يصعب أن يخيبني غيلنهال Gyllenhaal، كلما جربت فيلمًا له، أخرج في أسوأ الحالات راضيًا، وفي أحسنها منتشيًا، ولئن كنت في فيلمه السابق “Nightcrawler” أقرب إلى الانتشاء، فلقد خرجت منذ يومين أقرب إلى الرضا، بعد مشاهدة آخر أعماله المسمى “هدم” Demolition.
يبدأ الفيلم عجيبًا، وينتهي ربما بشيء من التأخير، لكننا لا نتعجل نهايته كثيرًا، بعد كل مشهد، ننتظر المشهد الموالي، الذي سيخبرنا عن شيء نعرفه ونستزيد منه، هل ترانا نمارس نوعًا من التماهي النفسي مع “دايفس” بطل الفيلم؟ هل إننا أيضًا نبحث عن الظفر ببعض الهدم البناء، في زمن بات الهدم فيه أكثر عسرًا من البناء؟ عبر هذا الفيلم نرافق دايفس ميتشل في مهمة غريبة تتمثل في هدم منزله.
أؤكد لكم أن المنزل تحفة معمارية يطيب فيها العيش، لا تنسوا أن دايفس وإن لم يكن ثريًا، فزوجته كذلك، هي ابنة لرجل أعمال ناجح وطيب، ولقد اعتمد على صهره في شركته رغم أنه لا يكن له عطفًا خاصًا، كان كل شيء يمضي على ما يرام حينما بدأ الفيلم، ولأن مآسي الشخصيات هي متعة المشاهدين، فقد فوجئنا بالحادث المروع ونحن لا نزال نتململ في مقاعدنا، الحزن يخيم على كل شيء، وعلى كل شخص، إلا بطلنا، بدا شاردًا خالي الذهن، كأن زوجته لم تلق حتفها منذ ساعات أمام عينيه، وقدر الجميع أنه فعل الصدمة، دايفس أيضًا اعتقد ذلك. لكننا مع تطور أحداث الفيلم، نكتشف كم أن المسألة معقدة.
منذ البداية، انتشل دايفس نفسه من واقعه الذي لا يصدق، ليلقي به إلى ما حوله من موجودات: بات أكثر انتباهًا للعالم الخارجي، وأصمًا تقريبًا فيما يتعلق بدواخله، هذا يفسر عدم قدرته على التعبير عن حزنه، ويفسر أيضًا اهتمامه المفرط بالتفاصيل الصغيرة: آلة بيع المشروبات المعطلة، وإصراره على مراسلة الشركة المسؤولة عنها، اهتمامه بالناس الذين كان يتجاهل وجودهم، وبالأعطاب البسيطة التي يلاحظها في أي شيء.
فيما بعد تملكه فضول عارم تجاه الأشياء من حوله، وعى بذلك وعبر عنه، ولكنه أيضًا أذعن له، كان إصراره على اقتحام حياة “كارين مورينو” المسؤولة عن خدمة الحرفاء في شركة توزيع آلات بيع المشروبات، محكومًا بهذا الفضول الذي يأخذه بعيدًا عن نفسه، دون أن يدري، كان دايفس يهمل حياته تمامًا، العمل، العائلة ـ أو ما تبقى منها ـ والمنزل الذي كان يجمعه بها، لقد عبر المخرج جان مارك فالي Jean Marc-Vallée بذلك عن عملية الهدم التي تحدث داخل دايفس.
فقد أحدث موت زوجته فيه عطبًا عميقًا لا يكفي البكاء يومين لإصلاحه، كان عليه أن يفعل مع قلبه ما يجب أن يفعله مع الأجهزة المعطبة: يفككها جزءًا جزءًا، حتى يستخرج منها الجزء المعطب ثم يعيد تركيبها، كان يفكك حياته جزءًا جزءًا، يبعثر علاقاته مع أحبته وأقربائه، ويلقي بمستقبله المهني، ومسؤولياته، وأمواله بمثل تلك الطريقة الفجة التي كان يفكك بها الأجهزة الإلكترونية ويثير حنق حميه، ولم يكتف المخرج بهذه المقاربة الجميلة، بل تمادى فيها، من خلال تعلق دايفس بهواية غريبة تتمثل في مساعدة عمال الحظائر في أشغال الهدم، وحينما طرده العمال بسبب إصابته التي قد تسبب لهم متاعب لا يرغبون فيها، أدرك أن له منزلاً يصلح لمواصلة هوايته، هكذا تحقق دور العالم الخارجي كفاعل أساسي في عملية الهدم الداخلية التي يعيشها البطل.
