على أطلال دولة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وشعب يحتضر، ومستقبل ملبد بالغيوم، دخل اليمنيون جولة جديدة من المفاوضات – البروتوكولية – تحت رعاية دولة الكويت، بعد خمس سنوات من النزيف المتواصل في الموارد المادية والبشرية، على أمل الخروج من عنق الزجاجة، واستعادة الملايين من الشعب اليمني الأمل في إشراقه أفضل، وقادم أكثر رحمة بهم من واقع أذاق الجميع مرارة اليأس والخضوع والاستسلام.
مفاوضات اعتبرها البعض “استراحة محارب”، بينما علق عليها آخرون الآمال في انفراجة قريبة، إلا أن الملفت للنظر خلال أيام انعقادها وكواليس ما قبل الانعقاد أن الأمور تسير عكس عقارب الساعة، وأن الأحلام سريعًا ما تتبخر على أصوات الجدل الصاخبة وعدم الاتفاق الفاضح الذي بانت ملامحه سريعًا على مائدة المفاوضات.
الحوثيون وأنصار علي عبد الله صالح المدعومون إيرانيًا، جاءوا إلى هذه المفاوضات وليس أمامهم سوى هدف واحد حتى وإن تشعبت الأهداف المعلنة إعلاميًا، ألا وهو “شرعنة” وجودهم وصراعهم، والحفاظ على مكتسبات الحرب حتى الآن مهما كانت خسائرهم، ومن ثم فلا يعنيهم ما يمكن أن تؤول إليه المفاوضات من نجاح أو فشل، يكفيهم أنهم تحولوا في أقل من عامين من مجرد متمردين مطاردين في صورة عصابات وتشكيلات مسلحة، إلى مشاركين سياسيين يجلسون وجهًا لوجه أمام الحكومة اليمنية ورئيسها.
بينما جاءت حكومة اليمن المدعومة سعوديًا وهي محملة بالعديد من الأهداف التي تسعى لتحقيقها من وراء هذه الجولة الجديدة من المفاوضات، فوقف إطلاق النار ومن ثم إبطاء نزيف الخسائر المادية والبشرية، واستعادة السيطرة على صنعاء وبقية المدن، وإثبات حسن نواياها دوليًا، فيما يتعلق بحرصها على السلام، وحلحلة الأزمة، أبرز الأهداف التي تسعى إليها، فهل ينجح فرقاء اليمن في الخروج من هذه الجولة ببصيص أمل في وقف قطار الحرب الأهلية المشتعلة؟ أم يكتفي الحوثيون بانتصار “شرعنة” وجودهم السياسي مع الإصرار على رفض الإملاءات الأممية؟
مفاوضات الكويت… لماذا ولدت ضعيفة؟
“إنها لمحادثات مفصلية في مرحلة حساسة من التاريخ اليمني ونحن اليوم أقرب إلى السلام من أي وقت مضى، وأنتم وحدكم بإمكانكم أن تعيدوا لليمنيين الأمل والاستقرار وأن تجعلوا اليمن سعيدًا كما كان”، بهذه الكلمات أستهل المبعوث الأممي ولد الشيخ، كلمته الافتتاحية في بدء مفاوضات السلام اليمنية بالكويت.
المبعوث الأممي عبر عن تفاؤله الشديد إزاء ما يمكن أن تسفر عنه هذه الجولة من المفاوضات، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك تمامًا، حيث ولدت هذه المفاوضات بـ “عيب خلقي” يجعل من اكتمال نضجها أمرًا صعبًا، على حد وصف الباحث والمحلل المتخصص في الشأن العربي، السيد الربوة.
الربوة أشار في تصريحات خاصة لـ “نون بوست” أن العديد من العوامل ساهمت بشكل كبير في ضعف هذه الجولة من المباحثات اليمنية، فبعيدًا عن البُعد العسكري والدور الذي يلعبه في تأزم الوضع على أرض الواقع يأتي العامل السياسي ليمارس هو الآخر دورًا لا يقل أبدًا في إضعافه للمفاوضات عن نظيره العسكري، وتتمثل أبرز أسباب الضعف في الآتي:
الأول: تسيد الخارج: حيث يلاحظ أن الدعوة للحوار والجلوس على مائدة المفاوضات جاءت عن طريق قوى خارجية – سعودية كويتية أمريكية إيرانية – في ظل غياب شبه تام للأطراف المحلية، مما يمثل عبئًا على عامل المرونة والحماس بين المتحاورين، إذ إن في ظل غياب الباعث الداخلي فلن يقدم أي طرف على أي تنازلات.
الثاني: غياب المؤسسية وسيطرة القبلية: تعد المؤسسات الحزبية الشكلية التي لا تقدم ولا تؤخر في مسيرة العمل السياسي داخل اليمن، فضلاً عن غياب المؤسسية، وتسيّد دور القبيلة وتأثيرها في المشهد اليمني، سواء في الحراك الثوري، أو العمل الديمقراطي أو العمل المسلح وكذا في العلاقات الخارجية، سواء سلبًا أو إيجابًا، من بين عوامل ضعف مباحثات السلام اليمنية في الكويت.
