ما بين متفائل بمجريات ما حدث، معتبرًا إياها نقطة انطلاق حقيقة كشفت هشاشة دولة السيسي وعرت نظامه القمعي أمام العالم أجمع، وبين مصدوم صعقته “تراقص” الأعلام الخضراء على رؤوس المصريين في قلب ميادين المحروسة خلال الاحتفال بعيد تحرير سيناء بدون جزيرتي صنافير وتيران لأول مرة في تاريخها، وبين مهلل لنجاح الجهاز الأمني في قمع المتظاهرين وإجهاض محاولات إسقاط النظام؛ مر يوم الـ 25 من أبريل.
اليوم مر زمنيًا حسبما أشارت عقارب الساعة، لكن مضامينه لم تمر مرور الكرام، فها هي الدولة تكشر عن أنيابها بصورة غير مسبوقة، وتصدر صورة واضحة المعالم للقاصي والداني أنها قلقة جدًا من دعوات التظاهر هنا وهناك، بالرغم من تحقير أبواقها الإعلامية لمثل هذه الدعوات والتقليل من شأنها ليل نهار.
الـ 25 من أبريل لهذا العام لا شك وأنه سيكون علامة فارقة في مشوار الحراك الثوري خلال الفترة المقبلة، حيث إنه نجح وباقتدار في كشف النقاب عن العديد من الحقائق التي غلفها الإعلام بأوسمة الضلال والكذب والتهويل، فضلاً عن أنه نقطة مضيئة وزلزال مدوٍ أكد أن الشعب المصري لازال ينبض بالوطنية والشجاعة والثورة، وأنه لم يكن رئة معطلة، أو كيان مهمل كما كان يتوهم البعض، اليوم اكتشف الشعب نفسه من جديد، فهل اكتشف النظام نفسه أيضًا؟
الشعب يكتشف نفسه
منذ ثورة الـ 25 من يناير 2011م، مر الشعب المصري بالعديد من المراحل الخطيرة في مسيرته نحو اكتشاف نفسه كلاعب أساسي في المشهد السياسي، بعد تغييب متعمد طال عقودًا طويلة إبان فترة مبارك وما قبلها.
بدأ الشعب مسيرته الجديدة بامتلاكه مفاتيح العملية السياسية برمتها، حيث أقال نظامًا بكل جبروته، واختار آخر، فضلاً عن دوره الفعال في اختيار ممثليه في الشعب والشورى، إضافة إلى الاستحقاقات الأخرى كالاستفتاء على الدستور وغيرها.
ثم تعرض الشعب لهزة خطيرة أصابت ثقته بنفسه في مقتل، وذلك حين تم الإطاحة بالنظام المنتخب دون الرجوع إليه، وفجأة وجد المواطن نفسه أمام استحقاقات جديدة لا يدري عنها شيئًا، استفتاء جديد، ودستور جديد، وانتخابات رئاسية وتشريعية فقد فيها قيمة صوته وحضوره، وهو ما تجسد في حجم المشاركة في مثل هذه الاستحقاقات مقارنة بما كان عليه الوضع سابقًا.
وأمام التشديد الأمني والقمع الشرطي، وتفعيل سياسة الترهيب والإرهاب، وامتلاء السجون والمعتقلات بالشباب والنساء والشيوخ، اعتقد البعض أن الشعب قد استكان إلى مخابئه مرة أخرى، وآثر البيات الشتوي بما يمهد الطريق للعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل ثورة يناير، ساعده على ذلك العزف المنفرد للإعلام ليل نهار، والذي جعل من الشعب أداة يحركها في أي تجاه يخدم النظام الحالي، حتى أصيب الكثير بالإحباط وارتضوا بالأمر الواقع أن هذا الحال لن يتغير بالشعب، لأنه باختصار، الشعب فقد سلطته وكيانه.
وبينما ركن قادة النظام الحالي إلى مضاجعهم غير مكترثين لدعوات التظاهر يوم 15 أبريل الحالي، إيمانًا منهم أن هذا الشعب لن تقوم له قائمة بعد اليوم، إذ بجموع الشباب التي كست شوارع وسط البلد وأمام نقابة الصحفيين تؤرق نومهم، وأصواتهم المزمجرة التي تطالب بإسقاط النظام تهز الكراسي من تحتهم، ليفرض السؤال التالي نفسه على أذهان الجميع: هل لازال لهذا الشعب من وجود؟ ألم يبح صوته بعد كل ما رآه وعاينه وعاناه؟ ألم يتعظ بعد هذه الأرقام المؤلفة التي امتلأت بها السجون والمعتقلات؟
أسئلة كثيرة طفت على السطح في انتظار من يروي ظمأها بإجابات شافية وافية، بعيدًا عن الاستخفاف بالعقول والعزف على أوتار الابتزاز تارة والترهيب تارة أخرى والتخوين تارة ثالثة.