من الجميل أن دايفس عبر رحلته نحو ذاته الجديدة، حمل الآخرين أيضًا على هدم أجزاء مهمة من حياتهم من أجل إعادة بنائها؛ كانت “كارن مورينو” (ناوومي واتس Naomi Watts) قبل أن تعرفه تعيش حياة بسيطة وهادئة، لكن حلول دايفس قوض هذه الحياة، وأفسدها تمامًا، وهو ما منحها الفرصة من أجل البحث عما تريده فعلاً (الحقيقة أننا لا نعرف ما الذي تبحث عنه)، أما ابنها فقد تأثر بشكل أكبر باتصاله بدايفس، والحقيقة أن التأثير كان متبادلاً، لقد منح دايفس المراهق الذكي الجرأة على مواجهة نفسه، بعيوبه ومميزاته، ورغم ما سببه له ذلك من “مآس” (ما حدث له في آخر الفيلم) فقد بدا سعيدًا، وشاعرًا بالخلاص، أما كريس Chris، فلقد حقن الرجل بجرعة من الشباب جعلته أقدر على اقتراف الجنون الذي يحتاج إليه، يجب الإشارة إلى أن تعامل دايفس مع كريس يعتبر مثالاً جميلاً لطرق التعامل مع المراهقين.
لقد كان دايفس بحاجة ماسة إلى الهدم حتى يتمكن من تجاوز محنته، ولأن البكاء والانهيار لا يكفيان مصابه، فلقد كان عليه أن يجتاز مسارًا معقدًا حتى يستخرج أحزانه العميقة ويتمكن من البكاء، ذلك الماء السحري الذي يمكّن الإنسان من العودة إلى فعل البناء وتجاوز الخسائر، إن الإنسان بحاجة إلى الهدم بقدر حاجته للبناء، تمامًا كما الرسام الذي يحتاج إلى الممحاة بقدر حاجته إلى القلم، وكما الطبيعة التي تحتاج إلى موت الكائنات بقدر ما تحتاج إلى حياتهم، لتستمر وتتطور.
لا أعتقد أن خبرتي بعلم النفس تتجاوز خبرتي بلغات إنسان النياندرتال، ولكن الفيلم يحمل بُعدًا نفسيًا عميقًا وطريفًا وذا جودة معتبرة، قد يجد البعض قصته غريبة نوعًا ما، ولكن يمكن النظر إليها كما يفعل دايفس مع الأشياء من حوله؛ جملة من الاستعارات والمجازات ذوات الدلالة، والأهم من ذلك، أن جانب التسلية مضمون، كما قلت من قبل، قد يصعب أن تشاهد غيلنهال في فيلم سيء، كان آداؤه متميزًا في الفيلم، ولم يكن بذلك استثناءً، فلقد شاركه الفتى جودا لويس Judah Lewis التميز من خلال دور كريس، وكذلك كريس كوبر Chris Cooper في دور حميه Phil.
لقد قدم جان مارك فالي شيئًا مختلفًا عن فيلميه السابقين، البرية Wild ونادي المشترين بدالاس Dallas Buyers Club، ولكنه يتفق معهما في المستوى الجيد (وإن كان الأخير أكثر من مجرد فيلم جيد)، ورغم التباين الملحوظ في آراء النقاد حول الفيلم، إلا أنني أجده جديرًا بالمشاهدة.
الاسم : هدم Demolition
السنة : 2016 (صدر فقط في كندا السنة الماضية)
الصنف: دراما، كوميديا
المدة : 101 دقيقة
المخرج : جان مارك فالي Jean-Marc Vallée
البطولة : جايك غيلنهال، ناوومي واتس، كريس كوبر، جودا لويس