الثالث:غياب الشباب القائد: لا شك أن الشباب في اليمن يعاني من تهميش واضح على كافة المستويات، وغياب كامل للتمكين، لاسيما في ظل سيطرة النخب – كعادة دول الربيع العربي – إضافة إلى تورط هذه النخب في الفساد والنفعية مما يجعل إدارتهم للأمور عبثية ولا تصب إلا في مصالحهم الخاصة وفقط، وهو ما سوف ينعكس على مثل هذه الخطوات السياسية الرامية إلى إعادة الاستقرار لليمن.
أما الإعلامي اليمني مراد هاشم، والمتخصص في شؤون الأمم المتحدة فكان له رأي آخر، حيث أكد أن هناك اتفاق واختلاف بين الوفدين – الحكومي والحوثي – في مشوارهم التفاوضي بالكويت، اتفاق في الشكل واختلاف في طريقة التنفيذ، مؤكدًا أن الجميع جاء لتنفيذ القرار الأممي 2216، الأمم المتحدة والحكومة والمتمردون (الحوثيون وصالح) وتحديدًا ما يتعلق منه بالمحاور الخمسة المعلنة كأجندة للاجتماعات، لكن وجه الاختلاف يتمثل في أن الحكومة جاءت لبحث المحاور الخمسة بتسلسل من 1 إلى 5، أي الانسحاب وتسليم السلاح ومؤسسات الدولة ثم استئناف العملية السياسية، بينما المتمردين جاءوا لبحث النقاط الخمس بترتيب معكوس، أي البدء بتشكيل حكومة من جميع الأطراف لتنفيذ بقية النقاط.
هاشم تقدم بحل وسط أوضح أنه قادر على دفع المتحاورين إلى الوصول إلى نتيجة إيجابية، وهو أنه على المتحاورين مناقشة جميع المحاور بالتزامن، من خلال تشكيل لجان لبحث كل محور على حده، على أمل أن يسهم الخوض في تفاصيل كل منها في تحقيق تقدم ما في مسار أو أكثر، قائلاً: “هذا سيمكنه من إحداث اختراق لاحقًا بالبناء على ما تم إنجازه ومحاولة التغلب على العقبات المتوقعة والقضايا المُختلف حولها والوصول بالتالي إلى حل وسط ما يحقق لكل طرف بعضًا من مطالبه أو هكذا يأمل المبعوث ألأممي على ما يبدو”.
إرهاصات الفشل
العديد من العوامل تقود إلى تغليب احتمالية فشل هذه الجولة الجديدة من المفاوضات، أهمها، رفض الوفد الحوثي النقاط الخمس التي حددها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إسماعيل ولد الشيخ أحمد، كأساس للمفاوضات، والتي تشمل الانسحاب من المدن التي استولى عليها الحوثيون منذ بداية الأزمة في 2014، وتشكيل حكومة أكثر شمولاً، وتسليم الأسلحة الثقيلة للحكومة الجديدة في البلاد، إضافة إلى أن ما تم تسريبه بشأن خلافات حول الأولويات يعرقل سير عملية التفاوض، فوفد الحكومة يريد من الحوثيين والمقاتلين الموالين للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الانسحاب من المدن وتسليم السلاح قبل مناقشة أي حل سياسي، بينما يطالب الحوثيون وحلفاؤهم بتشكيل حكومة جديدة تمثل جميع الأطراف لتشرف هي على نزع السلاح قبل البدء في أي إجراء آخر.
كما أن الخلافات الناجمة عن تضارب المصالح بين الحوثيين من جانب والقوات الموالية لصالح من جانب آخر، والمتجسدة في تأخر وصول وفديهما – الحوثيين وصالح – لمدة ثلاثة أيام، وتأجيل بدء انعقاد المباحثات بسبب تأخر وصولهم، إضافة إلى الخلافات الواضحة بين الوفد الحكومي اليمني والحوثي تشير إلى فشل مبكر لمثل هذه المفاوضات التي جاءت دون إعداد مسبق.
من خلال ما سبق يمكن القول أن هناك صراعًا عميقًا بين قطبي الوفد المشترك للحوثيين وصالح حول كل شيء، ابتداءً من الجوانب البروتوكولية وانتهاءً بأجندة المباحثات والقرارات التي يطمح الجميع الوصول إليها وهي ما قد تفضي إلى فشل لنتائج المباحثات.
الحوثيون وشرعنة حضورهم السياسي
التصريحات البراقة التي خرجت على ألسنة الوفد الحوثي المشارك في المفاوضات تضع العديد من علامات الاستفهام حول الأهداف الحقيقية وراء هذه المشاركة، فبعيدًا عن دعاوى الخروقات الأمنية التي قدمها كلا الوفدين كمبرر لفشل المفاوضات وإجهاضها مبكرًا، تبقى النوايا السياسية الكامنة في العقل السياسي لنخبة الوفدين هي التي تتحكم في قبلة ما يمكن أن تصل إليه هذه المباحثات.
