“قرر الرئيس محمد حسني مبارك تنحيه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد والله الموفق والمستعان” نائب الرئيس المخلوع، ورئيس جهاز المخابرات العامة عمر سليمان.
هذه الجملة التي قد تبدو مجرد إعلان بتنحي رئيس جمهورية وإعلان تولي الجيش إدارة البلاد، لكن هذه الجملة ببساطة تكوينها اللغوي إنما تعلن بوضوح شكل منظومة الحكم وتشابكاتها داخل الدولة المصرية، ففي هذه الجملة تظهر ثلاث مؤسسات تحدد ملامح توزيع القوى في مصر.
فمحمد حسني مبارك رغم قوته الظاهرة والمركزية التي كانت تبدو في فترة حكمه وأن مقاليد الأمور والحكم كلها في يده، فلطالما ظهر على شاكلة الرئيس الذي يقرر ويعطي الأوامر بشكل واضح للجهات المسؤولة؛ ما كان يوقع في النفوس والعقول أن الرئيس هو صاحب السلطات داخل الدولة ومركزها وأنه المهيمن على كل شيء، لكن هذا التصور لم يكن هو الحقيقة الكاملة في الوضع المصري فيما قبل يناير، فالوضع كان أكثر تعقيدًا وتشابكًا مما كان يبدو عليه.
فمراكز القوى – تحديدًا داخل الدولة المصرية في عهد مبارك – كانت موزعة بشكل رئيسي بين ثلاث جهات واضحة المعالم؛ وهي مؤسسة الرئاسة ويحتل واجهتها الرئيس ومن خلفه الحزب الوطني وشبكات رجال الأعمال المقربة من أصحاب النفوذ داخل الحزب، وينضوي أيضًا تحتها رئاسة الوزراء، يلي الرئاسة، منظومة الجيش المصري التي ظلت قويةً ومتماسكةً ومحتفظةً بقوتها حتى آخر عهد المخلوع، وظهر ذلك بوضوح في أن مؤسسة الجيش طوال عهد مبارك لم تسمح له بأن يورطها في معاركه الخاصة أو رهاناته، ولم تكن تدخل هي بنفسها في معارك لا تخصها، ولم تكن تتصدر للشأن العام إلا فيما كان يمس مصالحها بشكل مباشر، ويمكن أن نرى ذلك بوضوح عبر ما أشارت إليه تسريبات “ويكيلكس” عن رفض طنطاوي لاقتراح مبارك باستخدام الجيش في ملف الإرهاب ومحاربته وإدخال الجيش في معارك من هذا القبيل.
تقع المخابرات في المرتبة التالية للجيش المصري مباشرة في ترتيب مراكز القوى، تنبع قوة المخابرات المصرية في عهد مبارك من الملفات التي كانت تتولى مسؤوليتها وحدها، وكانت تُمنح لها مطلق الحرية للتصرف فيها وإدارتها بما لا يتعارض مع سياسات الرئيس العامة، وعلى رأس هذه الملفات كان ملف العلاقة مع قطاع غزة وحركة حماس على وجه الخصوص، لكن اللقطة التي أبرزت دور المخابرات الواضح ومدى قوتها داخل منظومة الحكم المصرية، كانت ظهور عمر سليمان المفاجئ في مشهد يناير بقوة ووضوح وتوليه منصب نائب رئيس الجمهورية وأنه من قاد الحوار مع القوى السياسية أثناء احتشاد الجماهير في ميادين الجمهورية، وأنه هو من ألقى خطاب التنحي بدلًا عن مبارك معلنًا بدء حقبة جديدة في تاريخ مصر الحديث.
إذًا بدا واضحًا أن الدولة المصرية في أيام مبارك كانت تتوزع فيها مراكز القوى والسلطات على ثلاث جهات؛ الرئاسة ومن خلفها حزب الرئيس والقوات المسلحة و المخابرات العامة، حتى وإن تفاوتت صلاحيات ونفوذ كل منهم في بعض الأحيان لكن كان ذلك التوزيع والتنوع واضحًا في التعامل مع الملفات المختلفة، وكان أحد أسباب ومقومات استمرار حكم مبارك لتلك الفترة الطويلة التي قضاها على كرسي الرئاسة هو حفاظه على التناغم بين تلك المؤسسات وسعيه الدؤوب لاستمراره أطول فترة ممكنة، وعمل تلك المنظومات بشكل شبه مستقل عن بعضها البعض بما في ذلك القرارات المهمة للدولة، وبما في ذلك أيضًا توزيع شبكات الفساد فيما بينهم وسكوت كل منهم عن فساد الآخر، حتى وصل الأمر أن الفساد أصبح منتشرًا بشكل شبكي بين هذه المؤسسات الثلاث وبشكل مؤسسي، والمثال الأوضح على أهمية هذا التناغم في منظومة الحكم التي كانت قائمة وأن اختلالِه قد يؤدي إلى انهيار المنظومة هو اختلافها على مسألة التوريث والتي أدت في النهاية إلى مشاركة الجيش في الإطاحة بمبارك.
