كان يوم الخامس والعشرين من أبريل، فارقًا في تفكير الإخوان المسلمين في مصر، هذه النتيجة يمكن الخروج بها، وبنسبة موثوقية عالية من خلال التحول النوعي الذي شهده المحتوى المتداول من التقييمات وردود الفعل التي خرجت عن رموز الجناح الذي يتحرك في الوقت الراهن داخل الجماعة، داخل وخارج مصر، وحتى على مستوى المتداول على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن خلال تقييم أوَّلي لما تم وضعه من تقديرات حول ما جرى وحساباته؛ فإنه يمكن بالفعل أن نؤكد أن هناك تحولات حقيقية تبعث على صناعة هذا الفارق في تفكير وخطط جميع الأطياف السياسية التي اتفقت على رسالة الاحتجاج الضرورة – لو صحَّ التعبير – في هذه المرحلة من تاريخ الثورة المصرية.
ولا يتعارض هذا الذي نقول، مع حقيقة مهمة ذكرناها في موضع سابق عن أن 25 أبريل 2016م، في مصر لن يكون 25 يناير 2011م، لظروف عديدة، وهو ما ثبت بالفعل، إلا أننا يمكن أن نرصد تحولات معينة جرت في مصر في الآونة الأخيرة، أعادت المشهد قليلاً إلى الوراء، إلى مرحلة ما بين عامَيْ 2006م، و2008م، عندما بدأت تشتد حُمَّى الاحتجاجات الفئوية والسياسية العامة في مصر، ومهدت لثورة الخامس والعشرين من يناير.
ومن بين أهم الملامح التي يمكن الخروج بها من خلال تتبع أوَّلي للخطاب داخل بعض الأوساط في جماعة الإخوان المسلمين، هو بدء شيوع فكرة أهمية البدء في التفكير في وضع خيار استخدام القوة على قائمة الخيارات والبدائل المطروحة أمام الجماعة في المرحلة القادمة، مع تعدد في التصورات المطروحة في هذا الصدد.
وكان الباعث الأساسي وراء هذا التنامي لهذه الفكرة في أروقة مراكز التفكير وبعض المسارات التنظيمية، مرور ما يقرب من أعوام ثلاثة على الانقلاب، من دون أن تبدو هناك بارقة احتمال لسقوطه، سواء داخليًّا أو بفعل ثورة شعبية جديدة.
جردة حساب احتجاجية!
قبل أن نتناول بالمزيد من الدقة والتوسع قضية احتمال لجوء الإخوان للقوة، بمعانيها المختلفة، والتي من بينها العنف المباشر، أو التعاون مع قوى أخرى موجودة تستخدمه؛ فإنه من الأهمية بمكان إلقاء الضوء على المشهد الاحتجاجي في مصر، والذي بدأ يدعم “حماسة” متابعيه والقوى المختلفة، وأدى إلى بعث الروح في العمل السياسي على الأرض مجددًا، بشكل مركزي وذي تأثير إعلامي واسع.
أجرى المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، ومقره في إسطنبول، في الفترة التي تلت احتجاجات 15 و25 أبريل، جردة حساب مهمة للاحتجاجات التي جرت في مصر، في الربع الأول من العام 2016م، من خلال تقارير عدد من الهيئات الحقوقية العامة في مصر.
ووجدت إحصائيات المركز، أن شهر يناير 2016م، ومن خلال تقرير للمؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، قد شهد 41 احتجاجًا، من بينها 19 احتجاجًا عماليًّا، أي بإجمالي 46.53% من إجمالي الاحتجاجات.
كما كان من اللافت أن شهد القطاع الخاص تنظيم 3 احتجاجات، بنسبة 7.32% من إجمالي الاحتجاجات في البلاد.
هذه الأرقام كانت متراجعة في رقمها عن شهر ديسمبر 2015م، الذي شهد 52 احتجاجًا، ولكنها قد تكون أكبر في النسبة، بسبب أن يناير كان قد شهد الكثير من التشديدات الأمنية بسبب استعدادات الذكرى الخامسة لثورة يناير.
