أتى التهديد بشكل واضح من أقوى رجل في الشارع العراقي بعد أسابيع طويلة من الاحتجاجات ضد الحكومة وفسادها: إذا لم تستجب الحكومة لمطالب المحتجين، فإنهم سيقتحمون المنطقة الخضراء، معقل الوزارات والسفارات منذ بدء الاحتلال الأمريكي عام 2003، وهي كلمات تبعها مقتدى الصدر بتدشين خيمته الخاصة في الميدان والتقاط صورة هناك.
لم يكن وقع تلك الكلمات هينًا على النخبة العراقية، لا سيما وقد خرجت من رجل اعتبره الأمريكيون يومًا أخطر رجل بالعراق، فقد استقال على إثر الاحتجاجات وزراء النفط والمواصلات والشباب، كما سرت أنباء بأن عددًا من المسؤولين وموظفي السفارات الأجنبية قد تركوا المنطقة الخضراء تجنبًا للمخاطر.
بينما تركز الحكومة العراقية على محاولات تدعيم شرعيتها المتآكلة بحث الجميع على الاصطفاف بوجه داعش، لا سيما في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية نتيجة هبوط أسعار النفط، وفقدان معظم الدعم السني للنظام الطائفي القائم، فإن مقتدى الصدر يحاول جاهدًا معاكسة تلك الجهود بشكل واضح بالتركيز على فساد الحكومة لإضعافها مقابل تعزيز موقعه، “أعداؤنا هم الدولة الإسلامية والسياسيون الفاسدون،” هكذا قالها أحد خطباء الجمعة في مقر الاعتصام الذي دشنه الصدر.
كيف لمع اسم الصدر؟
ظهر اسم الصدر عام 2003 بعد سقوط النظام البعثي، حيث ورث مقتدى الشاب أنذاك شبكة اجتماعية قوية بناها والده في أوساط الفقراء من الشيعة لا سيما في مدينة الصدر ببغداد، وقد عُرَفت الحركة في تلك الفترة بعدم موالاتها للولايات المتحدة على غرار معظم الأحزاب الشيعية، والتزامها بمعاداة إسرائيل والولايات المتحدة حتى ولو كانت الأخيرة هي السبب في نهاية جحيم صدام، وهو ما أدى لموقف الصدر الشهير بدعم المقاومة السنية في الفلوجة ضد الاحتلال الأمريكي.
علاوة على ذلك بذل الصدر جهودًا أكثر من غيره ربما لكيلا تتحول حركته إلى مجرد دُمية إيرانية، فجيش المهدي الذي تأسس بعد 2003 يتمتع بعلاقات جيدة مع إيران ودعم قوي من جانبها، إلا أنه حريص على خلق صورة “عراقية عربية” لدوره السياسي والعسكري، وعلى الرُغم من مشاركته في الحرب الأهلية التي شهدتها العراق خلال العقد المنصرم، وضلوعه ربما في بعضٍ من أسوأ المواجهات ضد السُنة، فإن الصدر كان ولا يزال حريصًا على تأكيد الطبيعة الإسلامية لحركته لجذب السُنة قدر الإمكان، دون التفريط في قواعد الحركة الشيعية، في محاولة لخلق حراك عربي إسلامي بقيادة شيعية.
أحد مقاتلي جيش المهدي
كانت محاولات الصدر لجذب السنة واضحة عام 2013 حين قرر دعم التظاهرات العربية السنية في محافظة الأنبار ضد حكومة نوري المالكي الشيعية، والتي وصفها البعض بالربيع العربي العراقي، وإن كان ظاهر موقفه يبدو متجاوزًا للخطوط الطائفية الحالية في السياسة العراقية، فإن البعض يذهب إلى أن تحركاته تجاه السنة ليست سوى سياسة براجماتية لتوسيع قاعدة مؤيديه بوجه خصومه الشيعة في السلطة، والأكثر قربًا من إيران، والأكثر بُعدًا عن الهوية العربية.
يحاول الصدر حاليًا أيضًا تجنّب تهميش جيش المهدي بحُجة مواجهة داعش، لا سيما وقد قرر الانضواء تحت مظلة ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية والطائفية لكيلا يفوته نصيب من كعكة “الحرب على داعش” بشكل يجعل الميليشيات الشيعية الأخرى في موقع أكثر قوة على الساحة العراقية، وهو ما يشي ربما بفقدان الصدر لهامش مناورة واسع نتيجة خروج الأمريكيين بشكل مباشر كعدو للعراق يمكن بسهولة حشد العراقيين ضده على حساب الفصائل الشيعية المقربة من واشنطن، وظهور داعش العربية السُنية بالأساس كخصم يسهل على الحكومة العراقية المدعومة أمريكيًا وإيرانيًا، والمكروهة سابقًا، الحشد من أجل مواجهتها على حساب أية أجندات قومية عراقية، ولعل بعض المواجهات التي وقعت بين الصدر وميليشيات شيعية أخرى تشي باستمرار تعارض المصالح بين الطرفين رُغم اصطفافهما كما يفترض بوجه داعش.
بوجه تآكل مساحة المناورة تلك أمام الصدر، لم يكن غريبًا إذن أن يستغل الرجل ضعف الحكومة وفسادها والسخط العام بوجهها لفتح مساحة جديدة لا يمكن سوى لحركته هو فقط أن تتوغل فيها بالكامل، خاصة بين فقراء الشيعة الذين طالما هيمنت الحركة بينهم تمامًا، وهي مساحة الاحتجاجات الشعبية ضد فساد الحكومة، وهو ما يفسر بالطبع تركيزه على أن العدو الأساسي يقبع في الداخل ممثلًا بفساد الحكومة بقدر ما يقبع بالخارج ممثلًا في داعش، وهو خطاب نجح معه في حشد أكثر من مائة ألف محتج عراقي بشوارع بغداد أمام أسوار المنطقة الخضراء، ليعود للواجهة السياسية بالعراق ويحافظ على صورته كأقوى رجل شيعي بالعراق.
