لا يخفى على أي من المحللين السياسيين الآن أن الوضع السياسي العربي بات في حال سيولة مربكة، بعد أزمات الربيع العربي المتتالية، وتداعياتها بسوريا التي سقطت طوعا في فخ الطائفية الإيرانية، بعد نظيرتها العراق التي سلمها الاحتلال الأمريكي جاهزة لإيران، خصوصا وأن القطبين الكبيرين تاريخيا “سوريا والعراق”، كانا من أهم أقطاب التحالفات العربية السابقة، سواء مجتمعين مع السعودية ومصر أو سوريا منفردة وقت الفلتان العراقي وخلال حرب الخليج الثانية.
أحداث متسارعة
الآن هناك تحالفات تنهار، وأخرى تتشكل، وبدأت تظهر بشكل ملح الحاجة إلى تحالف يضبط إيقاع الأحداث المتسارعة، ويمنعها من الخروج أكثر عن السيطرة، بعد الحالتين العراقية والسورية والآن اليمن، وتدرك الدول الفاعلة بالمنطقة أن طهران تعمل على إطالة زمن هذه المرحلة المربكة؛ لإضعاف الدولة في العراق وسورية، لتعميق نفوذها هناك، وعليه فعلى الدول الأهم إقليميا الآن مثل السعودية وتركيا ومعها مصر، مع دور ليس هينا للشريك القطري، العمل على وقف تلك المحاولات الإيرانية، وعليها السعي بقوة سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا، لاستعادة العراق بوصفه دولة عربية مستقلة، كما كانت عليه قبل التدخل الإيراني، وإخراج النفوذ الإيراني من سورية؛ حفاظاً على عروبتها واستقلالها أيضاً ووأد محاولاتها في اليمن.
إلى أي مدى يمكن أن يظهر للعلن الآن تحالف سعودي تركي مصري قطري، رغم الخلافات البينية بين الرباعي في التوجهات الخارجية
هنا قد يتساءل البعض: إلى أي مدى يمكن أن يظهر للعلن الآن تحالف سعودي تركي مصري قطري، رغم الخلافات البينية بين الرباعي في التوجهات الخارجية، فالسعودية ترى أن مشكلة سوريا تتعلق بالنفوذ الإيراني بها، فيما ترى تركيا أن أزمة سوريا في تواجد النظام نفسه، وتداعياته على ملف الأكراد، بينما تعمل مصر وفق علاقتها التاريخية الكبيرة مع روسيا على الإمساك بالعصى من المنتصف، فيما ترى قطر أن منجزها الإقليمي يتمثل في إنهاء الوضع السوري لصالح القوى الإسلامية المسلحة المعادية لبشار هناك، والتي تمولها الدوحة بكل قوة.
جدليات قديمة
الأهداف هنا جد متشعبة وليست متداخلة بين الرباعي، لكن برؤية أكثر تحليلية يعمل الجميع في الرياض وأنقرة والقاهرة والدوحة، وفق مخطط أشمل بعيدا عن جدلية الشرعية والدعم الميلشياتي ورغبات القيادة، ولم تبق عناوين “شرعية النظام” و”التدخل في الشؤون الداخلية” و”الأمن القومي العربي” مهمة للسلامة العربية، بعد سقوط العراق وسوريا، وبات الجميع في حاجة للدور المصري مثله مثل نظيره التركي والسعودي والتأثير القطري؛ لمواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد، خصوصا بعد رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران منتصف يناير 2016.
يدعم تلك الفرضية مؤخرا، التغيرات الاقتصادية المصاحبة لهبوط أسعار النفط القياسية، بالإضافة إلى حالة الاستقطاب الاقتصادي بين تركيا وروسيا.
قد يرى البعض أن تحالفا سعوديا تركيا معهما قطر الأقرب للتحقق، في ظل ما تعانيه مصر الآن من ارتباك واضح على مستوييها الداخلي والإقليمي، لكن هذا التصور قضت عليه الزيارة الأخيرة للعاهل السعودي الملك سلمان للقاهرة، والتي استمرت خمسة أيام كاملة، يراها المراقبون نقلة تاريخية تنهي جدلية الأزمة المكتومة بين النظامين، فيما كان للقاء الرئيس التركي رجب أردوغان مع نظيره الإيراني روحاني بعد القمة الإسلامية بأنقرة، أسوأ الأثر على الموقف السعودي ثم الخليجي أجمع من الأزمة مع إيران.
