منذ أشهر طويلة، لا تكاد تمر بضعة أيام إلا وتسقط قذائف على مدينة كيليس التركية الحدودية مع سوريا، فتقتل وتجرح من المواطنين الأتراك واللاجئين السوريين على حد سواء، دون أن تستطيع تركيا حتى الآن إيقاف سقوط الصواريخ أو الحد من وتيرتها وما تسببه من أضرار وخسائر بشرية ومادية ومعنوية.
وتكمن مشكلة تركيا في أنها لا تستطيع القيام بطلعات جوية فوق سوريا بسبب الأزمة مع روسيا، وأن الكاتيوشا تطلق من على سيارات خفيفة الحركة، وبالتالي فالوقت المهدور بين استطلاع الطائرات بدون طيار وقصف المدفعية التركية يقلل جداً من فاعليتها، فضلاً عن قلة فاعلية القذائف المدفعية نفسها في هذه الحالات.
هذا الاستهداف المتكرر من قبل تنظيم الدولة – داعش لمدينة كيليس ظاهرة تستحق التوقف عندها بعمق، ليس فقط لأن المدينة مضرب المثل بالتعايش بين الأتراك والسوريين، وليس فقط لأنها المدينة التي يتجاوز عدد السوريين فيها عدد الأتراك (ولذلك فهي مرشحة لجائزة نوبل للسلام)، وليس فقط لأن التنظيم لم يعلن مسؤوليته عن أي من العمليات التي قام بها في تركيا وسط تأكيد أنصاره على عدم استهدافها، ولكن أيضاً لأن استمرار استهداف المدينة بهذه الطريقة قد يدفع أنقرة إلى خطوة عسكرية متقدمة قد تضعها وجهاً لوجه مع الدب الروسي المنتظر للحظة الثأر لمقاتلته التي أسقطتها أنقرة في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت.
البارحة، اجتمع المجلس الوزاري التركي ليناقش التهديد المستمر للمدينة وسبل مواجهته. وكان أن تقرر في الاجتماع منظومة متكاملة من الخطوات، من أبرز نقاطها:
1- زيادة فاعلية المواجهة العسكرية ومن ضمن ذلك رفع مستوى التواجد العسكري على الحدود، وقد أرسلت فعلاً أرتال عسكرية تركية إضافية إلى هناك تتضمن مدرعات وقاذفات صواريخ.
2- تعويض أصحاب المحلات والمهن المختلفة عن خسائرهم من جراء الصواريخ.
3- عمل وزارة العائلة والسياسات المجتمعية والوزارات ذات العلاقة على معالجة الآثار النفسية للتهديد المستمر لسكان المدينة.
الأهم ربما ، أن هذا الاجتماع قد تزامن مع مباحثات بين تركيا والولايات المتحدة بخصوص الحدود السورية – التركية والمنطقة الآمنة التي تطالب بها تركيا منذ فترة، يبدو أنها وصلت إلى نقطة متقدمة عن المحادثات السابقة، ومن تفاصيلها:
1- استخدام طائرات بدون طيار الأمريكية الهجومية المتواجدة في قاعدة إنجيرليك، والمحملة بصواريخ “نار جهنم” (Hellfire) لقصف مواقع داعش، باعتبار أن الطائرات بدون طيار التركية غير محملة بالصواريخ وبالتالي فهي استطلاعية فقط وغير قادرة على القيام بمهام هجومية.
2- الطلب من الولايات المتحدة نشر منظومة الصواريخ المدفعية عالية الحركة (HIMARS) على الحدود التركية – السورية، وقد صرح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أن الولايات المتحدة قد وافقت على الطلب التركي، وأن المنظومة ستنشر على الحدود الشهر القادم.
في المؤتمر الصحافي الذي عقده بعد اجتماع المجلس الوزاري أمس، سئل الناطق باسم الحكومة نعمان كورتلموش بشكل واضح عما إذا كان لدى الحكومة التركية نية بالتدخل البري في سوريا لمواجهة تنظيم الدولة – داعش، فأجاب باقتضاب مفتوح على تفسيرات عديدة وفضفاضة: “كل الحلول الممكنة موضوعة على طاولة النقاش”.
لكن وزير الخارجية التركي كان أكثر وضوحاً في حديثه لمراسلة صحيفة خبر تورك، حيث أكد حصول اتفاق أو توافق تركي – أمريكي مؤخراً تضمن، إضافة إلى ما سبق الحديث عنه من دعم عسكري أمريكي لتركيا للحد من قصف “داعش” للمدينة، بنوداً مهمة تتعلق بفكرة المنطقة الآمنة التركية التي ما زالت حتى الآن مرفوضة أمريكياً، بما في ذلك تصريح الرئيس الأمريكي قبل أيام عن صعوبة الأمر تقنياً.
الوزير التركي قال إن الاتفاق يقضي باستعمال إضافة للطائرات بدون طيار الهجومية ومنظومة (HIMARS) لإبعاد تنظيم الدولة عن الحدود باعتبار أن مدى الأخيرة يصل إلى 90 كلم (في حين لا يتخطى مدى المدفعية التركية 40 كلم) لتأمين “منطقة خالية من داعش” على مدى 98 كلم على الحدود التركية – السورية معتبراً أن “المنطقة الآمنة ستتشكل هكذا تلقائياً”.
أكثر من ذلك، كشف المسؤول التركي عن الخطوات اللاحقة على إجبار تنظيم الدولة – داعش على التراجع عن الحدود في منطقة منبج وعلى طول الحدود، وهي تقديم الدعم الجوي ومن داخل الأراضي التركية للمعارضة السورية لتتقدم ابتداءً من هذه المنطقة.
وفق هذا السيناريو، لا تبدو الخطة التركية بعيدة عن التصور الذي قدمه الرئيس اردوغان خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن على هامش قمة أمن الطاقة النووية للمسؤولين الأمريكان، والذي تضمن تقديم الدعم لمجموعات عربية – تركمانية في الشمال السوري لمحاربة تنظيم الدولة وإجباره على التراجع. خصوصاً وأن أنقرة لها حساسيتها الشديدة تجاه قوات حماية الشعب (الكردية) التي تحظى بدعم أمريكي كبير معلن رغم علاقتها العضوية – المثبتة تركياً – بحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في كل من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية.
الجديد إذن، وفق تصريحات وزير الخارجية التركي، هو الموافقة الأمريكية على ما كانت واشنطن ترفضه لسنوات طويلة. صحيح أن الوزير التركي قد استثمر الفرصة لتوجيه النقد اللاذع للدول الغربية حين اعتبر أن “المشكلة الكبرى لدول أوروبا الغربية هي ادعاء المعرفة والعناد بحيث لم يقتنعوا بصحة الرؤية التركية إلا مؤخراً ومتأخرين”، وصحيح أن “المنطقة الخالية من داعش” ليست تماماً “المنطقة الآمنة” التي كانت تركيا قد قدمت تصورها قبل سنوات ورفضها حلفاؤها، لكن الموافقة الأمريكية على هذا السيناريو – في حال ثبتت – تبقى تطوراً ملحوظاً ومهماً.
هذا هو الاتفاق وفق المعلن تركياً، في انتظار التصريحات الأمريكية التي عودتنا على التراجع والمراوغة والتفسيرات المختلفة، إذ الشيطان في النهاية يكمن في التفاصيل كما يكمن في التطبيق.