لقد شهدت في جوهانسبيرج عام 1994 إعلان نيلسون مانديلا حقبةً جديدةً في جنوب أفريقيا. وُلِدَت حينها أمَّة جديدة ، ومعها ولد أمل جديد، صنع تحولات عميقة ؛ نحو المصالحة، والاستقرار، والديمقراطية. وكانت هذه لحظة عبقرية في التاريخ؛ لأنها سمحت للجديد أن يولد بعد نضال طويل ومخاض عسير.
وبعد أكثر من عقدين على تلك اللحظة الرائعة، لا تزال جنوب أفريقيا منطلقة نحو مستقبل من الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي.
كان ميدان التحرير في عام 2011 لحظةً مماثلةً؛ فقد اندلعت شعلة الأمل في قلوب وعقول شعوب هذه المنطقة. شعر كل العرب أنَّ لديهم فرصة للتحرُّر من الاستبداد والدكتاتورية. لم يكُن «التحرير» الذي تاق إليه الناس في «ميدان التحرير» من إرثٍ سياسيٍ مظلمٍ فحسب؛ إذ سعوا إلى تحرير جوانب أخرى من حياتهم، وإلى طريق يُخرجهم من العوالم المغلقة التي كانت تُحيط بالمعرفة، والثقافة، والتقاليد؛ ويضع حداً للطائفية.
أصبح ميدان التحرير الساحة التي اجتمع فيها المسلمون، والمسيحيون، والعلمانيون، واليساريون، والإسلاميون، والقوميون للاحتفاء بقيم الحرية والديمقراطية، وبآمالهم في مستقبل أفضل. كانت هذه هي طريقة المصريين، ومن قبلهم التونسيين، وجميع الدول الأخرى في العالم العربي لإظهار أفضل ما في نفوسهم. لقد كانت هذه الصفات الجديدة موجودةً لأجيالٍ، ولكنها لم تخرج إلى النور وتُعلَن على الملأ حتَّى ذلك الحين. حَرَّرنا ميدان التحرير من كل الذكريات السيئة، والتراث الثقيل الذي لا يُطاق، والاكتئاب العميق الذين مرَّت به شعوب الشرق، والعالم الإسلامي، والعالم العربي منذ عقود.
وُلِد عالم جديد في تلك اللحظة المفعمة بالأمل، والإلهام، والعبقرية؛ وانبعث أجمل ما فينا: أمل وحب وانسجام، لكن الفجر الذي أضاء ليل العرب في تلك اللحظة العبقرية لم يكن فجرا صادقا، فقد اجتمعت عليه قوى كثيرة فأجهضت ولادته، عندها حلَّ أبشع ما في نفوسنا محلَّ أفضل ما فيها. الأمَّة نفسها والشعب نفسه، نفس الذين الذي احتفوا بالقِيَم، والتنوُّع، والتسامح والذين تجمَّعوا لتصوُّر مستقبل واعد، أستيقظ في أنفسهم بعد إجهاض الأمل أسوأ ما لديهم من يأس وعنف وانهيار. اختاروا التركيز على الموت بدلاً من الحياة؛ ببساطة لأنَّ «الحلم الذي مسَّهم مرَّة» لم يستمر؛ اختنق وتنحى موسعا الطريق لعتمة لا يُعرف منتهاها.
كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟ لقد اجتمع مساران في مفترق طرق: مسار السياسة ومسار التاريخ. تسبَّبت هذه المنطقة وأحداثها في خلق فراغات جيوسياسية. نحن نعاني من فشل سياسي مزمن، فشل أفظع ما فيه أنه تراكمي، ومع أن الجميع يعترف بالفشل إلا أن الجميع لا يتعلم من الفشل من أجل تجاوزه أو حتى تفادي فشل مثله، لم نُغيّر أنفسنا قط بعد نهاية الحرب الباردة مثلما فعلت العديد من الأمم؛ فقد أُنشئ الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، وآخر في أمريكا اللاتينية، وفي جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، ومنظمات إقليمية أخرى في جميع أنحاء العالم من أجل إقامة أنظمة سياسية واقتصادية جديدة. ومع ذلك، فإنَّنا في الشرق اتفقنا على التشرذم. لم تنجح الجامعة العربية في إقامة أي نظام إقليمي؛ وفشلنا في بناء نظام إقليمي يجمعنا مع جوارنا الحضاري غير العربي، لذا أصبحت مهمة التعاطي مع الواقع ملقاة على عاتق الدول القطرية، وهي كيانات ضعيفة. لم يعرف عالمنا العربي دولا قومية كتلك التي عرفتها أوروبا مثلا. في العالم العربي كانت الدول كيانات ذات سيادة على حدود مصطنعة مفروضة على شعوب هذه المنطقة بلا شرعية.