إذا أمعنا النظر الآن في الوضع القائم داخل أروقة الدولة المصرية وتفاعلاتها، سيتضح لنا أن عبد الفتاح السيسي يحاول وبشدة أن يضع جميع السلطات في يده هو ولا أحد غيره ويرفض وبشدة أن يشاركه أحد في تلك السلطات والصلاحيات، فحتى اختياراته للحلفاء المحليين تظهر وبوضوح أنه يقوم باختيار من يستطيع توجيههم والسيطرة عليهم ويسهل التخلص منهم في المستقبل إذا ما توسع نفوذهم.
وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التحليل الذي يفيد بأن إقالة السيسي لوزير الداخلية السابق محمد إبراهيم جاءت في إطار تخوفه ورفضه لتوسع نفوذه وقوته حتى ولو كان إبراهيم الذي كان مع السيسي كتفًا بكتفٍ ويدًا بيدٍ منذ الثالث من يوليو، ولو كان ذلك في نطاق محدود لا يتعدى أسوار وزارة الداخلية، هنا يبرز على السطح تصريح السيسي “مفيش حاجة اسمها نظام، في دولة”، إذًا لا فرق عند السيسي بين النظام الحاكم والدولة، وعندما نرى ما يقوم به السيسي من احتكار لأدوات السلطة وحده فهو يرسل رسالة مفادها هي أنني أنا النظام وأنا الدولة وأي تهديد يمسني هو تهديد مباشر للدولة.
بعيدًا عن حالة التقهقر والفشل غير المسبوق التي تعيشها الدولة المصرية على الأصعدة السياسية والاقتصادية، وحالة التفتت والتناحر داخل النسيج الاجتماعي المصري التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر، فإن ما يقوم به السيسي من إقحام لمؤسسة الجيش وقادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مخططاته ومن ورائهم جميع مؤسسات الدولة، ومحاولاته للسيطرة على جميع مراكز القوى واستغلالها لمصلحته الخاصة وكضمانة لبقائه، هو أمر لم تشهده البلاد من قبل، وفي نفس الوقت فهو رهان خطير يهدد بقاء واستمرارية دولة يوليو؛ فهو يقحم الجيش في جميع صراعاته السياسية وأزماته الداخلية المتفاقمة ومشاريعه المستقبلية، فنرى استخدامه المتكرر واعتماده على الذراع الاقتصادي والخدمي للجيش، بدءًا من توزيع المعونات على المواطنين في مشهد مهين وكأنهم مجموعات من اللاجئين وصولًا إلى ما أطلق عليه مشروع قناة السويس الجديدة.
ورغم أن هذا الذراع موجود وله تواجد اقتصادي واضح منذ أيام مبارك لكن لم يتم استخدامه وابتذاله بهذه الطريقة من قبل، فنرى السيسي يلقي عليه حمل كل أزمة اقتصادية تمر بها البلاد حتى صار الأمر مدعاة للسخرية والتندر داخل المجتمع.
وهكذا أيضًا زجه بالجيش في عمليات قتل وقمع، وما أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث عنّا ببعيد، لكن الحدث الأضخم والأكثر فداحة هو اشتراك الجيش في عمليات قتل وتهجير للمواطنين في سيناء تحت غطاء “محاربة الإرهاب”، وبالعودة لما قام به طنطاوي يبدو الفرق واضحًا.
إذًا، السؤال الذي يطرح نفسه على المشهد المصري، هل تقبل الدولة ومؤسساتها ومراكز القوى بداخلها قيادة السيسي لها ومحاولاته المستمرة والدؤوبة للاستئثار بكل الصلاحيات والسلطة، ونزع هذه المراكز والمؤسسات قوتها وسلطتها وجعلها مجرد وسيلة بيده؟ وإذا اعتبرنا أن إجابة هذه المؤسسات هي الرفض فإلى أي مستوى قد يصل هذا الرفض؟ وما الذي قد يترتب عليه من أفعال وخطوات؟ خصوصًا في ظل رؤية المنظومة العالمية للسيسي كخادم مطيع يحقق مصالحها لم يسبق له مثيل حتى في أضعف فترات حكم مبارك، وهو ما سنقوم بالتطرق إليه وتفصيله في المقال القادم.