محرمات تاريخية
برؤية متابعي المشهد السياسي العربي والإقليمي بمنطقة الشرق الأوسط، تبدوا الساحة اليوم تعكس الحاجة إلى هذا التحالف بعد التغيرات التي عصفت بالمنطقة منذ ثورات الربيع العربي، فقبل ذلك بسنوات قليلة كانت فكرة تحالف دولة أو مجموعة دول عربية مع إحدى دول الجوار نوعاً من المحرمات القومية، قياسا على استقرار وتوازن الأنظمة العربية الفاعلة وقتها، لكن شكلت لحظة سقوط العراق والأزمة في شوريا بداية سقوط حرمة هذه التحالفات، بل وحتى الخضوع لنفوذ إحدى دول الجوار العربي، وهو ما ظهر بالحالة الإيرانية بالعراق ثم سوريا، خصوصا أنه مع هذا الانهيارات المتتالية، دخلت المنطقة مرحلة حروب طائفية، وتدخلات خارجية، واضطراب في الأمن، وسقوط أنظمة، وتهديدات بالتقسيم، وعادت كما كانت بعد الحرب العالمية الأولى، أنظمة تبحث عن ذاتها وتعمق تقوقعها للحفاظ فقط على حدودها، وهو ما يفرض تساؤل هام الآن، هل يمكن تشكيل تحالف طائفي في مواجهة التحالف الشيعي الذي تقوده إيران؟.
جدلية الإخوان
الإجابة على هذا الطرح تقضي بأن المملكة – القائدة لفكرة التحالف – ليست دولة دينية مثل إيران، فهي تعتمد في سياستها الخارجية ودورها الإقليمي على المصلحة السياسية الوطنية والعربية، بدليل شبكة تحالفاتها التي شملت وتشمل دولاً عربية وغير عربية، وإسلامية وغير إسلامية، وسنية وشيعية، أما تركيا فهي دولة ليست دينية صرفة، بل هي دولة علمانية بنسق إسلامي ديمقراطي وغالبية سنية، وتقترب منها مصر وقطر في نقطة علمانية إدارة الدولة، وبالتالي يمكننا دحض فكرة طائفية التحالف، لكنها لن تخرج عن التحالف التكاملي في العناصر الاقتصادية والسياسية، والتنسيق بينها داخل مثلث إقليمي تضاف له قطر، يعيد إلى المنطقة شيئاً من التوازن بعد سقوط العراق وسورية، إلى جانب أنه سيشكل حاجزاً للدور الإيراني المدمر للعالم العربي، ومنطلقاً للتأسيس لحال من الاستقرار.
لكن، كيف يمكن لمصر في عهد النظام الحالي بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، أن تنضوي تحت راية تحالف واحد مع كل من قطر وتركيا؟ فالأمر لا يبدو يسيرا، خاصة إذا ما استحضرنا الموقف المصري المعادي للدور التركي، والمتعارض مع الدور القطري، وغير المتلاقي أحيانا مع السياسة السعودية في سوريا واليمن، قياسا على أن النظام في مصر ينظر للتهديد الإخواني كتهديد وجودي، بينما تعتبره السعودية تهديدا نسبيا مقارنة بالخطر الإيراني، بينما ترى تركيا فيما حدث للإخوان بمصر نوعا من الظلم يجب رده.
تقارب على استحياء
لكن في الخفاء بدأت بوادر تصالح سياسي بين أنقرة والقاهرة في الظهور، تمثلت في زيارات متبادلة بين مسؤولين أمنيين ودبلوماسيين من كلا البلدين، رغم الشكل غير اللائق دبلوماسيا، والذي ظهر جليا في عدم مشاركة الرئيس المصري في قمة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، وانسحاب وزير الخارجية المصري بعد إلقائه لخطاب تسليم بلاده الرئاسة الدورية لتركيا، متحاشيا اللقاء المباشر بأردوغان، وهو تأكيدا لحقيقة أن التحالفات الاستراتيجية بين الدول لا تفرضها الظروف التاريخية فقط، ولا الأيديولوجية فحسب، بل هي مزيج بينهما لإنتاج حاجة سياسية للمحافظة على المصالح في شكلها الاقتصادي والسيادي، بل والوجودي أحيانا، واستراتيجية الحاجة تستحضر التاريخ والأيدولوجية، لصالح ميلاد هذا التحالف الرباعي المهم.
