تابعت أحداث الأمس بكل قلق داعيا الله ألا أفجع في صديق أو قريب أو رفيق أو مجرد أي إنسان حر آخر. فلم أعد أستطيع أن أتحمل ألمًا جديدًا يضاف إلى سابقه خاصة أني أعجز عن التعامل مع الشهداء والجرحى والمعتقلين كرقم مجرد وإنما أتعامل معهم كحياة، حلم، أسرة، أطفال، زوجة ووطن.
لن أقدم في هذا المقال أي نوع من الإجابات وإنما سأشارككم مجموعة من الأسئلة التي تعصف بذهني منذ فترة وبدأت أخيرًا في البلورة من خلال مراسلتي أحد المعتقلين في سجون مصر، ظهر احتياجي لمشاركة هذه الأسئلة مع المهتمين بالشأن العام المصري تحديدًا بعد يوم جمعة الأرض، فبينما كانت المظاهرات تجوب شوارع مصر وتعود الحناجر (كلها) للهتاف مرة أخرى، أثار اهتمامي أكثر روح التفاؤل التي عادت لتدب في نفس الشباب الثوري بكل أطيافه، تفاؤل لم أستطع أن أشاركهم إياه بنفس القدر مع الأسف.
لم يساورني الشك يومًا في حتمية سقوط هذا الطاغية ونظامه، منذ اليوم الأول وأنا أتنبأ لهذا الانقلاب بالفشل، لكنني كنت حائرًا فقط أمام الكيفية والتوقيت لا أكثر، كانت العوامل الدافعة لهذا اليقين كثيرة بداية من أنني لم أكن أرى دافعًا حقيقيًا للقيام بهذا الانقلاب، مرورًا بافتقار السيسي لأي ملامح لمشروع وطني أو تاريخ شخصي أو أدني قدر من الكاريزما القيادية، وبالنظر إلى السياق الزمني المرتبط بالعصر الحالي وثورة الاتصالات والمعلومات مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع الإقليمية والدولية وانتهاءً بالتغيرات البنيوية والفكرية في المجتمع المصري التي حدثت نتيجة للموجة الثورية الأولى في 25 يناير 2011، وتأكدت هذه القناعة في أعقاب أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة، وبالرغم من هذا اليقين إلا أنني لم أشارك أصدقائي التفاؤل بعد يوم الأرض نتيجة لهذه الأسئلة التي ما زلت عاجزًا عن إجابتها.
قبل أن أطرح عليكم هذه الأسئلة أريد أن أستعرض معكم المفهوم التالي:
- (Cycles of Protest or Protest waves)
دوائر الاحتجاج أو الموجات الثورية وهو وفقًا لتعريف (Tarrow) “مد متصاعد من الصدام بين النظام الاجتماعي والسلطة في تحدٍ واضح لها، فيه تكون السلطة ضعيفة أمام هذا المد والمطالب المتزايدة بالتغيير المجتمعي، ذلك المد يكتسب زخمًا في الأساس من تغير الرأي العام وتوقعاته بالنجاح أو الفشل، هذا المد قد ينتهي إما بالقمع أو الاستيعاب من خلال تحقيق مجموعة من الإصلاحات الداخلية أو قيام ثورة” ومن أشهر الأمثلة ما حدث في أوروبا الشرقية بين عامي 1989 – 1991 والاحتجاجات المعادية لليبرالية الحديثة في أمريكا الجنوبية والتي بدأت 1990 واستمرت قرابة العشر سنوات.
هذه الاحتجاجات تتميز بعدة سمات منها:
– تنوع الشرائح الاجتماعية والقطاعات المشاركة (طلاب، موظفين، عمال، فلاحين… إلخ)
– الانتشار الجغرافي سواء على مستوى الدولة أو الإقليم كما حدث في أمريكا الجنوبية عندما ضربت الاحتجاجات الأرجنتين، بوليفيا، شيلي، فنزويلا، الإكوادور وبيرو.
– الجمع بين ميكانيزمات العمل المنظم والحركة العشوائية.
– الإبداع والتغيير في أشكال وآليات الحركة، حيث تطور كل دورة أو موجة ثورية آليات الحركة الخاصة بها عن سابقاتها.