ماذا يريد الصدر؟
يُدرك الصدر الآن أن ميليشيا المقاومة ضد الأمريكيين ليست كافية من أجل مشروعه السياسي، والذي يحاول عن طريقه بوضوح محاكاة حزب الله في لبنان وإن اختلفت الأفكار قليلًا، فهو يريد تشكيل قطب سياسي واجتماعي واقتصادي شيعي في العراق يصبح الطرف الأقوى في المعادلة، لا سيما بالنظر لتمركز ميليشيا المهدي الخاصة به حول النجف وكربلاء المقدستين لحمايتهما، بيد أنه في نفس الوقت أدرك الآن بعد رحيل الأمريكيين وتحول الشرق الأوسط بعد الربيع العربي، أن ظهور داعش يعطي الميليشيات الشيعية الأخرى الأكثر قربًا من إيران سببًا قويًا لحشد الشيعة بالعراق، وهو ما يجبره على فتح مساحتين للتحرك بوجه تلك المنافسة.
أول مساحة هي محاولة خلق صورة عراقية عربية إسلامية لحركته واستمالة أكبر قدر من السنة، وهو أمر ليس بالهين كما ذكرنا نظرًا لضلوعه في مذابح ضد السنة سابقًا، فهناك قطاعات واسعة من السنة لا تزال تفضل العيش تحت استبداد داعش ولا تأمن لأي فصيل شيعي مهما كان، أضف لذلك أن تصور الصدر في نهاية المطاف هو لعراق ذي غالبية شيعية، ولحركة عربية إسلامية بقيادة شيعية، في حين يشكل عامل الجذب الرئيسي للسنة باتجاه داعش استعادة فكرة النظام السني بالكامل كما كان العراق يومًا أيام حزب البعث.
المحتجون العراقيون في بغداد يحملون صورة مقتدى الصدر
أما ثاني مساحة أمام الصدر فهي المعارضة الاحتجاجية من الداخل بوجه ضعف الحكومة مستغلًا في ذلك أزمة النفط وفساد الحكومة بشكل عام، وهو ما استتبع إذن تحوّل أولويات الصدر من الهوس بتشكيل ميليشيا مقاومة فقط، كما كان الحال في 2003، والحفاظ على شبكة أبيه الاجتماعية الدينية، إلى التحوّل نحو تحريك تلك القواعد الشعبية لتشكيل قوة ضغط داخلية، واستغلال جيش المهدي بقواعده الأساسية في الجنوب لترسيخها هناك في المعاقل الشيعية على غرار حزب الله، وإن كان الصدر مستفيدًا من المشاركة تحت مظلة الحرب على داعش، فإنه مستفيد أيضًا بانشغال ميليشيات الحشد الشعبي بالكامل بالنصيب الأكبر من المعارك مع داعش، بل ودخولها أيضًا في مناوشات مع بشمرجة شمال العراق.
بينما تعكف تلك الميليشيات الشيعية على تعزيز صورتها ببطولاتها ضد داعش، يبرز أمام مقتدى الصدر تحدٍ رئيسي، وهو كيف يحافظ على موقعه السياسية عبر كُتلة الأحرار التابعة له في البرلمان، ويضمن عدم تراجعها في الانتخابات المقبلة، وهو سيناريو كارثي بالطبع بالنسبة له، ولعله السبب الرئيسي في دفعه نحو الانضمام للحرب على داعش رُغم عدم رغبته في الالتزام السياسي بتلك المعركة الآن إلا إذا وصلت لمعاقل الشيعة بالجنوب، وإدراكه لاستغلال الحكومة لها لتعزيز رصيدها بين الشيعة على حسابه.
في هذا السياق، وكما فعل الصدر يومًا ما ضد الأمريكيين، يمكننا فهم تحوّل الصدر بين ليلة وضحاها من قائد ميليشيا بالأساس، إلى زعيم احتجاجات شعبية، فعلى غرار نصر الله في لبنان، ورُغم أن النظام الطائفي العراقي الحالي شيعي، إلا أن كليهما يستفيد دومًا من ضعف المركز الممثل في الدولة الوطنية، كحركات إسلامية اجتماعية وسياسية في المقام الأول، وكأقطاب عسكرية شيعية في المقام الثاني.
لقد تحرّك الصدر في الأيام الأخيرة إذن من معاقله في النجف إلى شوارع بغداد، حيث تقبع الدولة بمؤسساتها، لاحتلال مساحة سياسية جديدة، لا سيما وقد قرر في أولى خطواته هناك تشكيل لجنة من النشطاء الشيعة والسنة والأكراد والعلمانيين، وهي لجنة ستعكف على طرح حلول اقتصادية للحكومة لحل الأزمة الراهنة، في إشارة واضحة منه على قدرته كزعيم شيعي أولًا حشد طيف أوسع من العراقيين، على عكس القائمين على النظام القائم، وثانيًا على قدرته تولي مهام الإصلاح بشكل فعلي، وأن الحراك الشعبي الذي قدمه ليست مجرد شعارات واعتصامات، بل بديل حقيقي أقوى وأكثر تعبيرًا عن العراقيين.