وبالفعل، فإن فبراير شهد انطلاقة أخرى جديدة في العمل الاحتجاجي في مصر، على المستوى الإحصائي على الأقل؛ حيث أشارت إحصائيات وتقارير المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، إلى أن هذا الشهر قد شهد 75 احتجاجًا، تنوعت بين وقفات احتجاجية ومظاهرات وإضرابات عن العمل أو عن الطعام، أو اعتصام وقطع للطريق.
وكان حجم الاحتجاجات العمالية منها 23 احتجاجًا بنسبة 30.7%، تلتها احتجاجات النقابات المهنية، بـ17 احتجاجًا، بنسبة 22.7%؛ حيث كان هذا الشهر هو شهر الاحتجاجات التي قام بها الأطباء بسبب اعتداءات بعض أمناء الشرطة على أطباء في مستشفى المطرية.
إلا أن الرقم عاد فتراجع نسبيًّا في شهر مارس؛ حيث ذكرت الشبكة العربية لحقوق الإنسان، في تقرير المسار الديمقراطي لشهر مارس، أن مصر قد شهدت 43 فعالية احتجاجية.
هذه الصورة تقول الكثير، ولو قارنَّاها بأرقام عامَيْ 2005م، والتي لم تزِد عن احتجاجَيْن؛ فإننا يمكن قطعًا القول أن مصر بها بذرة ثورة شعبية كبيرة، فقط لو تم توظيفها بالشكل السليم من خلال الجماعات والأحزاب السياسية التي لا تزال تتبنى رسالة الثورة في مصر، وعلى رأس مكونات هذا الشكل السليم، هو اتحادها في أجندات ومسارات واحدة.
الإخوان وقضية استخدام القوة!
“سلمية موادعة = انتحارًا أو هزلاً لا يليق بالمؤمنين!!”
“.. إن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا الخير من طرق ((سلمية موادعة))، فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه، بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة، هذه جبلة ولبست ملابسة وقتية، هذه فطرة وليست حالة طارئة، ومن ثم لا بد من الجهاد، لا بد منه في كل صورة، ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود، ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح، ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة، وإلا كان الأمر “انتحارًا” أو كان هزلاً لا يليق بالمؤمنين”. الشيخ سيد قطب، في ظلال القرآن
هذا المنشور ليس الوحيد الذي يتم تداوله في بعض أوساط الشباب والشيوخ الإخوان، على حد سواء، وخصوصًا من المنتمين إلى الجناح الموصَّف بالجناح الراديكالي من الجماعة، وهو جناح موزع بين الداخل والخارج، ولكن يمكن على نحو أكثر تحديدًا هو ذلك الجناح الذي تديره اللجنة العليا التي شُكِّلتْ بعد أزمة فض رابعة والنهضة، لإدارة شؤون الجماعة، وبشكل أو بآخر قريب في مواقفه من مكتب الإخوان المصريين في الخارج.
ويستند أصحاب هذا الرأي أو التوجه، الذي بدأ في التنامي بالفعل، على عدد من الأمور والاعتبارات، على رأسها أن النظام الحاكم بأجهزته المختلفة، إنما هو أقرب إلى التشكيل العصابي، ولا يعتمد إلا لغة القوة في تعامله معه خصومه ومع الشعب، من خلال الآليات الأمنية والعسكرية، وبالتالي لا يمكن مواجهته إلا بنفس الآليات.
ولا يركن هؤلاء إلى الرهانات التي يطرحها “ساسة” الحركة في صدد التعويل على انقلاب داخلي؛ حيث إنه بفرض أن هناك خلافات أجنحة داخل النظام؛ فإنه حتى لم تمت الإطاحة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ فإن البديل سوف يكون من ذات المنظومة.
كما أن الإسناد الخليجي والدولي الواضح للنظام الراهن في مصر، يعني أنه قد استطاع بشكل ما توطيد دعائمه على المستويَيْن الإقليمي والدولي، ولن يمكن بحال الاستناد إلى خيارات من نوع إسقاطه بسب بالإنهاك أو الإرهاق؛ حيث إنه صار جزءًا من ترتيبات إقليمية ودولية لن تتركه يصل إلى هذه المرحلة من دون عمل قوي يثبت ضعف النظام ويزعزع استقراره.
