عاشت تونس ثلاث سنوات من الجدال والنقاش حول شكل الحكم الذي ستعتمده في الدستور، تدفعها معطيات كثيرة للقطع مع تجربة الحكم الرئاسي الذي يضع كل السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية وهي تجربة خبرتها جيدًا طيلة خمسين سنة من حكم بن علي والحبيب بورقيبة.
غير أن التوافق على اعتماد نظام حكم مزدوج شبيه بنظام الحكم في البرتغال حسم المسألة ووزع السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، إلا أنه لم تمض سنة ونصف على ختم الدستور حتى تعالت أصوات من هنا وهناك تطالب بتعديله ومنح صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية كان آخرها وأهمها مبادرة الباجي قائد السبسي التي طرحها منذ أيام قليلة مضت.
رئيس الجمهورية الباجي قاد السبسي الذي لم يتعود أبدًا طيلة مشواره السياسي الحد من صلاحيات الرئيس وتوزيع السلطة بين مختلف المؤسسات، بما يضمن عدم تغول أي طرف، لم يستطع إخفاء ما ترنو نفسه إليه من حب التملك واحتكار كل السلطة حتى وإن حددها الدستور بتوافق جميع مكونات المشهد السياسي بمختلف توجهاته وتياراته.
فرغبته الجامحة في امتلاك كل السلطات بين يديه وجمع كل الصلاحيات وتشبثه بممارسة كل المهام، دفعته دفعًا وقبل أن ينهي دورته الرئاسية الأولى، للانقضاض على الدستور والقفز على مسار التوافقات والمفاوضات وكل المراحل العصيبة التي مر بها الشارع التونسي خلال ثلاث سنوات من التأسيس لدستور جديد يحد من صلاحيات الرئيس ويوزع السلطة بين أقطاب ثلاثة هي البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية، واعتماد نظام حكم تشاركي يقطع مع منطق الرجل الواحد والنظام الواحد ويؤسس لمرحلة جديدة تنهي استحواذ مؤسسة الرئاسة على كل الصلاحيات على غرار الدستور القديم الذي صيغ على مقاس الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة حسب تعليق المقرر العام لدستور 1959.
وحنين الرئيس الباجي قائد السبسي إلى العهد البورقيبي لم يمنعه من الاكتفاء باستحضار روح الزعيم التي يحشرها في كل مقام ومن دون مبررات وفقر إنجازاته وعجزه عن تقديم عمل يذكر رغم مرور سنتان تقريبًا على توليه السلطة دفعه أيضًا إلى الدعوة إلى تعديل الدستور واعتماد نظام رئاسي مطلق يعيدنا إلى المربع الأول حيث تجتمع السطلة التنفيذية في مؤسسة الرئاسة وبالتالي الانقلاب على إرادة الشعب التي كلفتنا ثلاث سنوات من التأسيس لمرحلة جديدة قوامها مراقبة السلطات لبعضها البعض وتوزيع المهام بما يضمن استمرارية الدولة ولامركزية القرار.
على ما يبدو أن الباجي قائد السبسي لم يتحمل أبدًا الاكتفاء بالصلاحيات القليلة التي منحت لمؤسسة الرئاسة والحد من تدخلها في صلاحيات باقي المؤسسات إلا بما ينص عليه الدستور، في حالات استثناية وظرفية كالخطر الداهم، ولا يتم ذلك إلا بموافقة البرلمان ورئاسة الحكومة وبإذن من المحكمة الدستورية والتي هي ماتزال في طور التأسيس ولم تفعل إلى حد اللحظة.
وهو ما يذكرنا بالاعتداء السافر على علوية الدستور، التي كان يمارسها بن علي من خلال تعديلات توضع على المقاس من قِبل خبرائه ومستشاريه، ومن قبله كان يمارسها الحبيب بورقيبة بنفس الطريقة ولنفس الغرض، وهو خدمة الرئيس وتمكينه من التلاعب بفصول الدستور وتطويعها لخدمة مصالحه الشخصية، ضاربًا بهيبة الدولة ومؤسساتها عرض الحائط.
هذه ليست المرة الأولى التي يعتدي فيها الباجي قاد السبسي على الدستور منذ توليه السلطة، حيث تخلف عن موعد تعيين رئيس الحكومة في جانفي/ يناير 2014 وتجاوز الفترة التي حددها الدستور، إلى جانب خرقه للدستور مرة أخرى في 2 فبراير/ شباط 2015 بعد تعيينه لممثله الشخصي لزهر القروي الشابي دون أن ينص الدستور على هذا المنصب ودون أن يحدد مهام هذه الخطة، كما خرق الدستور بإعلانه لحالة الطوارئ في شهر جويلية 2015 إثر الهجمة الإرهابية التي تعرض إليها منتجع سياحي بمحافظة سوسة، بالإضافة إلى التدخل في شؤون حزبه “نداء تونس” في الثلاثين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 على إثر الخلافات التي قسمت الحزب وهو أمر يمنعه نص الدستور باعتبار إعلانه الاستقالة من الحزب بمجرد انتخابه رئيسًا للجمهورية وإعلانه رئيسًا لكل التونسيين، غير أن هذه المبادرة الأخيرة التي أطلقها والتي تنص على تعديل الدستور ومنح الرئاسة صلاحيات أكبر كانت بمثابة الاعتداء الواضح على قداسة الدستور وهيبة الدولة.
وهي أيضًا مؤشر خطير للعودة إلى المربع الأول حيث تجتمع في يد رجل واحد كل الصلاحيات وبالتالي إفراغ نظام الحكم المزدوج من محتواه واختصار السلطة في يد الباجي قائد السبسي حتى ينفرد بها ويضرب المسار الإصلاحي الذي تعيشه تونس منذ 2011 في مقتل، والالتفاف على العملية السياسية برمتها وضرب النموذج الديمقراطي العربي الوحيد الذي طالما تغنى به المجتمع الدولي.