في هذا الجزء من العالم، لم ننفك نحتضن اتجاهات خطيرة في الجغرافيا السياسية وفي السياسة الخارجية التي كانت تتمحور حول التبعية للغرب. كان الافتراض الدافع لهذا هو أنَّنا لا يُمكن أن نكون آمنين أبداً إلَّا إن تولَّى حمايتنا الأميركيون أو قوى عالمية أخرى. ولذا، فإنَّنا ما نزال نشعر بالطفولة السياسية؛ لأنَّنا كنا نسعى إلى الأمان الذي توفره هذه القوى كالجنين في رحم أمه. كُنَّا خائفين من التحرُّر من النظام العالمي الغربي أو من الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
كانت أسباب هذه العلاقات القوية عديدة: أحدها هو أنَّ حكوماتنا تعرف أنَّ الشرعية الداخلية لم تكُن كافيةً للحفاظ على الاستقلال والسيادة؛ فكانت بحاجةٍ إلى عُكَّاز القوى الأجنبية لتستند إليه في الحُكم والإدارة. كانوا بحاجةٍ إلى الأميركيين، وكانوا بحاجةٍ إلى الأوروبيين، وكانوا بحاجةٍ حتّى إلى الروس. لقد كُتبت قواعد اللعبة في سبعينيات القرن الماضي، وما تزال القوى الدولية تؤْثِر الالتزام بها على البديل؛ الذي هو الاستقلال الحقيقي. ولتحقيق هذا فإنَّ دولنا تحتاج إلى شرعية حقيقية لا تتأتَّى إلَّا بكُلفة عالية. كُلفة الاستقلال الحقيقي هو الشفافية والديمقراطية وتقاسُم السلطة والثروة. وبدلاً من دفع هذا الثمن، اختار القادة التمسُّك بالنموذج القديم الذي يجعلهم وكلاء للقوى الدولية في المنطقة. هذه هي الخطيئة التي ترتكبها حكوماتنا حتى يومنا هذا.
أمَّا العامل الآخر فهو التاريخ. لا يمكننا أن نستمر في إلقاء اللوم على الغرب في كل الشرور التي ارتُكبت في منطقتنا. لقد ضلع الغرب بالتأكيد بدور رئيس في الوصول الى ما نحن عليه، وكان سبباً في العديد من الأمراض التي أصابت مجتمعنا وبلادنا منذ الحرب العالمية الأولى، هذا أكيد وصحيح ، لكنني أود الحديث عن وجه آخر للأزمة، تلك الكامنة في ذواتنا وتصوراتنا عن أنفسنا وعن العالم من حولنا.
صحيح أنَّ الأمة الإسلامية لم تشهد نفس المسار الذي شهده الغرب في القرن السابع عشر من إصلاح ديني بالمعنى اللوثري للكلمة، ولا حداثة علمانية كتلك التي جاءت بها عصور «التنوير» أو «النهضة».
هناك أسباب كثيرة لغياب مثل هذه المعالم عن الواقع الإسلامي. أنا شخصياً أعتقد أنَّ مفهوم الحداثة والتنوير الذي يتجلَّى في التحرُّر، والحرية الشخصية، والتفكير العقلاني، وتطور الفكر قد كان موجوداً في الحضارة الإسلامية بالفعل، قبل وقت طويل من احتضان الحضارة الغربية لهذه المفاهيم. وُجدت هذه المفاهيم باعتبارها جزءاً ممَّا نسميه الوعي الجمعي للأمَّة، لقد عرف الوعي الاسلامي عقلانية خاصة منذ القرن الثامن الميلادي، تمثلت في جدل فلسفي عميق حول علاقة الإرادة الإلهية بالفعل الإنساني، كان لدينا المعتزلة وما أثاروه حول دور العقل ومسؤولية الانسان عن أفعاله، وكان لفلاسفتنا من أمثال الفارابي، وابن رشد، وابن سينا، والكندي، وغيرهم السبق في جدل لا يختلف عن جدل فلاسفة التنوير الأوروبي، وكان لدينا التيار الصوفي العرفاني وما أثاره من (إحياء لعلوم الدين) برؤية وجدانية عميقة .
