بالرغم من أن صحتها ما زالت جيدة ومفعمة بالحياة، كانت السيدة شيا –من إحدى المدن الصينية- قد قامت بإعداد ملابسها التي ستُدفن بها، يبلغ عمرالسيدة شيا 86 عاما، لكنها مازالت مفعمة بالحيوية، حيث تقوم بإعداد الطعام لأصدقائها في المعبد البوذي المحلي وتشاركهم في التراتيل، لقد قامت بشراء جميع ما سترتديه بعد وفاتها وقامت بتجهيز الصورة التي سيتم عرضها في الجنازة ووضعتهم جميعا في صندوق كرتوني بانتظار وفاتها.
بالنسبة للكثيرين في الغرب، فشراء ملابس جنازتك أمر حزين ومهيب، لكن شيا وأصدقائها يرون أنه أمر يدعوا للاطمئنان والاحتفال أيضا.
وتخبر امرأة صينية أخرى بيكي هسو –أستاذ مساعد علم الاجتماع بجامعة جورج تاون- “إنه شيء مبهج، فالجميع يفعلون ذلك، لقد اشتريت ملابس جنازتي منذ 10 سنوات”
في تقريرها عن السعادة، كتب آنا سوانسون على موقع “المنتدى الاقتصادي الدولي” أن مفهوم السعادة يختلف من بلد لآخر، وأن وضع تعريف للسعادة ينطبق على جميع الأشخاص في كل أنحاء العالم لا يبدو أمرا بسيطا.
في كل عام، يقوم مجموعة من علماء الاجتماع والعاملين بالاستقصاء من عدة دول بسؤال الناس عن السعادة، وفي تلك الاستطلاعات تقوم مراكز مثل مركز”Pew” و “World Values Survey” والأمم المتحدة، بقياس وترتيب الدول حسب مستوى الرفاهية.
أحد أهداف تلك الدراسات هو اكتشاف مكونات المجتمع السعيد، ويقول النقاد أن المقياس الذي تستخدمه معظم الدول لمتابعة تقدمها –إجمالي الناتج المحلي- يستبعد بعض من أهم أجزاء الحياة الإنسانية، فإجمالي الناتج المحلي لا يميز، على سبيل المثال، بين ال 10 ملايين دولار التي يحصل علبها من قطع أشجار الغابات، وال 10 ملايين دولار التي يحصل عليها من اكتشاف دواء جديد للسرطان، لكن فيما يتعلق بالرفاهية والسعادة، يستطيع الباحثون المساعدة بتوجيه الحكومات المحلية والوطنية في صنع سياسات واتباع نوع من التنمية الإقتصادية يعود بالفائدة على الناس بشكل أكبر.
تقول تلك الدراسات أن أحد أهم مكونات السعادة، هي الثروة، فالدول الغنية تميل إلى مستوى معيشي أعلى ورعاية صحية وتعليم أفضل وبيئة نظيفة ودعم للأسر أكثر من الدول الفقيرة.
لكن الثروة ليست العامل الوحيد، حيث تحاول أبحاث السعادة معرفة الأشياء التي تتغاضى عنها المقاييس الإقتصادية المشتركة، مثل البيئة المستدامة، التقدم الاجتماعي، النمو الشخصي وقبول الذات.
يشير النقاد إلى أن الدراسات المختلفة تعطي نتائج مختلفة إلى حد كبير، ونتائج مدهشة أحيانا، ويتساءلون حقا إذا كانت تلك الدراسات تقوم بقياس السعادة أم شئ آخر.
تقول هسو “من الصعب أن أقول أي الأسئلة يمكنها قياس ذلك، فسؤال مثل ما هو مستوى سعادتك من 1 إلى 5؟ هو سؤال لديه الكثير من المشاكل”، ولعل أكبر مشكلة هي اختلاف مفهوم السعادة في ثقافات ولغات مختلفة.
ففي اللغة الإنجليزية، تشير كلمة السعادة إلى أشياء مختلفة، فقد تعني ذلك المزاج العابر الذي تشعر به عندما يفاجئك شخص ما بهدية أو عندما تفكر في أهلك وأصدقائك، وربما يشير إلى حالة أعمق من الرضا عن الحياة، لكن اللغات المختلفة لا تشير إلى السعادة بنفس الطريقة، حسب البحث الذي نشرته “المجلة الدولية للغة والثقافة”.