– إحداث تغيرات جوهرية في المفاهيم الحاكمة للاحتجاجات وخطابها المستخدم بالإضافة إلى أطر العمل الجماعي الخاص بها.
– التداخل المتزايد بين المعارضين والمتحدين للسلطة وبين السلطة نفسها بحيث تتصاعد المطالب والطموحات كل دورة عن التي تسبقها.
فعندما تنتهي دورة الاحتجاجات عن طريق قمع السلطة أو الاستيعاب فإنها ببساطة تكون قد ساعدت في تشكيل وتهيئة دورة الاحتجاجات أو الموجة الثورية القادمة، لذا لا يمكن الحكم على فشل أو نجاح موجة من الموجات إلا في سياق زمني أوسع يظهر فيه أثرها على الموجات التالية لها وبالتالي مسار التغيير المجتمعي.
وبالعودة إلى الحالة المصرية، وإذا اعتبرنا أن بداية هذه الموجات هي 25 يناير 2011 ثم ما صاحبها من موجات صغيرة من المد الثوري في أعوام حكم المجلس العسكري والدكتور محمد مرسي (ماسبيرو، محمد محمود، العباسية، الاتحادية.. إلخ) والتي انهزمت بإعلان الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 ثم تم قمعها والقضاء عليها تمامًا بمجزرتي رابعة والنهضة في 14 أغسطس 2013 لتبدأ موجة جديدة من المد الثوري المناهض للانقلاب العسكري علي مدار قرابة الثلاثة أعوام والتي انحسرت مؤخرًا نتيجة للقمع الأمني المتزايد ولفشل إدارة هذه الاحتجاجات، خصوصًا في تحويلها إلى احتجاجات شعبية واسعة تجمع كل أطياف المجتمع المصري، لتبدأ في هذه الأيام إرهاصات موجة جديدة ودورة أخرى من الاحتجاجات نتيجة لغباء النظام والوضع الاقتصادي المتردي والخيانة ببيع الجزيرتين المصريتين.
ومن هنا أتعرض لمجموعة من الأسئلة المرتبطة بالموجة القادمة والتي أعجز عن إيجاد إجابات واضحة تساعدني على التفاؤل بما يمكن أن تحققه تلك الدورة القادمة من الاحتجاجات والحراك الشعبي المرتقب، أطرحها عليكم بشكل عشوائي ودون ترتيب:
– هل تستطيع هذه الموجة تبني خطاب يضم شرائح أكثر للحركة الاحتجاجية، وهنا لا أقصد فقط الكيانات والحركات السياسية المنظمة (6 أبريل، إخوان، اشتراكيين ثوريين… إلخ)، بل أتحدث عن شرائح وطبقات مجتمعية أوسع (عمال، فلاحين، طلبة، موظفين، أقليات مهمشة… إلخ)؟
– هل ستشهد هذه الموجات انتشارًا جغرافيًا كبيرًا؟ أم سيستمر انحسارها في المحافظات والمدن الرئيسية؟
– هل سنشهد تطورًا في ميكانيزمات التعبئة والحركة أم سيستمر الاعتماد على نفس النمط الخاص بالمظاهرات والمسيرات والاعتصامات الميدانية، دون أن نشهد أشكال أخرى كالتحرك نحو منشآت الدولة وحصارها والسيطرة عليها أو غيرها مما يمكن أن يبدعه العقل الثوري المصري؟
– هل سنشهد تطورًا في الخطاب والمطالب بما يسمح بالقفز على كل الخلافات الإيدولوجية والسياسية السابقة أم ستستمر حالة الصلف والتكبر وعدم الاعتراف بالأخطاء التي نعاني منها من جميع الأطراف السياسية الثورية بلا استثناء حتى الآن؟
– ما هي رؤيتنا للتغيير، وما هي المطالب المرفوعة للتعبير عنه، وما هي الآليات التي سنستخدمها لإحداث هذا التغيير المطلوب؟
الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها هي ما سيحدد مدى نجاح الموجة الثورية القادمة، والسؤال الأخير هو من الأهمية بمكان حيث يتعلق بضبط التوقعات والأهداف وبالتالي اختيار أدوات الموجة الثورية القادمة، لذا سيكون هذا السؤال محل نقاش تفصيلي واستعراض لمجموعة من الأسئلة الفرعية في الجزء الثاني من المقال.