الازدواجية المحسوبة
قبل قيادم دولة إسرائيل، كانت إيران من ضمن سبع دول في اللجنة الخاصة للأمم المتحدة من أجل فلسطين (UNSCOP)، حيث صوتت ضد القرار 181 لتقسيم فلسطين في نوفمبر 1947، ودعمت قيام دولة واحدة فيدرالية يشكل فيها العرب الأكثرية بينما يشكل اليهود الأقلية.
كما صوتت إيران ضد دخول إسرائيل منظمة الأمم المتحدة، وبقي المندوب الإيراني في الأمم المتحدة يدعم الحقوق العربية في مواجهة إسرائيل، بالإضافة إلى المساعدات التي قدمتها جمعية الأسد الأحمر والشمس الإيرانية (على غرار الصليب الأحمر) للاجئين لإظهار التضامن مع العرب، مع ذلك لم تأخذ إيران خطوات أبعد من هذه الإجراءات التضامنية على الصعيد الدبلوماسي والإنساني، حيث ردت بشكل سلبي على طلب قدمته الدول العربية للمساعدة العسكرية في حرب عام 1948.
ويصف الخبير الإيراني رمضاني (R.K.Ramazani) سياسة إيران، في الفترة ما بين 1948 وحتى اعتراف الأمر الواقع بإسرائيل عام 1950، بـ”الازدواجية المحسوية”، حيث كان الإيرانيون يدعمون الحقوق العربية في صراعهم مع إسرائيل في العلن، بينما لا يمانعون فتح قنوات دبلوماسية سرية مع إسرائيل بذات الوقت.
صفقة الاعتراف والحلف المحيط
لم يمر اعتراف الأمر الواقع لإيران (De facto Recognition) بإسرائيل وفق الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليه، فقد كان أقرب منه للصفقة من أي شيء آخر. كانت إيران تعيش وضعًا داخليًا فوضويًا في نهاية عقد الأربعينات من القرن العشرين، فبعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الشاه محمد رضا في فبراير 1949، وما نجم عنها من فرض الأحكام العرفية، وحملة الاعتقالات والنفي الكبيرة في حق المعارضين، وانتهاء فترة المشاركة السياسية، وتدهور الديمقراطية، وتوجه البلاد نحو الاستبداد والقبضية الحديدية، في ظل هذه الأوضاع المتأزمة كان على رأس الحكومة الإيرانية رئيس الوزراء محمد سعيد (9 نوفمبر، 1948 – 23 مارس 1950)، حيث استغلت غياب الرقابة البرلمانية، وأسست بعثة دبلوماسية إيرانية في تل أبيب في مارس 1949 ومنحت إسرائيل اعترافًا بحكم الأمر الواقع بعد عام في مارس 1950 بعد إجراء صفقة تجارية بين رئيس الوزراء (الذي كان تاجرًا معروفًا) وبين تاجر يهودي أمريكي كان يعمل في إيران تحت اسم مستعار هو آدم، وبلغت قيمة الصفقة 500 ألف دولار.
فإسرائيل التي كانت تعيش في محيط عربي معادٍ في تلك الأيام، كانت في أمس الحاجة لاعتراف دول إسلامية ومحورية مثل إيران، فبعد الاعتراف التركي بإسرائيل (وهي أول دول إسلامية تعترف بإسرائيل رسميًا)، كان الاعتراف الإيراني في غاية الأهمية لسببين: أولًا، من أجل تطويق العرب عبر إنجاح الحلف المحيط الذي هندسه رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون وتشكل حينها من إيران وتركيا وإثيوبيا، ثانيًا، من أجل المساهمة في هجرة يهود العراق إلى إسرائيل، حيث كانت إيران الممر الآمن لهم، وقد شكلت الهجرة اليهودية لإسرائيل في ذلك الوقت العمود الفقري لقيام الدولة، ولذلك كان قادة إسرائيل ينظرون للهجرة على أنها قضية موت أو حياة، ومن هنا يمكن فهم الأهمية القصوى التي أولها هؤلاء القادة للعلاقة مع إيران لأهمية دورها في هذا المجال.
كانت المصالح المشتركة والعدو المشترك الأساس البرغماتي الذي اعتمد عليه التقارب الإيراني – الإسرائيلي، فكليهما كان يرى في القومية العربية عدوًا مشتركًا
على الجانب الإيراني، لم يكن القادة الإيرانيون ينظرون إلى إسرائيل بالأهمية التي كانت تنظر بها إسرائيل لإيران؛ كانت إسرائيل دولة وليدة، ولم تكن تتمتع بذلك الرصيد الاستراتيجي في الحسابات الجيوسياسية، بالإضافة إلى أن سياستها الخارجية تجاه الدولتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، اتسمت بعدم الانحياز، وبذلك لم يكن واضحًا إلى أي حد ستشكل هذه الدولة الوليدة أهمية في سياسة كل من واشنطن والبيت الأبيض، وعليه فلم يكن من الصعب حينما جاء رئيس الوزراء محمد مصدق إلى سدة الوزارة أن يغلق البعثة الدبلوماسية الإيرانية في إسرائيل عام 1951، ويستثمر ذلك في كسب ود العرب لتأييد إيران في قضية تأميم صناعة النفط الإيراني لدى الأمم المتحدة.