السيناريوهات المتوقعة
خلاصة الأمر أن المنطقة تتجه إلى سيناريوهين اثنين لا ثالث لهما، الأول تدفعه تداعيات التدخل الروسي الإيراني بقوة في الأوضاع في سوريا، والذي أدى بدوره إلى تحقيق بعض المكاسب على الأرض لصالح نظام بشار الأسد، وكذلك زيادة التوتر بين إيران والسعودية عقب قطع العلاقات بين البلدين، على خلفية إعدام رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر بتهم الإرهاب، ما يعني أن الأطراف الثلاثة مصر والسعودية وتركيا ومن خلفهما قطر ، ستعمل على دفع التعاون الإستراتيجي بينهم، للوصول إلى أقصى درجات التعاون، لحاجة الجميع لهذا التحالف والإبقاء عليه، وهو التحالف الذي يضع نصب عينيه أولا حل الأزمة السورية، بما يحقق أهدافه على أجندة الأولويات، وفق مقررات جنيف 1، مع اختلاف مصري بسيط حول الأمر، يمكن بنوع من الضغط السعودي التجاوز عنه، أما الجانب التركي وأزمته مع مصر، فيمكن حلحلتها باستغلال رغبة تركيا في الانفتاح على المحيط العربي والإسلامي مؤخرا، للروابط التاريخية والأيدلوجية التي تربط أنقرة بهذا المحيط، وتحتاجه المملكة الآن بعد الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، الذي كان مؤشراً مهماً للساسة السعوديين في الرغبة في البحث عن حليف قوى في المنطقة يعيد التوازن بين إيران والدول العربية خاصة، بعد تأكيدات الرئيس الأميركي بارك أوباما في قمة كامب ديفيد الخليجية التي عقدت في مايو 2015، بحضور ممثلين عن دول مجلس التعاون الخليجي الست، على رغبة الولايات المتحدة ، بشكل واضح، بالتخلي عن مواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة، وترك هذا الدور لدول المنطقة.
المعوقات حاضرة
ما يعيق إمكانية تحقق هذا السيناريو هو الخلاف المصري التركي حول ملف الإخوان، الذي يشكل تباين كبير في وجهات النظر بين الرياض وأنقرة، خاصة مع تمسك أنقرة بموقفها بشأن الاعتراف بشرعية عبدالفتاح السيسي قبل الشروط الأربعة، والتي يعد من أبزرها الإفراج عن الرئيس المعزول محمد مرسي، والإفراج عن كل المعتقلين السياسيين، وعلى الطرف الآخر تقدم الرياض الدعم السياسي والاقتصادي للنظام المصري الحالي، وهذا التباين قد يشكل عقبة كبرى في طريق زيادة التعاون بين الثلاثي القاهرة وأنقرة والرياض، ما يعني الحاجة للقاء حاسم بين الدولتين العربيتين الكبيرتين مصر والسعودية لتنسيق المواقف والسياسات، وهو ما يظن الجميع أنه حدث خلال زيارة الملك سلمان الأخيرة للقاهرة.
أما السيناريو الثاني، فيقول بتراجع إمكانية نجاح هذا التحالف، مستندا إلى أن هناك اختلاف في بعض الملفات المهمة والحيوية بين الثلاثة الكبار السعودية ومصر وتركيا، وحتى اذا ما تم التوافق بينهما حول عدة قضايا، ستظل بعض هذه الملفات تمثل هاجساً للعودة إلى نقطة البداية بين جميع الأطراف، وتراجع التعاون بينهم، مثل ملف الإخوان المسلمين، التي وضعتها المملكة ومصر على قوائم الإرهاب، والتي تعد المرجعية الفكرية للحزب الحاكم في تركيا ، فيما يمثل الملف اليمني عائق آخر حيث لا ترى أنقرة أن لها مصالح حيوية في الحرب التي تتزعمها السعودية في اليمن، ضد مسلحي الحوثي وأنصار الرئيس اليمني المخلوع على عبدالله صالح، وتعتبرها الرياض، حربها الأهم للقضاء على نفوذ إيران في الجار اليمني القريب.
يمكن القول أن البراجماتية السياسية بين الأنظمة الثلاثة قد تتدخل لحسم الموقف؛ كون الحالة التى يمر بها الإقليم تفرض على الجميع حتمية التحالف
هنا يمكن القول أن البراجماتية السياسية بين الأنظمة الثلاثة قد تتدخل لحسم الموقف؛ كون الحالة التى يمر بها الإقليم تفرض على الجميع حتمية التحالف، حتى ولو على المستوى المتدني؛ نظراً لتداخل الملفات بشكل كبير، وسعى كل طرف إلى تعظيم مصالحه، دون التأثير على مصالح الطرف الأخر، والتدخل في شؤونه، فالسعودية نجحت في أن تتعامل مع روسيا وتجبرها على الجلوس على طاولة المفاوضات فيما يخص سوريا، رغم تباين وجهات النظر بشكل كبير بينهما في ذات الملف، وأيضا تتعامل تركيا في الحدود التي تعظم مصالحها مع إيران، رغم الخلاف القائم بين الرياض وأنقرة، فيما تسعى القاهرة الآن عبر وسطاء بتحالف دعم الشرعية لإجراء مصالحات مع قادة جماعة الإخوان، أو على الأقل تقليل التوتر بين الجانبين، وهو ما تقبل به تركيا على المستوى الأدنى من متطلباتها للتعاون مع النظام المصري، فيما لا تخشاه المملكة، كونه يبقي على الوضع كما هو عليه بالنسبة لتأمينها وجوديا، في ظل حالة الرعب التي تجتاحها من تمدد حكم الإسلاميين بالدول المجاورة.