شهدت قرون الإسلام الذهبية جدلا بديعا بين مختلف هذه التيارات،وصنع حداثة متجددة وتنويرا مبكرا، ووعيا جريئا لم يخش البحث في أي شيء، ستُصدمون إن قرأتم الأعمال المؤلَّفة في القرنين التاسع أو العاشر؛ وسترون إلى أي مدى كان فلاسفتنا منفتحين، في مناقشة العلاقة بين البشر وبين الله، وبين الطبيعة وبين الله. لقد كان هذا النقاش بالفعل سابقاً لعصره.
أسرد هذا لكي أصل الى النتيجة التالية : كان لدينا بالفعل تجديدًا وحداثة وتنويرا وعقلانية ، وأهم ما فيها أنها كانت نابعة من داخل منظومتنا الفكرية والدينية .
دعونا نلقي الضوء على مفهوم «التجديد» في الإسلام (الذي لا يقتصر معناه على تجديد أحكام الدين في القضاء والفقه، بل يشمل المعرفة أيضاً)، التجديد في أصله محرك للإصلاح المستمر، فالاسلام دين يؤمن بعالمية رسالته،وبما أن العالمية تقتضي الاستجابة لمقتضيات التغير في الأزمنة، صار التجديد مفهوما رئيسا في العقل الإسلامي، ولان التجديد يستدعي جدلا مستمرا حول الإنسان والطبيعة في أزمنة متغيرة، فقد وُلدت لدينا المذاهب منذ القرن الثامن الميلادي، وهي مدارس منهجية تقدم للمجتهدين خرائط يهتدون بها في اجتهادهم، وإذا درست ما كتبه المجتهدون الكبار مثل الشافعي والغزالي وابن تيمية وابن رشد، فستجد أنهم اختلفوا في مناهجهم لكنهم اتفقوا على مسار واضح واحداً: مسار التجديد. وإذا استخدمت المصطلحات الأوروبية التي سادت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فستُطلق على ما كان لدينا منذ القرن الثامن عصور الإصلاح المتجدد.
حاضر العالم الاسلامي ليس منسجما مع عصور الإصلاح المتجدد التي شهدتها الأمة المسلمة حتى القرن الثاني عشر، لقد انقطع التجديد المنهجي المستمر لأسباب كثيرة؛ أحدها هو ما حدث في القرن الخامس من الهجرة، حدثت في تاريخ العالم الإسلامي كارثتان: أولاهما الغزو المغولي؛ الذي أدَّى إلى تدمير تراث العباسيين في بغداد، وثانيتهما وصول الصليبيين الذين قسَّموا المنطقة فيما بينهم.
كان لكل من هذه العوامل بالغ الأثر على الكيان الجمعي للأمة، فهي تتعرض لتهديد أجنبي فشلت في مواجهته عسكريا، فتعمق في الأمة الشعور بالخطر والتهديد الأجنبي، لا سيما مع الاجتياح الصليبي للمشرق ولان الحملات الصليبية نُظمت تحت دعوات دينية، فقد شعرت الأمة بضرورة ملحة لحماية نفسها. من هنا أُرجئت مفاهيم التجديد والاجتهاد ووضعت جانباً لأن أولويات الصمود والمقاومة اقتضت تغليب المحافظة على التجديد ، والتمسك (بالقديم المضمون) بدل المخاطرة بالتغيير. غدت الأمة تعادي كل من يتحدى حاضرها أو إرثها التاريخي، وبدأت تتشكل لدينا طبقات ورتب هرمية في العالم الإسلامي لم تكن معروفة لدى المجتمع المسلم من ذي قبل. ظهرت الحركات الصوفية بتشكيلات مختلفة ووظائف متعددة، وتحولت المذاهب من مناهج لممارسة التجديد إلى جماعات مركزية يعادي بعضها بعضا، كذلك ظهر الأزهر وغيره من المؤسسات والهرميات التي حاولت تمتين وتقوية حاضر الأمة خشية تركه يتميع وينحلّ بامتزاجه مع عنصر جديد غريب لم نكن ندري كنهه بعد.