الشاه… المرشد الأعلى للسياسة الإيرانية
بعد الانقلاب على حكومة مصدق عام 1952، استعاد الشاه القبضة الحديدة على إيران، جاء الانقلاب في سياق التنافس العالمي في الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، كانت الولايات المتحدة تتخوف من سقوط الحكومة الإيرانية بيد الشيوعيين الذين كانوا القوة الأبرز في إيران في تلك الأوقات، وهو الأمر الذي وضع الشاه ضمن المعسكر الغربي، حيث كان يعتبر الخطر الوجودي الأوحد على حكمه متمثلا بالتمدد الشيوعي، ورغبة السوفيات بالوصول إلى المياه الدافئة عبر الإطاحة بعرشه، وعليه فقد كان الهدف الرئيسي لسياسة الشاه الخارجية هو ردع الاتحاد السوفيني، وإبقائه خارج منطقة الخليج، وهو ما استدعى التقارب مع الولايات المتحدة، وهنا برزت الحاجة لإسرائيل لقدرتها على التأثير على سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسيطة من خلال اللعب على نفوذ اللوبي اليهودي في واشنطن.
كانت المصالح المشتركة والعدو المشترك الأساس البرغماتي الذي اعتمد عليه التقارب الإيراني – الإسرائيلي، فكليهما كان يرى في القومية العربية عدوًا مشتركًا، مع وجود اختلاف في تقدير هذا العداء، فإسرائيل كانت ترى في القومية خطرًا وجوديًا، بينما كان يراها الشاه خطرًا من كونها جسرًا قد يعبر السوفيت من خلاله إلى المنطقة، نظرًا للتقارب بين عبد الناصر والسوفييت، ومن هنا كانت واحدة من سياسات الشاه في المنطقة المحافظة على الوضع الراهن بين العرب وإسرائيل، وتجنب التصعيد لسحب البساط من تحت أقدام السوفييت وإبقائهم بعيدًا عن المنطقة.
لذلك رفض الشاه ضم الأراضي العربية بالقوة لإسرائيل بعد حرب الأيام الستة، وطالب تل أبيب بالانسحاب، وبالرغم من شعوره بالارتياح لهزيمة القومية العربية، إلا أنه تخوف من زيادة توجه العرب إلى الاتحاد السوفيتي الأمر الذي يشكل تهديدًا حقيقيًا لمصالح إيران في المنطقة، بالإضافة إلى أن الانتصار الساحق لإسرائيل حرم الشاه من اللعب على توازنات القوى التي وفرت له هامشًا لزيادة نفوذ بلاده الإقليمي، هذا بالإضافة إلى أن ضم الأراضي بالقوة يشكل هاجسًا لدى الإيرانيين بسبب مشاكلهم الداخلية والمتعلقة بالعرقيات الأخرى كالكردية والبلوشية والعربية التي تطالب بالانفصال.
الخيار العربي
شهد بداية عقد السبعينات – مثلت نتائج حرب أكتوبر 1973، وتحول مصر نحو المعسكر الغربي، وإثبات العرب أنهم قادرون على الانتصار مجددًا؛ هذه النتائج بالإضافة إلى تخلي العرب عن الخيار العسكري ضد إسرائيل – متنفسًا للشاه الذي اعتمد في سياسته الخارجية مبدأ “الخيار العربي”، كانت إيران في هذه الفترة في أوج وقتها العسكرية والاقتصادية بسبب ارتفاع أسعار النفط والتحديث العسكري، ولذلك أصبحت تطالب بدور إقليمي أكبر، وقد كان الشاه يرى بأن هذا الدور لن يتحقق إلا بالتفاهم مع العرب، ولذلك فقد مال لخطب ودهم عن طريق دعم حقوقهم في مواجهة إسرائيل، والوقوف مع الحقوق الفلسطينية المشروعة.
فقد دعمت إيران الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للفلسطينيين، ودعمت حق العودة، وقيادم دولة مستقلة للفلسطينيين، ومع أن إيران لم تقدم أي خطة لدعم توجهاتها فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية، إلا أنه دائمًا كانت مع الخيار السلمي، فقد كانت ترى أن الخيار السلمي هو السبيل الوحيد لتحقيق هذا الحقوق، ولإبعاد منظمة التحرير عن التوظيف الخارجي خصوصًا من قِبل الاتحاد السوفيتي.
أما فيما يتعلق بالقدس والمستوطنات الإسرائيلية، فقد أبلغ الشاه رئيس الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في زيارته لإيران مطلع السبعينات بأن إيران لا تقبل أبدًا أن تكون السيادة على القدس بيد غير إسلامية، بالإضافة لانتقادها المتواصل لبناء إسرائيل المستوطنات، ومطالبة إسرائيل بالانسحاب الكامل.
بالنتيجة كانت مواقف الشاه متماشية مع المواقف العربية الرسمية، كانت إيران تقبل بحقيقة الأمر الواقع لوجود إسرائيل، وتتعامل معها وفق هذا المنطق، وتتعاون مع تل أبيب في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية، مع مطالبتها بضرورة منح الفلسطينيين حقوقهم من أجل تحقيق السلام وتخفيف حدة التوتر الأمني في المنطقة وذلك لإبقائها بعيدًا عن مغامرات السوفييت، وبذلك يكون الشاه متصالحًا في سياساته مع البراغماتية الواقعية التي تهدف إلى مضاعفة النفوذ والقوة.
يمكنك الاطلاع على المقال الأول من هذه السلسلة هنا