عشرة أيام فقط من الـ 15 من أبريل وحتى الـ 25 كانت كفيلة لأن تعيد لهذا الشعب ثقته بنفسه من جديد، ليعطي المواطن المصري درسًا لكل الأنظمة مهما كانت أنه لن يعود إلى جحوره مرة أخرى مهما كان بطش النظام وإرهابه.
منذ انتخاب السيسي رئيسًا قبيل عام ونصف من الآن والإعلام الموجه من قِبل أجهزة المخابرات يعزف على وتر أن مصر ما شهدت ولن تشهد نظامًا قويًا كهذا، حتى لُقب السيسي بـ “الجنرال” القادر على فرض سيطرته على كافة الأمور
من يشاهد الانتشار الأمني المروع في كل شوارع وميادين مصر، جوًا وبرًا، ومن يرى تطويق نقابة الصحفيين وميدان التحرير، ومن يتابع حملة الاعتقالات العشوائية أثناء وقبيل الـ 25، يخرج بنتيجة مؤكدة وهي أن الشعب لا يمكنه المغامرة والنزول في هذا اليوم مهما كانت المبررات، لاسيما وهو علي يقين أن خروجه قد يكلفه حياته، في ظل الضوء الأخضر المعطى للأجهزة الأمنية في التعامل مع المتظاهرين بشتى السبل، ومع ذلك خرج الشعب، وخرجت المظاهرات – حتى وإن كانت ضعيفة – في القاهرة والإسكندرية ودمياط والجيزة والشرقية وغيرها، وتم اعتقال العشرات من الصحفيين، خرج الشعب ليقول كلمته، والتي كانت باختصار، لقد خرج الشعب من كهفه واستفاق من سباته.
النظام القوي… كان خدعة
منذ انتخاب السيسي رئيسًا قبيل عام ونصف من الآن والإعلام الموجه من قبل أجهزة المخابرات يعزف على وتر أن مصر ما شهدت ولن تشهد نظامًا قويًا كهذا، حتى لُقب السيسي بـ “الجنرال” القادر على فرض سيطرته على كافة الأمور، وبات انتقاد البعض لأي من أذرع هذا النظام جريمة يؤخذ صاحبها عليها بالنواصي والأقدام، إلى أن استقر في نفوس المواطنين أن هذا النظام الحاكم هو قدر الله الذي لا يمكن الاعتراض عليه.
وفي سياق متصل يبدو أن السيسي كما كان مبارك يبني تصوراته على تقارير أمنية “مضروبة” أو غير دقيقة، أوهمته أن الشعب برمته يدعمه في كل خطواته مهما كانت، وأن عشق الجماهير له فوق الوصف، مما دفع الرجل إلى فعل ما يحلو له دون أي اعتبار للشعب، وهنا كانت الشرارة الأولى.
جاء توقيع السيسي على اتفاقية إعادة ترسيم الحدود مع السعودية والتي من بينها تنازل مصر عن جزيرتي صنافير وتيران لصالح المملكة، لتكون محك الاختبار الحقيقي الذي كشف مدى شعبية النظام الحالي عند الشعب، وعلى الفور لم ينتظر المواطنون الشرفاء حتى يعي الرئيس حقيقة ما فعل، حيث خرجوا عليه في مشهد أصاب السيسي بالصدمة، وأصاب من حوله بدوار سياسي، ما كانوا يتوقعون يومًا أن يتعرضوا له.
إذًا أين الشعبية الجارفة والجماهيرية العريضة؟ هل وقع السيسي في الفخ؟ هل كان ضحية تقارير أجهزته الأمنية؟ أيًا كانت الإجابة فقد خرج الشعب ليؤكد أن تراب الوطن أبقى وأغلى من أي رئيس، وأن من يفرط في شبر واحد من أرض مصر فمكانه الطبيعي خلف السجون.
لم يفق النظام من صدمة الـ 15 من أبريل، حتى فوجئ بالجموع الغفيرة تخرج في الـ 25 أيضًا، بالرغم من تهديدات السيسي في خطابه الأخير الذي ألقاه بمناسبة ذكرى تحرير سيناء، السيسي يحذر والشعب لم يستجيب، إذًا هناك خطأ ما، فما هو؟
جاء توقيع السيسي على اتفاقية إعادة ترسيم الحدود مع السعودية، ليكون محك الاختبار الحقيقي الذي كشف مدى شعبية النظام الحالي عند الشعب
الخطأ الحقيقي الذي اكتشفه النظام والشعب في آن واحد هو أن فكرة النظام القوي القادر على حسم الأمور كانت خدعة كبيرة، وأن الجماهيرية الغفيرة والشعبية المطلقة للرئيس كانت وهمًا عظيمًا صنعه إعلامه المقرب ورجاله المخلصين.
