باللون الأحمر اصطبغت الشاشية التونسية فتجملت وتجلت في أبهى حلة، لتروي في اعتزاز وشموخ، عن حضارات قد مرت من أرض إفريقية وتاريخ عريق أبت العصور والسنون أن تمحيه.
والشاشية هي الطربوش التقليدي، التي يرجع اسمها حسب بعض المراجع التاريخية إلى النعت المشتق من “شاش”، وهو الاسم القديم لمدينة “طشقند” عاصمة جمهورية أوزبكستان، وإحدى القواعد العامرة في ما كان يُعرف ببلاد ما وراء النهر إبان الفتوحات الإسلامية لوسط آسيا.
وتصنع الشاشية التونسية من الصوف المقرشلة والمغزولة من طرف الصانعات التقليديات اللواتي يصنعن الكبوس، بعد نسجها يقوم الصناع بتبليلها بالماء الساخن والصابون ودعكها من أجل تنشيفها لدرجة أن خيوط النسيج تلتحم فيما بينها، وبعد هذه العملية تمشط الشاشية حتى يتحول الملف إلى قطيف مزغب.
وحين تعبر الأزقة الضيقة العتيقة بسوق الشواشين الواقع بمحاذاة الجامع الكبير لمدينة تونس، والذي يعد من أبرز أسواق المدينة، حيث يمتد هذا السوق على مساحة شاسعة نسبيًا، ويتكون من ممر مسقف بقباء مضلعة، يكتنفه صفان من الدكاكين تستعمل لصناعة وعرض الشاشية، تحملك الصور إلى تاريخ مضى ويدفعك إلى البحث عن أصل الشاشية والنواة الأولى لبادرة صنع الشاشية الحمراء المتجملة بأيادي حرفية متقنة غزى الشيب الأبيض رأسها وهي منكبة لسنين وسنين تبتكر من الصوف شاشية.
وتروي المراجع التاريخية أنه حين وصلت الجيوش الإسلامية الفاتحة سنة 670م، بقيادة عقبة بن نافع، إلى مدينة القيروان عاصمة الأغالبة، لفتحها ونشر الإسلام فيها، كان من بين عناصر الجيش فرسان من مدينة شاش من الفرس ترتدي الشاشية، ومنها استمدت النواة الأولى لصناعة الشاشية، فكانت الشاشية القيروانية.
ومن عاصمة الأغالبة، القيروان التونسية إلى فاس المغربية انتقلت صناعة الشاشية، التي سميت على اسم المدينة فاس، ويقال إنها انتقلت كذلك في نفس الفترة إلى بلاد الأندلس بإسبانيا لأسباب اقتصادية وسياسية، خاصة أن الأندلس عرفت ازدهارًا كبيرًا في تلك الفترة، حيث ابتكرت “الشاشية الأندلسية” التي استمدت فكرتها من “الشاشية القيروانية“، فازدهرت صناعتها وانتشرت في كامل ربوع الأندلس وظلت إلى حين طُرد المسلمين من الأندلس متجهين إلى الشمال الإفريقي، وكان من بين الوافدين صناع الشاشية.
وقد كان لقدوم أولى أفواج المهاجرين الأندلسيين سنة 1632م إلى تونس تأثيرًا كبيرًا على تطور صناعة الشاشية فعرفت أوج تطورها خلال القرنين الـ18 والـ19 وتم بناء السوق الصغيرة والكبيرة من قِبل حمودة باشا الحسيني بين سنتي 1197هـ الموافق 1782م و1230هـ الموافق 1814م.
وتعد الحرف المتعلقة بالشاشية نشاطًا تقليديًا مربحًا في تلك الفترة، حيث ساهم في تطويره وتنشيط صناعته هؤلاء المهاجرون القادمون إلى البلاد التونسية، وقد كان هذا النشاط حكرًا على مدينة تونس كما كان له طابع احتفالي وآليات وقواعد خاصة به.
وعلى غرار الحرف التقليدية الأخرى كان لهذا القطاع أمين يسهر على آداب المهنة وأخلاقياتها ويعمل على تسوية النزاعات فيما بين المهنيين من ناحية وبين الحرفيين والزبائن من ناحية أخرى.
وحتى مع قدوم الاستعمار الفرنسي إلى البلاد التونسية سنة 1881م، استطاعت الشاشية أن تحافظ على مكانتها وتُلبس من قِبل جل فئات الشعب التونسي، وخاصة النخبة المثقفة منهم.
وعبر عصور وقرون مضت وتوافد حضارات متنوعة ومختلفة على البلاد التونسية، تمكنت الشاشية التونسية التقليدية أن تسمو بنفسها وتحافظ على مكانتها في كامل أنحاء البلاد وفي خطى ثابتة، للمحافظة على هذه الصناعة اليدوية الجميلة، وقد تناقلت الأجيال هذه الحرفة القيمة لصناعة الشاشية جيل بعد جيل، وكانت تعد من اللباس الرسمي التونسي فلا تجد فردًا لا يرتدي شاشية حمراء فوق رأسه، وترمز إلى هوية شعب عريق غني بتاريخ يروي جذوره العربية والإسلامية في آن واحد.
وقد حافظ الطلبة الزيتونيون على لباس الشاشية لسنين طويلة، فأصبح المشايخ يعرفون بلباسهم المعتاد للشاشية الحمراء وبالتالي فقد عدت رمزًا من رموز التعليم الديني في تونس.
غير أنه اليوم لم تعد الشاشية التونسية ذات الطابع الأندلسي تصنع لغاية الاستعمال اليومي من قبل جل فئات الشعب التونسي، الذي انفتح شبابه على المجتمعات الأوروبية وأصبح يستهلك منتجاتها في قطاع النسيج واللباس الجاهز، فتراجعت بذلك مكانة الشاشية ولم نعد نراها إلا في المناسبات الدينية، الأعياد، حفلات الزواج، الختان، وفي مناسبات وطنية للاحتفال باللباس التقليدي.