بالنسبة لكل مخرج في عالم السينما، فالتحدي الأول يكون دائمًا في تحويل هذه الحكاية التي أمامه بما تحتويه من مشاعر وانفعالات على الورق في شكل كلمات وحروف، إلى شخصيات ومشاهد تتحرك على الشاشة؛ لذلك يبدأ كل مخرج في البحث عن طرق مميزة للوصول لهذا الهدف، وهذا ما أعطى الميلاد لكثير من التقنيات المختلفة في الإخراج، مثل تعدد زوايا اللقطة(High Angle – Low Angle) أو أحجامها(Wide Shot – Medium Shot – Close-up) وغيرها من الطرق في حركة الكاميرا، وفي القطع بين لقطة وأخرى في نفس المشهد أو بين مشاهد مختلفة.
يستخدم المخرجون تنوعات مختلفة من هذه التقنيات لمحاولة إخراج حكاياتهم بأكثر شكل مؤثر لتصل للمشاهد كما يرونها، لكن ماذا لو كان بإمكانك الوصول لهذا الهدف بدون استخدام كل هذه التراكيب المعقدة من التقينات؟ ماذا إذا كنت متمكنًا من هذه التقنيات جميعًا بشكل عميق جدًا حتى إنك تستطيع استخدامها بأكثر الصور بساطة دون الكثير من الصخب على الشاشة الكبيرة؟ وهذا بالتحديد ما يفعله “مايكل هانكا”.
حتى الآن قام مايكل هانكا بصناعة 11 فيلمًا على مدار 17 عامًا، شاهدهم جميعًا، نادرًا ما ستجد استخدام معقد ومكثف لهذه التقنيات إلا عند الضرورة الشديدة، وفي الغالب لن تتعدى مرة أو مرتين خلال ساعتين من أحد أفلامه، وقبل أن تتسرع في الحكم وتظن أن هذا قد يكون مجرد كسل أو عدم قدرة على استخدام هذه الأدوات، فعليك أن تعرف أولًا أن أغلب المشاهد في أفلام هانكا تعتمد بشكل أساسي على الـLong Shots بمعنى أنه يتم تصوير الحدث كله في المشهد مرة واحدة دون القطع فيه واستخدام أكثر من زواية، وهذه تعتبر من أكثر التقنيات تعقيدًا وصعوبة في صناعة الفيلم، وتتطلب مخرجًا متملكًا تمامًا من كل ما حوله في موقع التصوير، أو كما قد يشبهونها أحيانًا بأن المخرج يتحول إلى إله صغير في موقع التصوير.
بالإضافة لذلك، ففي عالم صناعة الأفلام فيما يتعلق بتقنيات الصوت هناك مفهومان أساسيان Diegetic sounds and non-diegetic؛ الأولى هي كل الأصوات الطبيعية التي تحدث من خلال أشخاص وأشياء موجودة بداخل المشهد بالفعل، والثانية هي الموسيقى التصويرية التي يتم إضافتها في وقت لاحق، لم يستخدم هانكا في أي من أفلامه النوع الثاني، وكل الأصوات في أفلامه هي أصوات من داخل المشهد سواء كانت موسيقى يتم عزفها من خلال أحد الشخصيات، أو أصوات طبيعية لاصطدام أطباق وأكواب لأسرة أثناء تناولها طعام الإفطار.
إذا كان هانكا متمكنًا من كل هذه التقنيات لماذا لا يستعملها إذًا بالشكل المعتاد كباقي المخرجين لصناعة مشاهد ملحمية تتحرك فيها الكاميرا بجنون وتتعالى أصوات المقاطع الموسيقية لتجذب حواس المشاهد وتسيطر عليها تمامًا؟ هل يحاول هانكا التظاهر وجعل أفلامه مجرد أحجيات يستعصي على المشاهد فهمها؟ لا أظن ذلك على الإطلاق، يمكنك التفكير في الأمر بشكل مختلف، إذا كانت هذه الحكاية موجودة على الحقيقة وكنت أنت جزءًا منها، هل ستقوم فجأة بالذهاب قريبًا لوجه أحد الشخصيات وتنظر لحركة عينيه؟ أو ليديه وهي تمسك الهاتف على أذنه وتهتز؟ أو تنام على الأرض وتنظر لفمه وهو يتحرك بينما يعنف شخصية أمامه ليظهر القوة؟ أو هل ستبدأ فجأة موسيقى ملحمية بالعزف في خلفية المشهد بينما تتحرك في السماء وتنظر ناحية بطل القصة؟ إذا كنت بالفعل جزءًا من الحكاية فلن يحدث هذا كله، بل ستجد نفسك موجودًا في محيط المشهد تراقبه وتعيشه كاملًا في نفس الأبعاد التي تعيش فيها حياتك اليومية بكل عناصرها، وهذا ما يصنع بداخلك التأثير الأعمق الذي لا يقتصر على ساعتين من الإثارة فقط وإنما يستمر معك بعد ذلك ويقتحم عليك حياتك كأنه حدث حقيقي عشته، وهذا ما نظن أن هانكا يحاول تقديمه.
