أشارت تقارير نشرت مؤخرًا إلى حالة من القلق داخل إدارة “فيسبوك”، ينبع هذا القلق من التراجع المستمر لما تتعارف عليه إدارة الشبكة الاجتماعية العملاقة بـ”النشر الأصلي” أو Original Sharing، يمكن تلخيص ما يُقصد بهذا المصطلح في مشاركات الأفراد الأصلية المتعلقة بحيواتهم، كنشر صور شخصية أو التعبير عن رأي شخصي يتعلق بحياة المتحدث وما إلى ذلك، أصبحت أغلب المواد المتحركة والمنشورة على شبكة تنتمي لما يعرف بـ”المنشورات الثانوية” أو Secondary sharing، أو تلك المنشورات التي تشارك مواد متواجدة بالفعل على الإنترنت كالأخبار أو المواد المرفوعة على يوتيوب من الموسيقى وغيرها على سبيل المثال، بينما تشير التقارير إلى تراجع المواد الأصلية المتعلقة بالحياة الشخصية للمستخدمين بنسبة 21%.
بالتدريج أصبحت حيواتنا الموجودة على الشبكات الاجتماعية عمومًا وعلى فيسبوك خصوصًا، تمتاز بالانفصال عن حيواتنا اليومية الحقيقية، إذا نظرت سريعًا كيف تبدو الملفات الشخصية على فيسبوك؛ ستجد أن ما يطلق عليه “البروفايل” يحاول أن يرسم صورة كاملة لصاحبه، صورة كبيرة تملأ أعلى الشاشة وعدد آخر من الصور الأصغر، اسم الشخص وتفاصيل كحالته العاطفية وسنه وتعليمه، يحاول الملف الشخصي بكل الأشكال الممكنة أن يدعي أنه تمثيل حقيقي لحياة الشخص كاملة.
إلا أن حقيقة الأمر أنه أبعد ما يكون عن ذلك، فأي مستخدم لفيسبوك يعرف تمامًا كيف يقوم الجميع بشكل أو بآخر بالتحكم في الصورة التي يقدمها عبر حسابه على الشبكة، فأحدهم يتحدث على الشبكة بطريقة معينة، والآخر ينشر منشورات أو موسيقى ذات طابع معين، وهكذا.
حقيقة الأمر أن الشخص أثناء استخدامه لهذه الشبكة يكون واعيًا تمامًا أنه يقوم بعرض نفسه وحياته على الآخرين، وبالتالي يحاول السيطرة على الصورة التي يقوم بتصديرها كنتيجة لذلك.
هذا الأمر شديد الخطورة من عدة أوجه، أحد أهم هذه الأوجه هو وجه الصحة النفسية، فلا شك أن انتشار استخدام الشبكات الاجتماعية بين الأجيال الأصغر سنًا له علاقة ما بالارتفاع الجنوني في معدلات الانتحار بين هذه الأجيال، والذي تحدثنا عنه في مقال سابق، إذ يفرض تعامل الأفراد وخصوصًا صغار السن منهم مع الشبكات الاجتماعية التعرض لسيل لا ينتهي من الصور التي يتحكم بها الأفراد بدقة، فقط ليقوم المشاهد بمقارنة حياته الشخصية بهذه الصور التي يتم تصديرها ويبدأ في الشعور بمشاعر كالفشل والإحباط، فكل صور الفتيات الرشيقات على إنستغرام مثلًا لا تروي قصة ما يمروا به من الجهد العضلي والأنظمة الغذائية شديدة القسوة، فقط تروي هذه الصور معايير شديدة الندرة والصعوبة على أعين الفتيات ممن يشاهدنها، ذات الأمر في قصص النجاح المهني والسفر حول العالم، فقط يرى المرء واجهة ليبدأ في تقييم حياته الشخصية قياسًا عليها.
وجه الخطر الآخر هو مساحات سوء الفهم الناتجة عن التقاطع بين حيواتنا الحقيقية وحيواتنا التي نقودها على الشبكات الاجتماعية، فاختلاف الشخصية بين الحياة الشخصية والحياة الرقمية، بالإضافة إلى اعتماد أغلب الناس حاليًا على شبكات التواصل الاجتماعي كالوسيلة الأساسية للتواصل اليومي مع الأشخاص الموجودين في حيواتهم الحقيقية بشكل يومي.