الناطق باسم حركة أنصار الله الحوثية، محمد عبد السلام، قال في تصريحات له إن الوفد الوطني ذاهب إلى الكويت وغايته الأولى إنجاح الحوار رغم الحصار والقصف السعودي حتى اللحظة للأسف الشديد، على حد قوله، مشيرًا أن المشاركين لديهم تفويض مطلق للتوقيع على كل ما يفضي إلى العودة للحوار السياسي والخروج من مرحلة الصراع والاقتتال.
عبد السلام استنكر أن يقدم الطرف الآخر – الحكومة – نفسه بأنه شرعي، فالسلطة محكومة الآن بالتوافق، ويجب أن تحكم بالتوافق، قائلاً: نحن الآن نرى أن الأولوية تأتي في حل سياسي لسلطة توافقية في البلد، ليذهب الجميع إلى الحل الشامل، لا مشكلة لدينا في نقاش مسألة السلاح والانسحابات من كل الأطراف.
وفي السياق نفسه، قال الأمين العام المساعد لحزب المؤتمر الشعبي العام، ياسر العواضي، إن وقف إطلاق النار والالتزام به هو الشرط الأول لبدء المفاوضات، ولن يكون هناك أي نقاشات مطلقًا في الأجندة السياسية ما لم يتم ذلك.
وعلى الجانب الأخر، استنكر الوفد الحكومي المشارك ما أسماه بـ “المبررات سيئة النية” التي يتشدق بها وفد الحوثيين لعرقلة سير المفاوضات، حيث قال الكاتب اليمني ورئيس مركز الجزيرة العربية للدراسات الدكتور نجيب غلاب إن الحوثيين لا يتعاملون مع المفاوضات على أنها أساس للوصول إلى حل سياسي يحقق الشراكة والعدالة لجميع الأطراف، وإنما فقط لإنجاز انقلابهم الذي لم يتزحزحوا عنه قيد أنملة حتى الآن.
وأضاف أن الحوثيين يريدون اليوم تحييد التحالف العربي عن الحرب الداخلية ولذلك يطالبون بالبدء أولاً ببناء الشراكة ويريدون تحويل الشرعية لشرعنة انقلابهم، وهم يعتبرون المفاوضات أداة من أدوات الحرب، إضافة إلى أنهم يحاولون تشكيل حكومة وحدة وطنية وشراكة دون الالتزام بالقرار الأممي 2216، مؤكدًا أن سياساتهم ترتكز على إتمام انقلابهم وشرعنته من خلال الطاولة الأممية، على حد قوله.
وشاطره الرأي الكاتب والمحلل السياسي عبد الله إسماعيل، والذي وصف مشاورات الكويت بأنها مجرد “استراحة محارب” ريثما يعود العنف إلى اليمن وبشكل أقوى، ما لم تكن هناك رغبة جادة من جميع الأطراف في إيجاد حل سياسي لتنفيذ القرار الأممي 2216، مشددًا أن الحل في اليمن ينبني على هذا القرار بحذافيره والعودة إلى مرجعيات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية، واتهم الحوثيين بأنهم ليس لديهم رغبة حقيقية في التزام حقيقي بذلك.
من يتابع المشهد عن كثب، وفي ظل تباين الرؤى والأهداف، والهوة الكبيرة بين تصريحات الوفود المشاركة في هذه المفاوضات، يجد أن الحوثيين جاءوا إلى الكويت فقط لقطف ثمرة جهودهم المسلح الذي دام قرابة ثلاثة أعوام، بتسوية سياسية تسمح لهم بالمشاركة في العملية السياسية المستقبلية، وهذا في حد ذاته إنجاز ما كان يدور يومًا بخلد المتفائلين من أنصار الحوثيين وفريق علي عبد الله صالح والقيادة الإيرانية بطهران.
هل من حل؟
بالرغم من استمرار المفاوضات السرية والاجتماعات المغلقة حتى كتابة هذه السطور، وانعقاد الآمال عليها في الوصول إلى حل سياسي قادر على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرض السعيدة، والحفاظ على بقايا الشعب اليمني المقهور، إلا أن نجاح هذه المباحثات في تحقيق أي من النقاط الإيجابية يتوقف على قدرة كلا الطرفين المشاركين على تقديم التنازلات وتغليب مصلحة الوطن على الأهواء الخاصة.
ووفقًا لما يدور في الكواليس وما يتسرب تباعًا من تصريحات هنا هناك، يبدو أن الوصول إلى حل سياسي نهائي لا يزال هدفًا بعيد المنال، فقد نجح الحوثيون في اقتناص اعتراف رسمي بـ “شرعية ” وجودهم كطرف سياسي، بعد أن كانوا بالأمس متمردين مطاردين، والحكومة الرسمية نالت فرصة لالتقاط الأنفاس لحين ترتيب الأوضاع من جديد استعدادًا لجولة من المواجهات المسلحة مرة أخرى، في حال تمسك كل فريق بتلابيب شروطه دون تنازل أو مراجعة للمواقف.