فعلى سبيل المثال، تعتبر الدنمارك من أسعد دول العالم، وهو يبدو أمرا غامضا بالنسبة لهؤلاء الذين عاشوا بين سكان الدنمارك المحليين، وتقول الأبحاث أن السبب في ذلك هو أن مفهوم السعادة في الدنمارك يتم ترجمته إلى كلمة “lykke” وهو مصطلح يصف أنواع الرفاهية اليومية مثل فنجان من القهوة أو شريحة خبز مع الجبن، بينما يرى باحثون آخرون أن تلك النتائج تعود إلى عزوف ثقافي من مشاركة الغرباء بمشاكلهم.
تشير الدراسات الأخرى إلى أن المتحدثون بالألمانية والبولندية والفرنسية والروسية يستخدمون كلمة السعادة للإشارة إلى حالة مختلفة عن المصطلح الإنجليزي والدنماركي، ويرى الباحثون أن مصطلح السعادة ينطوي على دور أكبر لجلب الحظ والثروة وهو المصطلح الأقرب للإنجليزية القديمة.
تقوم هسو وزملاؤها بإجراء بحثهم عن السعادة في الصين، ويركز البحث على ثلاث أبعاد للسعادة: المزاج الجيد والحياة الجيدة والشعور بمعنى الحياة.
توضح هسو في مخططها أن كلمة السعادة في اللغة الإنجليزية تشكل جزء فقط من تلك الأبعاد، فكلمة “xingfu” الصينية لا تشير إلى المزاج الجيد لكنها تشير إلى الحياة الجيدة والحياة ذات معنى.
وفي الصين هذ الأبعاد الثلاث يمكن ترجمتها إلى ثلاث كلمات، كما تقول هسو، فكلمة “xingfu” تعني الحياة الجيدة، وكلمة “yiyifor” تشير لحياة ذات معنى، وكلمة “kuaile” للمزاج الجيد، وباستخدام تلك الكلمات الثلاث، قد يتمكن الباحثون من قياس أبعاد السعادة في اللغة الصينية.
تقول هسو، هناك مشكلة أخرى شائعة تتعلق بأبحاث السعادة، وهي أنها تتأثر بشدة بالعلوم الاجتماعية الغربية خاصة الاقتصاد، والتي ترتبط بوجهة نظر فردية ونفعية للحياة البشرية، فبالنسبة للأمريكين خصوصا، فكرة السعي لتحقيق السعادة، كما هو منصوص عليها في إعلان الاستقلال، ترتبط غالبا بالحرية الشخصية والفردية.
حيث تميل الاستطلاعات الغربية إلى سؤال الشخص منفردا وتجاهل علاقاته، بالرغم من أن كثير من الأبحاث اليوم تشير إلى أن العلاقات الاجتماعية من أهم عوامل سعادة الفرد.
قد لا يقوم المنهج الغربي بقياس السعادة بشكل جيد في الصين وفي الدول الأخرى التي تعلو فيها مرتبة الاهتمامات الاجتماعية العائلية على الفردية، لذا فأبحاث هسو تقوم بالتركيز بشكل أكبر على العلاقات الاجتماعية، فهي تسأل الناس مع من تناولوا العشاء أمس، وهل مكان ممتعا؟ ولمن منحوا المال في الشهر الماضي؟
قد يبدو الأمر غريبا، لكن التركيز على الأسرة قد يساعدنا على فهم هذ المشاعر القوية للسيدة شيا وصديقاتها حول ملابس الدفن، فالصينيون لديهم شعور قوي من الارتباط بأفراد العائلة حتى الأجداد الذين رحلوا، فلديهم مواقف مختلفة وأقل سلبية تجاه الموت، كما تقول أبحاث هسو، وهذا التواصل القوي بين الأموات والأحياء هو أحد الأسباب التي تجعل الاستعداد للدفن حدثا سعيدا.
وتشير هسو إلى أن كثير من الأسر الصينية تتفاعل مع الموتى من خلال الطقوس التي تعطي شعورا بالاتصال القريب مع الشخص الميت، فمثلا تقوم العائلات بزيارة المقابر في العطلات للصلاة، ويقومون بحرق النقود الورقية وملابس ورقية وأشياء أخرى يعتقدون أن الميت قد يحتاجها في حياته الأخرى.
لذا فالموت ينطوي على أكثر من معنى للاستمرارية مع الأجداد وأفراد الأسرة، وذلك بخلاف ما يحدث في أمريكا حيث نادرا ما يتم النظر للموت تلك النظر الإيجابية. بالنسبة للعديد من الناس في الصين، فالحياة السعيدة تتضمن وفاة جيدة، بما في ذلك الإعداد لكل شيء حتى ملابسك.
“ليس الموت في حد ذاته هو الشيء الجيد، لكنها الحياة ما بعد الموت” تقول هسو، وتضيف “لذا فإن أردت أن تحصل على حياة جيدة بعد الموت، فجيب الاعداد لذلك جيدا”