النظام الذي لا يطيق الخروج عليه بهذه الصورة حتمًا ليس نظامًا قويًا، فالمعارضة الشرسة عنوان النظام القوي، أما ما حدث خلال العشرة أيام الماضية من ارتباك في كافة أجهزة الدولة بسبب دعوات التظاهر، فضلاً عن تجاهل الشعب لهذا الخناق والتضييق غير المسبوق يؤكد أن هذا النظام يعاني من هشاشة مبكرة.
النظام الذي يترك أنصاره في يوم الاحتفال بتحرير سيناء يرفعون أعلام دولة أخرى نجحت في سلبنا جزءًا من أرضنا أيًا كانت علاقتنا بها، ويسميهم “الشرفاء”، في الوقت الذي يعتقل من يرفع أعلام بلاده ويدافع عن ترابه وأرضه وينعتهم بالخونة والعملاء، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر طويلاً، وتلك كانت رسالة الجموع الغفيرة التي خرجت أمس.
هل يكتب النظام شهادة وفاته بنفسه؟
سؤال فرض نفسه على موائد الفكر والنقاش السياسي طيلة الأيام الماضية، ففي الوقت الذي تعاني فيه فصائل المعارضة بشتى انتماءاتها من شروخ دامية، وتناحر فيما بينها، فضلاً عما تواجهه من تخوين بعضها البعض، إضافة إلى الفشل الذريع في استغلال أكثر من فرصة للتوحد، نجد أن النظام الحالي يقدم للمعارضة والثوار الفرص يومًا بعد الآخر على طبق من ذهب، ومع ذلك يرفضون الهدية.
على مدار أحد وعشرين شهرًا هي فترة تولي السيسي الحكم حتى الآن ونظامه يخسر كل يوم حليفًا جديدًا، داخليًا كان أو خارجيًا، جراء الفشل في العديد من الملفات التي راهن عليها قبيل توليه مقاليد الأمور، بداية بجهاز الكشف عن الإيدز وفيروس سي، مرورًا بمشروع المليون وحدة سكنية، فضلاً عن الرخاء المنتظر جراء مشروعات المؤتمر الاقتصادي الذي عقد بشرم الشيخ منذ عام تقريبًا، إضافة إلى الأحلام التي بناها الشعب على قناة السويس الجديدة، والوعود الخاصة بالسيطرة على الأسعار وتحقيق الرخاء والأمن والاستقرار، وإنتهاءً بتسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، كل هذه العثرات التي تعرقل فيها نظام السيسي كانت بيديه دون تدخل من أي قوى داخلية كانت أو خارجية.
فهل نجح هذا النظام في استخراج شهادة وفاة على بياض ليدون فيها اسمه قريبًا طواعية دون ضغوط عليه؟ ثم السؤال الأكثر جدلاً: كيف سيكون الوضع لو كانت هناك معارضة قوية موحدة واعية قادرة على استغلال هذه السقطات؟
الخريطة الثورية… نقطة نظام
بالرغم من محاولات الوقيعة بين الثوار والتي سخّر الإعلام لها كل طاقاته خلال الأيام الماضية، إلا أن قطاع عريض من المواطنين شارك بنفس القوة والحماس دون الاستجابة لهذه الرسائل الانهزامية التخوينية، وفي المقابل هناك من رفض المشاركة حتى لا يحسب على فريق بعينه، أو خوفًا من استغلال فصيل معين للأحدث لحسابه الخاص كما يروج الإعلام، مما يضع الجميع في تحد حقيقي أمام أنفسهم، فهل يعي الثوار الدرس؟
المرحلة المقبلة تتطلب – إذا ما كانت هناك إرادة جدية من الثوار في تغيير المشهد – من الجميع الوقوف على أرض مشتركة واحدة، وأن يقدم كل فصيل مصلحة الوطن على مصالحة الخاصة، فلا شعارات فئوية ولا مطالب شخصية، وعلى الجميع أن يقدم تنازلات لصالح نجاح المشروع الثوري.
والحديث هنا قد يكون موجه لفصيل الإخوان بصورة خاصة، فهم أكثر الفصائل المتمسكة بشعاراتها الخاصة بعودة مرسي والشرعية، وهو ما يجعلهم دومًا في صدام مع الحركات الثورية الأخرى، المرحلة تتطلب إعادة النظر في الخريطة الثورية من جديد، وأن تتوحد الشعارات الوطنية تحت علم مصر فقط.
فهل يعي الثوار حقيقة المشهد ويوظفون انتفاضة الشعب واستفاقته بعد سباته العميق، مستغلين الهدايا القيمة التي يقدمها النظام الحالي؟
ما حدث بالأمس من الممكن أن يكون نقطة شرارة جديدة نحو بناء كيان ثوري جديد يجمع كل الفرقاء على مائدة واحدة، فهل يستغل الثوار الظرف الراهن أم كالعادة يكتفون بشعاراتهم الجوفاء والتناحر فيما بينهم والتراشق بحجارة الوطنية والخيانة؟