في القرنين الـ١٧ والـ١٨ وصلت المفاهيم والأفكار الأوروبية إلى العالم الإسلامي محمولة على ظهر الاستعمار؛ بيد أن تلك المفاهيم لم تلق ترحيباً ولا تقديراً بين أوساط المجتمع الإسلامي مهما تعددت بعض محاسنها ومناقبها، ذلك لأن هذه المفاهيم كانت ملتصقة بسلاح المستعمر، تستبيح الأرض وتسلبها وتستعبد الأحرار بغية بسط النفوذ الأوروبي على المنطقة. ردت شعوب المنطقة برفض الأجنبي ورفض أفكاره، ولجأت إلى الاستعلاء بالقديم الأصيل، بدلا من تلقف جديد محتل.
ومع مرور الزمن، وتطور الحداثة الغربية إلى منتجات صناعية وتقنية وسياسية واقتصادية، وانتقالها لتصبح معيار عالميا، بدأت تتشكل لدينا أزمة حقيقية: فنحن في حاجة للتعاطى مع الحداثة في منتجاتها العملية ، بينما لا يمكننا احتضانها على المستوى الفكري والفلسفي. ولهذا لجأنا الى ازدواجية غير صحية، نعيش حياتنا بما هو واقعي وعملي وإن كان غربيا، بينما نتمسك بمناهج فكرية لم يتم تجديدها منذ زمن طويل، ومن هنا انبثق مفهوم أن ما هو تاريخي هو في الحقيقة شرعي وان لم يَكُن عمليا ، ووقعنا في مأزق التناقض المزدوج.
هنا ألفت النظر إلى أن الفكر والواقع في تفاعل ثنائي مستمر، وهنالك تفاعل أيضا بين الفلسفة والاكتشافات العلمية على طول مسيرة الفكر الإنساني. فعلى سبيل المثال عندما اكتشف داروين نظرية التطور اعتنق الفكر الغربي الداروينية في الاجتماع والسياسة. كذلك عندما أتى آينشتاين بالنسبية تأثر بها الفكر الغربي وعقيدته الفلسفية بأسرها. فإذاً لم يقتصر دور نيوتن وآينشتاين وفرويد على تأسيس وابتكار طرق وأدوات وأساليب جديدة فحسب، بل كذلك انعكس أثر هؤلاء على أبستمولوجيا العقل الغربي. في حين أننا في عالمنا الإسلامي وصلتنا هذه الأفكار بشتى الصور والمنتجات كالتكنولوجيا والاقتصاد، بل وشرعت جامعاتنا أيضاً في تدريس أعمال فرويد وداروين، ورست جميع هذه الأفكار والنظريات الغربية واستقرت في مكتباتنا وجامعاتنا ومصارفنا وبنوكنا، بيد أننا مع ذلك كله لم نستطع وصل ومزج الفكر الغربي بمفاهيمنا التقليدية المتعارف عليها عن الهوية والانتماء، وهذه هي المعضلة السقيمة التي نعايشها اليوم، وأرى أننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى منهج معرفي يكون منبثقا من ذاتنا الحضارية لكنه عملي ممكن التطبيق في زماننا.