هانكا يؤمن أن تجربة المراقبة التي يعيشها الإنسان في واقعه اليومي بكل ما فيها من العوامل تكفي لإيصال حكايته، فيضع كاميرته عند التصوير في نفس مستوى ارتفاع ممثليه وعلى بعد منهم بمسافة تضع المشاهد كمراقب للمشهد من داخله (medium shot) وسيحرك كاميرته كعيني المشاهد أيضًا عند الضرورة فقط لتتبع حركة الممثلين.
لا يتوقف الأمر عند تقنيات الإخراج، ولكن على مستوى الكتابة أيضًا، فلهانكا أسلوب مميز ومختلف عن الكثير من صناع الأفلام المعاصرين له، هناك سؤال، كم مرة شاهدت فيلمًا ثم ذهبت لتقرأ عنه بعدها واكتشفت أن للفيلم والقصة معنى ودلالات أكبر مما أدركتها خلال مشاهدته؟ وأن كل جزء من الفيلم له إسقاط ويدل على حدث أو واقعة خارجه وأنهم كل مرتبطون لتكوين فكرة معينة أراد المخرج إيصالها لكنه لم يحكها بشكل مباشر في فيلمه، حسنا هذا بالتأكيد أسلوب مميز في صناعة الأفلام، لكن ماذا إذا كان بإمكانك أن تخبر كل هذه الجذور لقصتك من خلال الفيلم أيضًا؟ وأن تفعل ذلك بشكل متقن تمامًا، أو بالإنجليزية Subtly، وليس هناك مرادف مباشر لهذه الكلمة في العربية وحتى تعريفها بالإنجليزي غير واضح، لكن يمكننا القول إن الـSubtly أن تقدم الفكرة التي تريدها بشكل لا يظهر أنه واضح جدًا أو بديهي فيكون مباشرًا وعظيًا وسخيفًا، ولا أن تقدمها بشكل غامض جدًا ومبهم فيلتبس على المتلقي ولا يفهمه.
وهذا ما يفعله مايكل هانكا، لن يطلب منك هانكا أن تكون قارئًا دؤوبًا أو ناقدًا للأفلام لتذهب بعد كل فيلم من أفلامه وتبدأ في القراءة عنه والبحث عن معنى كل رمز وضعه فيه ودلالته، لن يفعل ذلك، لا يستهدف هانكا هذا النوع من الجمهور إطلاقًا، بل الجمهور الحقيقي الذي يصنع هانكا من أجله أفلامه، هم المشاهدون العاديون الذين يقضون العديد من الساعات أمام التلفاز ويدخلون السينما مرة في الأسبوع للانفصال عن روتين حياتهم اليومي والترويح عن أنفسهم، لكن أيضًا عليك أن تعرف أن اختياره لهذا الجمهور ليس معناه أنه دائمًا سيقدم ما يرضيهم ويشبع رغباتهم بالشكل التقليدي.
سيقدم لك مايكل هانكا خلال ساعتين من فيلمه كل ما يملكه من أفكار وحكايات عن القصة التي يريد تقديمها، وارتباطًا بالجزء الأول من المقال سيفعل ذلك من خلال الشكل والمحتوى ليترك الأمر بين يدي المشاهد ليعمل عقله ويختار تفسيراته الخاصة ويحددها بعيدًا عن الإجابات السهلة والمباشرة، من أحد أهم الأمثلة على ذلك من خلال أفلامه، هو تحفته الفنية Cache، في هذا الفيلم يقدم هانكا تناول لواحدة من أسوأ المجازر في تاريخ أوروبا الحديث حيث قامت شرطة باريس بقتل ما يقارب من 200 جزائري في مظاهرة سلمية، وسط تجاهل مجتمعي واسع على مدار العديد من السنين بعدها، ستعرف هذه القصة من خلال الفيلم وسيحكيها لك مايكل من خلال مجموعة من الأحداث الغريبة التي تحدث لعائلة من الطبقة الغنية حيث يبدأ مجهول في إرسال تسجيلات فيديو مريبة لمنزلهم من الخارج ويتركها لهم عند الباب، وسيتركك في نهاية الفيلم لتختار بين أن يكون كل ما تريده فقط هو أن تعرف من هو الشخص المجهول الذي يرسل الفيديوهات في سياق الفيلم أو أن تختار أن توجه انتباهك للقصة التي حدثت في نفس العالم الحقيقي الذي تعيش فيه ويتكرر حدوثها كل يوم.
لا يحب هانكا المشاهد الغائب بالتأكيد، الذي يترك عقله للتلفاز أو الوسط الإعلامي الذي يعرض نفسه له ليوجهه حيثما شاء ويشكل رأيه بالشكل الذي يريده، وعلاقة هانكا المتوترة بالإعلام ومقته الشديد له هو من أحد أهم العلامات الواضحة تمامًا من خلال أفلامه، وقد يكون أحد أهم الأسباب لذلك هو أن هانكا قد عمل ما يقارب ١٠ سنين في التلفزيون قبل بدء مسيرته الأسطورية في صناعة الأفلام.