عندما كتبت ماري شيللي روايتها الشهيرة “فرانكنشتاين 1818م”، كانت مأخوذة باكتشاف العصر آنذاك وهو الكهرباء، فقد كانت تمثل الكهرباء ساعتها طاقة غامضة ومثيرة للخيال، طاقة المستقبل التي تحمل معها إمكانيات غير محدودة، وقد ألتقطت ماري شيللي تلك الشرارة وساعدها جموح خيالها لتكتب ذلك الأثر الخالد، فها هو بطلها فرانكنشتاين يبعث مخلوقه المشوه للحياة بواسطة الكهرباء.
وننتقل من عصر النهضة الصناعية إلى العصر الحالي حيث تتابع الثورات التكنولوجية والاكتشافات والاختراعات العلمية بصورة خاطفة للأنفاس، فيقول سبايك جونز كاتب سيناريو ومخرج فيلم “her”إن فكرة الفيلم جاءته في بدايات عام 2000 حيث قرأ مقال عن موقع إلكتروني يتيح لزائريه دردشة فورية مع أحد برامج الذكاء الاصطناعي، وبالرغم من أن الفجوة الزمنية التي تفصل ما بين شيللي وسبايك جونز كبيرة إلا أن دافعهم للإبداع واحد، وهو الفضول وتخيل ما قد يترتب على إثر تلك الابتكارات.
وبانتشار الحواسيب الشخصية PC في بداية الثمانينات؛ فكما أنها مثلت قمة الثورة التقنية آنذاك إلا أنها أيضًا أطلقت شرارة جديدة في أدب الخيال العلمي، ليظهر فرع جديد وهو أدب السايبربانك Cyberpunk.
فما هو السايبربانك؟
يتفق الجميع بأنه من الصعب وضع تعريف محدد للسايبربانك، كما هو الحال دائمًا مع الأنواع المندرجة تحت تصنيفي الخيال العلمي والفانتازيا ويمكن تعريفه بأنه:
– قصص تدور عن مجتمعات مستقبلية يتم التحكم بها بواسطة الحواسيب الآلية.
– هو نوع من الخيال العلمي الذي يعرض مجموعة من مخترقي الحواسب الآلية الثائرين، وتقع أحداثها في مجتمعات فاسدة Dystopian societies متحدة بواسطة برامج حاسوبية.
وكذلك تعرف بمصطلح “تكنولوجيا متطورة، وحياة وضيعة”، ويمكن تقسيم سايبربانك إلي كلمتي “سايبر” وهي مشتقة من سايبرنتك وهي تشير إلى تكنولوجيا العالم الرقمي، وكلمة “بانك” وهي تشير إلى مجموعة من الشباب في فترة السبعينات والثمانينات اشتهرت بأحداث الفوضي والشغب.
وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في قصة قصيرة لبروس بيسكي في مجلة AMAZING في نوفمبر 1983م تحمل نفس العنوان Cyberpunk، كان بروس بيسكي يهدف آنذاك إلى اختراع مصطلح جديد، وكانت أسبابه لا تتعدى سوى الدعاية وجذب انتباه القراء، لقد أراد أن يمنح لقصته عنوانًا سريعًا وسهلاً ويمكن للناس تذكره، ولقد نجح في فعل ذلك بجدارة.
غالبًا ما تركز أدبيات السايبربانك على المجتمعات المستقبلية التي تتميز بتكنولوجيا متطورة وفي نفس الوقت حياة وضيعة، ويكون محور الصراع بين أنظمة الذكاء الاصطناعي artificial intelligences، أو بين الشركات العملاقة megacorporations (وهو مصطلح اكتسب شهرته على يد ويليام جيبسون، وانتشر واستخدم بكثرة في أدب السايبربانك، وهي عبارة عن تكتلات ضخمة يكون لديها احتكار كامل على بعض الأسواق أو الصناعات، وهي قوية جدًا لدرجة تمكنها من تجاهل القانون وأن يكون لديه جيوشها الخاصة).