دعونا الآن نتقدم زمنياً بضع خطوات إلى الأمام. إنني أومن فعلاً أن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وكل ظاهرة العنف والتطرف ومفهوم تحديد هويتنا ما هي كلها سوى نتيجة التناقضات الشرق أوسطية التي خلقتها القوى الأجنبية بنفوذها وجغرافيتها السياسية، بيد أن أزمتنا الحالية تحمل كذلك في طياتها المعضلة التي حيرت الفكر الإسلامي: معضلة المواءمة المعرفية بين الأصيل والعملي. الديموقراطية مثلا منتج غربي، وهي عملية فعلا في المشاركة في السلطة وتداولها، لكن البعد المعرفي المرتبط بالديمقراطية لا يزال يثير جدلا حولها، لانها تتعارض مع النموذج (الأصيل) المنقول تاريخيا من عهود الحكم الاسلامي، وهنا نجد أنفسنا أمام جدل من نوع الديمقراطية في مقابل الشورى، لا من حيث البعد العملي أو حتى المقاصدي، بل البعد الأيدلوجي والتاريخي. ومن هنا وفيما نسعى جاهدين لصنع منتوجنا المحلي الخاص بنا المبني على شرعنا الإسلامي الأصيل، برزت أمامنا ظواهر مثل تنظيم الدولة الاسلامية. لماذا؟ لأنها تقوم على نموذج تاريخي موصوف. قد لا يكون هذا النموذج عملياً، لكن من يكترث أو يأبه لذلك طالما أن هدفه صنع بديل حقيقي في أصالته يحل محل المستورَد الغربي؟ وطبعاً يأتينا هذا المنتج متذرعاً بجملة من المسوغات التي تعلله بغياب توازن القوى الحالي ونظرة الغرب المنافق لمنطقتنا، فضلاً عن الأوحال السياسية التي تسبب لنا بها الغرب في منطقتنا على مدى أكثر من 100 سنة.
في عامنا هذا نحتفل- بل الأحرى بي أن أقول تصادفنا ذكرى مرور 100 عام على معاهدة سايكس- بيكو التي أبرمت في مايو/أيار ٢٠١٦.
الآن يتوجب علي أن أقفز زمنياً إلى الأمام أكثر وأنهي خطابي هذا بنهاية أكثر إيجابية. تُرى هل نحن عالقون في وضع يستعصي علينا الخروج منه؟ ترى هل نحن يائسون مكتوفو الأيدي أمام ثقب أسود يقترب منا فاغراً فاه ليبتلعنا كلنا في غياهب المجهول؟ أقول مجهول لأن العلم ما زال يجهل ما داخل هذا الثقب، وحتى الفيزياء والفيزياء الكمية عاجزتان عن فك كنهه وسبر أغوار نظامه.
هذه هي فحوى عقيدة أوباما حيال المنطقة. الابتعاد عنها لأنها شديدة التعقيد عصية على الفهم. بالطبع أنا شخصياً يسعدني أن تبتعد عنا قوى الغرب وتتركنا وشأننا، لكن على أية حال تلك ليست نقطتي، بل ما أود قوله أمرٌ مختلف.
إن منطقتنا تمر بمرحلة تغيير عميق، وهو تغيير عقلاني له منطقه الخاص. إن هذه عملية طبيعية ومخاض ستكون له ثماره التي سيتسنى لنا استيعابها وفهمها وحتى التخطيط لها والتنبؤ بها، وليست أبداً عملية يتفاعل فيها العقل مع المنطق لينتج عن ذلك الفوضى والبلبلة التامة بتاتاً! الواقع أنني متفائل جداً. أتدرون لماذا؟ لأن هذه بالضبط طريقة حدوث التغيير الجذري. هكذا تم الأمر في العالم، وهكذا حصل في أوروبا وفي أميركا اللاتينية، كذلك حدث التغيير في آسيا وفي أفريقيا وفي كل مكان. طبيعي أنه عندما تلفظ أمةٌ نظامها القديم المتهالك وتخلع أثوابه البالية- سواء كان بشكل سياسي كالنظم القمعية الدكتاتورية، أم على صورة تقليد بالٍ عقيم لا يثمر ولا ينبت لا فكراً حديثاً ولا حلولاً معاصرة عملية- فلا بد أن تخامرنا الكثير من الشكوك إزاء هذا الفجر “الجديد” الذي نخطو تجاهه. الشك هو ما سيرسم معالم مخاوفنا، الخوف من أن ما يتراءى أمامنا قد يكون سراباً زائفاً، والخشية من نظريات مؤامرة حول من يدبر لنا مكيدة من وراء هذا التغيير ومن يقود دفته في الخفاء، وترى كيف ستبدو سوريا الغد وكيف سيكون مستقبل المنطقة كلها.
