمان لسؤاله في مقابلة أُجريت معه مؤخرًا فيما إذا كانت الدعوة للاستفتاء تعبر عن مشاعر صادقة أم هي مجرد مناورة لاستثارة الحماسة الوطنية وصرف النظر عن الأزمات الداخلية، وحينها رد البارزاني بحزن: “هل تعتقد حقًا بأنني سأستغل مثل هذه القضية الحرجة بغية تأمين مستقبلي السياسي؟”.
على الرغم من أن الاستقلال سيرضي القومية الكردية الطاغية لأكراد العراق، إلا أنه سيخلق طائفة من التحديات الجديدة؛ فالمناطق والموارد المتنازع عليها، تداول السلطة العراقية والمسؤولية، وإعادة تعريف العلاقة مع بغداد، ليست سوى رأس قائمة طويلة من التحديات، وفضلًا عن ذلك ستواجه كردستان أيضًا تقلصًا جذريًا في سوقها المحلية، حيث سينخفض عدد المستهلكين من أكثر من 35 مليون عراقي إلى عدد مواطني كردستان العراق فقط البالغ 6 ملايين نسمة، وعلى الرغم من أن بغداد وأربيل لا تتمعان اليوم بعلاقة ودودة، إلا أن الاستقلال سيسفر على الأرجح عن خلق حواجز داخلية، وعلى المدى القريب، ستصبح كردستان أكثر اعتمادًا على مواردها الطبيعية والتجارة عبر الحدود مع تركيا لتحقيق الملاءة المالية والبقاء.
على صعيد آخر، شهد إقليم كردستان العراق فوائد جمة من إعادة إحياء المفاوضات بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، حيث ازدهرت التجارة الرسمية وغير الرسمية؛ فقبل سبتمبر 2015، التاريخ الذي استؤنف فيه النزاع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، كان أكراد العراق يضخون أكثر من 600,000 برميل نفط يوميًا إلى ميناء جيهان، ولكن تلك الأيام ولّت بلا رجعة، فالجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني رسخت نفسها في المناطق الحضرية في جنوب شرق تركيا، كما ردت الحكومة التركية بحملة مكافحة تمرد عسكرية طاحنة، دمرت فيها البلدات، شردت السكان، وعطّلت جميع جوانب الحياة اليومية.
كيف يمكن أن تحيا دولة غير ساحلية تعتمد على تصدير الموارد الطبيعية من خلال ممر ابتلي بالصراع العنيف؟‘
في 18 فبراير المنصرم، تم تخريب خط أنابيب كركوك- جيهان الذي ينقل النفط الخام الكردي العراقي، وبقي خط الأنابيب معطلًا لأسابيع، مكلفًا كردستان العراق، التي تعاني بالفعل من انخفاض أسعار النفط وشبه الإفلاس، مبالغ ضخمة من المال، وفي هذا السياق، نفى حزب العمال الكردستاني مسؤوليته عن التخريب، ولكن أكراد العراق والحكومة التركية يرون خلاف ذلك، خاصة وأن الهجوم على الأنبوب يحمل البصمات القديمة لتكتيك حزب العمال الكردستاني.
يصعب علينا أن ننكر رغبة حزب العمال الكردستاني بإرسال رسالة إلى كردستان العراق وتركيا، حيث عارض متشددوه منذ فترة طويلة العلاقات الودية التي تجمع البارزاني وحكومات أردوغان، وهذه الهجمات هي تذكير على أن حزب العمال الكردستاني ومؤيديه المحليين، ومن خلال البقعة الإستراتيجية التي يحتلونها ما بين إقليم كردستان العراق وتركيا، قادرون على تصعيب الحياة على الأكراد العراقيين.
من هذا المنطلق، يبدو من المنصف أن نتساءل حول ما يعنيه استقلال كردستان العراق في سياق هذا العنف الدائم، وكيف يمكن أن تحيا دولة غير ساحلية تعتمد على تصدير الموارد الطبيعية من خلال ممر ابتلي بالصراع العنيف؟ وضع حد للاشتباكات بين تركيا وحزب العمال الكردستاني وعودة الجانبين إلى طاولة المفاوضات يصب مباشرة في مصلحة إقليم كردستان العراق، ولكن من خلال استثمارهم فقط في علاقتهم مع حكومة أردوغان، قلل أكراد العراق من أي تأثير ربما كانوا يحظون به للتوسط لإنهاء العنف الذي يقوض مصالحهم.
في هذه المرحلة يمكن لإقليم كردستان العراق أن يتخذ خطوات هامة لإعادة تموضعه كمسهّل ووسيط في الصراع ما بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، حيث يجب على حكومة البارزاني أن تُقرّ بتفوق حزب الاتحاد الديمقراطي في كردستان السورية للحد من عدم الثقة بين الطرفين، كما يجب عليها نزع فتيل الأعمال العدائية السافرة التي تمارسها ضد حزب العمال الكردستاني والبحث عن فرص لتشجيع كل من المسلحين الأكراد وحكومة أردوغان لاستئناف مفاوضات السلام، ناهيك عن وجوب سعي البارزاني أيضًا لإعادة الانخراط بالعلاقة مع الحكومة في بغداد، التي يجب أن تظل شريكًا إقليميًا أساسيًا لأكراد العراق، ولكن بدلًا من ذلك كله، يستمر البارزاني في دعوته من أجل الاستقلال، وهي الخطوة التي تستجيب لمصالح الحكومة التركية.
تكمن المفارقة هنا بأن البارزاني يحلم منذ فترة طويلة في أن يصبح قائدًا ملهمًا وكاريزميًا كوالده الملا مصطفى بارزاني، الأب المؤسس للقومية الكردية، وعلى الرغم من أن أفضل طريقة لتحقيق تلك المكانة المقدسة تتمثل بالتوسط لإبرام اتفاقات تاريخية ما بين تركيا وحزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي، إلا أن البارزاني ما زال يطارد الحلم المتسرع وغير المحسوب للاستقلال الكردي.
المصدر: فورين بوليسي