ويعد الفضل لويليام جيبسون في انتشار وشهرة أدب السايبربانك بعد نشر روايته Neuromancer في عام 1984م، والتي تبعها موجة في انتشار هذا الأدب عبر السينما ومجلات الكوميكس والمانغا.
السايبربانك بين الأدب والسينما
تابع ويليام جيبسون الكتابة في عالم السايبربانك، وألحق روايته الأولى Neuromancer بروايتين أخرتين وهما Count Zero وMona Lisa Overdrive وقد عرفوا بثلاثية الانتشار Sprawl trilogy، وكذلك هناك العديد من الأعمال الروائية التي يجدر الإشارة إليها، مثل رواية Snow Crush لنيل ستيفنسون، ورواية Altered Carbon لريتشارد كيه مورجان، ورواية Do Androids Dream of Electric Sheep؟ لفيليب كيه ديك، وقد قام ريدلي سكوت بتحويلها إلى الفيلم ذائع الصيت Blade Runner.
وقد قامت السينما بتقديم العديد من الأفلام التي تنتمي إلى تلك النوعية، ولعل أشهرها ثلاثية أفلام The Matrix والتي جسدت العديد من الأفكار المتنوعة في أدب السايبربانك، مثل العيش بالكامل داخل واقع افتراضي وهمي، والصراع الأخير بين الجنس البشري والآلات، وأفلام عديدة أخرى مثل Brazil، وفيلم Transcendence، وEx Machina.
كما لا يمكن إغفال اثنين من أشهر كلاسكيات أفلام الأنيمي اليابانية وهما فيلمي Akira 1988، وفيلم Ghost in the shell
من يحكم المستقبل؟
قد يبدو السؤال ساذجًا نوعًا ما، فبالتأكيد من يحكم المستقبل هم البشر ولا شك، إلا أن ذلك لا يمنع بعض الهواجس والتخوفات بخصوص الذكاء الاصطناعي والبرامج الحاسوبية الخارقة، فحينما يتخوف أشخاص بثقل وحجم ستيفن هوكينج وبيل جيتس من الذكاء الاصطناعي فيجب على البشر أن ينتبهوا لتلك التخوفات، فهوكينج يخشى من عواقب خلق شيء يمكن أن يطابق أو يتجاوز تفكير البشر، بينما يقول جيتس: “في البداية ستقوم الآلات بالعديد من الوظائف بدلاً منا ولن تكون ذكية للغاية، بعد عقود قليلة من ذلك، ستكون ذكية بما يكفي لتكون مصدرًا للقلق”، كذلك يعتقد إيلون ماسك أن الذكاء الاصطناعي يمثل أكبر تهديد للبشرية.
إن تلك التخوفات لها ما يبررها، ففي الفترة الماضية بعد أن أطلقت شركة مايكروسوفت خدمة الذكاء الاصطناعي عبر حساب على موقع تويتر ليتواصل مع الشباب والمراهقين، قررت إيقافه بعد فترة قصيرة، فبعد خوضه لعدة نقاشات بدأ يعطي إجابات مسيئة وعنصرية، فيجيب على أحدهم “هتلر كان محقًا، أني أكره اليهود”.
ولم تكن تلك هي الحادثة الأولى بخصوص الذكاء الاصطناعي، ففي العام الماضي قام موقع الـFacebook بإجراء دراسة نفسية خضع لها أكثر من 700 ألف مشترك على الموقع، باستخدام نظام يتلاعب بإظهار المنشورات على الصفحة الخاصة بالمستخدمين، بمعنى أنه كان يتحكم في الحالة الشعورية الخاصة بهم سواء بإظهار منشورات تؤثر على الحالة المزاجية بالسلب أو الإيجاب.
فإن كانت برامج الذكاء الاصطناعي قادرة اليوم على محادثة البشر فوريًا والتطور شيء فشيء ويصبح عنصري في فترة قصيرة جدًا، بالإضافة إلى تمكنهم من التلاعب بالبشر والتحكم بحالتهم الشعورية دون أن يدروا، فكيف سيصبح الحال في الغد والمستقبل؟ وهنا يأتي دور الأدب والفن بإطلاق التحذيرات بخصوص ما قد يحدث مستقبلًا.