اللحظة التي تواجه فيها تلك الشكوك هي اللحظة التي تدرك فيها أنك تتجه نحو ظلمات جديدة. التناقض والصراع يظهران داخلنا، ومن حولنا، ثم نقتل بعضنا بعضاً ثم نصبح أكثر توتراً وحيرة. هذا هو السبب الذي يقودنا نحو أعمالنا الأكثر تطرفاً، جميعنا كذلك: الليبرالي يتحول إلى الانغلاق بشدة، والمتطرف يتحول إلى آلة قتل، ومع ذلك، سنتخطى جميعاً الأمر في نهاية المطاف. هذا الأمر في رأيي هو عملية تطورية طبيعية في كل المجتمعات والحضارات، لقد حدثت في كل مكان، ولهذا السبب، أنا لا أيأس بشأن ما يحدث في المنطقة. في الحقيقة، أنا أتابع المنطقة بكثير من الاهتمام، وبالتأكيد إنه لمن المحزن أن نرى ما نشهده حالياً في المنطقة من دماء في سوريا واليمن وليبيا، ومن انهيار الديموقراطية في مصر. إنها أمور محزنة وتراجيدية. ومع ذلك، ما الذي ينبغي علينا فعله؟ اليأس هو الحل؟
لا أعتقد ذلك.
تيار التغيير يسير في نهاية المطاف باتجاه واحد، وإذا أردنا أن نتأكد ما هو هذا الاتجاه، فعلينا النظر إلى من يحاولون الحفاظ على الوضع الراهن. ما شكل المستقبل الذي يعدوننا به؟ لا شيء! أي نوع من الخيال تملكه القوى المعادية للثورات في العالم العربي؟ ما الذي بإمكانهم أن يبشروا به الأجيال القادمة؟ أي نوع من الأمل يقدمونه؟ هل يمكن لأحد أن يخبرنا بذلك؟
دعونا نحاول وصف الوضع الراهن. على سبيل المثال، في المعسكر المضاد للثورة في مصر؛ ما هو الأمل الذي يقدمونه للمستقبل؟ حسناً، دعنا من الأمل، ما هو الواقع الذي يقدمونه؟ ما هو الوضع الراهن؟ ما هي المقدمات؟ ما هي الأمور العملية؟ ما هي الخدمات التي يقدمونها؟ لا يوجد أي شيء. إنهم يبثون الخوف، ومن خلال هذا الخوف يمكنهم السيطرة، ثم يقول لك “ابق معي وإلا ستخسر كل شيء”. إنهم يحكمون من خلال الخوف. بخلاف ذلك، ماذا لديهم؟ ما الأمر الذي قد يتملك الجيل الجديد عندما يستمع إلى خطابات هذه المومياوات السياسية التي تسيطر على المشهد في بلدان المنطقة؟ أنا لا أرى أي أمل. هذا هو العدو، وأنا أعني أن العدو بالنسبة للجيل الجديد هو حالة الإفلاس تلك، الإفلاس الاقتصادي والأيديولوجي والسياسي والفلسفي. ليس لديهم أي شيء ليقدموه.
والآن دعونا ننظر إلى الجيل الجديد. صحيح أنهم حائرون، أولاً لأنهم جاءوا إلى هذه الحياة وخلال فترة عمرهم القصيرة شهدوا الكثير من الظلم ومن الدماء. لقد فقدنا الكثيرين، ليس فقط في صورة ملايين الضحايا الذين قتلوا في المنطقة، بل فقدنا أيضاً مخزوننا من الأخلاق والقيم والاستقرار الاجتماعي. الجيران يقتلون بعضهم بسبب الخلاف بين العلويين والسنة، أو الشيعة والسنة، أو الكرد والعرب، أو الأقباط والمسلمين، وهكذا. نحن نخسر، وننزف، ليس فقط جسدياً، بل أخلاقياً، ومعنوياً وفلسفياً وفي غيرها من الجوانب. على الرغم من ذلك، مازال هناك شيء مهم مُثار داخل معسكر الشباب، وهو أنه بإمكانهم تخيل مستقبل جديد، وهذه الرؤية لم تختف بعد. لقد بدأت في تونس، وانتقلت إلى مصر، ومنها إلى سوريا واليمن وليبيا وإلى كل مكان. هذا الحلم يسكن الآن في عقول الجميع، لأن كل من يحمل هاتفاً ذكياً بإمكانه التفاعل يومياً مع الأفكار الجديدة. لذلك، لا يهم أين تعيش، ولكن المهم هو من تتبع، وما نوع المقالات التي تقرأها وما نوع الأخبار التي تستمع إليها. لقد بدأنا هذا التحول كمثاليين حالمين، أحببنا بعضنا، كنا متصالحين مع الماضي، وحاولنا أن نستوعب الطغاة السابقين داخل جمهورياتنا الأفلاطونية. على الرغم من ذلك، لم يفلح هذا الأمر لأن الدولة العميقة انتفضت ضدنا، والآن أصبحنا براغماتيين. هذا جيد، هذا كان درساً، هل تتخلى عن الأمل بالكامل؟ لا، لا تفعل. انتقل إلى المرحلة التالية.