نسمع بين الحين والآخر عن مواطنين تم طردهم من العمل أو حبسهم في مصر نتيجة لما نشروه على شبكات التواصل الاجتماعي، قد يكون هذا مجرد مثال مبالغ فيه على حماقة الدولة المصرية، إلا أنه ذو دلالة إذا ما نظرنا إلى الكثير من الحوادث الشبيهة التي تؤثر بشكل جاد على علاقات أفراد عرفوا بعضهم في الواقع اليومي بشكل حاد، تشير الكثير من الدراسات على سبيل المثال إلى زيادة خطر الطلاق في الأسر التي يستخدم أفرادها الشبكات الاجتماعية بشكل يومي، كل هذا ينتج من التصادم بين الشخصية التي يقدمها المرء (تسمى في الإنجليزية Persona) وتلك التي هو عليها في حقيقة الأمر، وبالطبع إلى أن البشر يتسمون بتعدد دوائرهم واهتماماتهم، فما يصلح للنشر بين أصدقائك قد يكون غير مناسب بالمرة لمشاركته مع مديرك في العمل أو والدك.
السابق يجلبنا إلى قضية شديدة الأهمية وهي مسألة الخصوصية الشخصية، إذ يفرض التعامل اليومي مع الشبكات الاجتماعية ائتمان الشركات خصوصًا والإنترنت عمومًا على قدر ضخم جدًا من معلوماته ومتعلقاته الشخصية، فالأمر لا يقف عند الكلمات التي ينشرها المرء على حائط فيسبوك أو تويتر، وإنما يصل إلى أكثر الأمور خصوصية كالرسائل الشخصية بين الأهل أو الصور الشخصية والعائلية المرسلة من فرد إلى آخر، ففي الطريق تمر هذه المعلومات عبر حواسيب وخوادم الشركات والإنترنت، وتبقى هذه المعلومات يمكن للشركات الوصول إليها في أي وقت، وتظل عرضة للسرقة من كافة الأطراف، تمامًا كما حدث في حالة سرقة NSA الشهيرة لمعلومات الأمريكيين وتبادل الصور الشخصية للمواطنين كنوع من المزاح بين عملاء الوكالة.
إحدى الحقائق التي يتفق عليها كافة متخصصي الإنترنت هو أنه لا ينسى أبدًا، فأي معلومة تخطو حاجز العالم الملموس لتدخل إلى الشبكة ستبقى هناك إلى الأبد، إلا أن أغلب مستخدمي الانترنت، وبالذات الشبكات الاجتماعية لا يدركون هذا، فماذا سيشعر الفرد في حالة وضعه لقدر ضخم من صوره ومعلوماته الشخصية في صندوق ليأتمن شخص غريب عنه تمامًا عليه، قد يبدو التشبيه الأخير مبالغ فيه، إلا أنه لا يختلف بأي شكل من الأشكال عن واقع الإنترنت، كما أن توافر هذه المعلومات وتتابعها على الشبكات الاجتماعية يضمن تواجد أرشيف مفتوح لحياة المستخدم يستطيع أي أحد ممن يتصل بهم على شبكات كفيسبوك وتويتر الوصول إليه في أي وقت، فإذا صادف قيامك بقبول صداقة أحد زملائك في العمل على فيسبوك، فسيستطيع هذا الشخص الوصول بكل بساطة إلى صور وذكريات قد تكون على حسابك منذ فترة شبابك أو أيام دراستك في الجامعة مثلًا، فهل من المناسب في علاقة عمل احترافية أن يكون لمثل هذا الشخص الحق في الاطلاع على كل هذه الأوجه الشخصية لحياتك، بلا شك لن تقبل هذا في إطار العلاقة الواقعية، فلماذا يصبح من السهل جدًا قبوله على شبكات التواصل الاجتماعي.
واقع الأمر أن هذه الشبكات قامت بالفعل بتشويش الفاصل بين المساحات الشخصية والعامة، وما قد يترتب على هذا قد يكون شديد الخطورة اجتماعيًا بشكل لا يدركه الكثير.