هذه المرحلة الجديدة تتضمن تفحص ما قصرت فيه، وما ارتكبته من أخطاء، والتحالفات التي كونتها، وما قمت بتطبيقه عملياً. هذه دورة تدريبية هامة للغاية، وهي مفيدة لأنها تجعلنا ننظر للوضع الحالي على أنه دورة تدريبية ميدانية صعبة للغاية بالنسبة لنا جميعاً، وهي مرحلة تمر بها حالياً كل القوى الشابة التي تحاول تحقيق الحرية والديموقراطية في العالم العربي. هل هذا التفكير سيقتل الهدف داخل عقولنا ويحولنا جميعاً إلى انتحاريين ، أم سيخلق جيلاً جديداً أكثر وعياً وانفتاحاً ليقود المستقبل؟ أنا أظن أن الإجابة الثانية هي الصحيحة، لأنني أظن أن الحل الذي تقدمه داعش مثلا غير عملي، ولا فلسفي، وفي الحقيقة ليس لديه القدرة على إنتاج جوانب عملية للتطبيق، ونحن نعلم أن الجوانب العملية مهمة عندما نطرح أي نموذج للمستقبل، لذلك، أنا متفائل، وأعتقد أننا في حاجة لتطوير المزيد من الأفكار الجديدة للمستقبل.
نحن جميعاً منحبسون في الماضي، والماضي شيء جميل أحيانا ، لذلك نتحدث عنه في الأدب والشعر وتبادل الذكريات. نتحدث عنه في باب الدروس المستفادة ، ولكن لا نستطيع أن نعيش بداخله.
أعتقد أنه لو عاش النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في الماضي فقط، وقام بجدال قريش حول ما أرادوا الجدال فيه، لما استطاع تحقيق فتح عالمي إنساني شمل الآفاق، لقد كان حكيما في نقطة هامة، وهي عدم الإنجرار إلى جدليات قريش القديمة، والإصرار على طرح حوار جديد .
نحن -كقوى جديدة- ما زلنا نتجادل بشأن الماضي: الشورى أم الديموقراطية؟ التقاليد أم الحداثة؟ دولة مدنية أم دينية؟ القومية أم الوطنية؟
لقد تغيرت الحياة، وعلينا التخلص من أغلال الماضي، نحن لا نحتاج إلى إصلاح أو تجديد لعقولنا فحسب، قد لا يكون ذلك كافيا، إننا نحتاج إلى هجرة من نموذج قديم إلى آخر جديد، هجرة كاملة، فالجدال والمنهج الذي قادنا إلى حيث نحن الآن لن يوصلنا على الإطلاق إلى حيث نريد. لذلك، نحن بحاجة إلى أن نمتلك الشجاعة الكافية لننفتح من جديد، وأن نعيد إحياء ذلك الحمض النووي الذي توارثناه من القرن العاشر للإسلام، وأن نستأنف التجديد والتنوير والتحديث الذي كان جزءاً منا، ذاك الذي كان قائماً على الانتماء وكان عملياً في الوقت ذاته.
من خلال العملية والمصداقية سيكون بإمكاننا المضي قدماً، ثم لن نحتاج إلى أميركا لحمايتنا، لا نحتاج إلى الغرب ليرشدنا أو ليأخذ بأيدينا، سنفعل ذلك بأنفسنا. إذا لم نكن نحن مرشدي أنفسنا، فلن نتمكن من بناء الإطار المعرفي الخاص بنا. وإذا لم يكن لدينا نموذجنا الخاص للتفكير، فسنكون دائماً تابعين للخارج، وهو ما قد يكون عملياً، ولكنه بالتأكيد غير شرعي.
المصدر: منتدى الشرق