في الإطار السابق؛ فإن هناك ملحظَيْن مهمَّيْن لدى المحللين وأصحاب الرأي داخل هذا التوجُّه فيما يتعلق بالأداة الأمنية والذراع القوية للنظام، الأولى هو أن الحراك المستمر في مصر في الأشهر الأخيرة، وتصاعده على هذا النحو، قد أدى إلى كسر هيبة الأداة الأمنية والعسكرية للنظام في مواجهة القوى الثورية، والثانية أن الاصطفاف الذي تم في الأشهر الأخيرة، وبدا واضحًا بشكل كبير في فاعلية النقابة يوم 15 أبريل، وفاعليات 25 أبريل؛ قد أدى إلى تقييد يد النظام في استخدام القوة في مواجهة المحتجين.
وهناك عدد من الإشكاليات التي تقف عقبة أمام الجماعة أو أي طرف فيها لامتلاك جناح عسكري يقف في وجه النظام، أهمها أن التسليح والقوة العسكرية هو خيار لم تسعَ الجماعة لامتلاكه منذ حل التنظيم الخاص في الخمسينيات، وبدء الجماعة مراجعاتها الشهيرة في مطلع السبعينيات.
وقبل الاسترسال في هذه الجزئية؛ فإن من يتبنون هذا الخيار عندما يتناقشون مع غيرهم، يطرح الآخرون أمامهم عددًا من الأسئلة، أهمها، هل الجماعة قادرة على ذلك؟! وهل سوف يشكل ذلك إضافة إلى عناصر القوة الذاتية للجماعة أم خصمًا منها؟ وهل سوف تجد الجماعة الإمكانيات والإسناد اللازم، سياسيًّا وماديًّا، أو شعبيًّا لها أم لا؟
وفي حقيقة الأمر، فإنها كلها أسئلة مشروعة، لأنها ترتبط بأهم عنصر في الأمر وهو عنصر الجدوى، فما لا جدوى منه، لا يجب اللجوء إليه، وهو أبسط قاعدة في عالم الإدارة بالأهداف.
وتطرح بعض الأوساط في هذا الصدد بدائل عدة، إذا ما كانت الجدوى قائمة، تتدرج من إقامة علاقات مع مجموعات مسلحة أخرى، مرورًا بما يُعرف باستراتيجية العمليات الفردية، وصولاً إلى تكوين مليشيات مسلحة خاصة بالجماعة ذاتها، على غرار أو نسق تجربة التنظيم الخاص في الأربعينيات.
إلا أن هذا الأمر من دون عقبات، على رأسها أن القيادة التاريخية للجماعة رفعت غطاء الشرعية عن أي فعل عنيف قد تلجأ إليه بعض المجموعات من الشباب الأكثر راديكالية داخل الجماعة.
وهو كان عنصر أزمة حقيقية في الفترة الماضية، بعد أن قام كلٌّ من الدكتور محمود غزلان والدكتور محمود حسين، بإصدار مجموعة من المقالات والرسائل، التي تؤكد كلها على سلمية حراك الجماعة، وأن من يلجأون إلى العنف، ليسوا من الإخوان المسلمين.
وأكدت ذلك سلسلة من البيانات والرسائل التي أصدرتها قيادة الجماعة (الجناح المعروف بالقيادة التاريخية، ويقوده الدكتور محمود عزت نائب المرشد العام والقائم بأعماله حاليًا)، وتبرأت فيها من المجموعات النوعية التي قامت خلال فترة من الفترات بعد الانقلاب بممارسة عمليات تفجيرية صغرى استهدفت أبراج الكهرباء ومرافق أخرى، وكذلك من عمليات عنف كبرى شهدتها مصر.
بل إن الجماعة أدانت بعض التفجيرات الإرهابية التي وقعت ضد أهداف وشخصيات رسمية، كما حدث في تفجير المنصورة الذي استهدف مديرية أمن الدقهلية، في الرابع والعشرين من ديسمبر 2013م.
لكن هذه العقبة قد لا تقارن بمسألة الفاعلية المرجوة وحسابات المكاسب والخسائر، فلو أقدمت الجماعة على ذلك، ونفذته بأقصى درجات الفاعلية والكفاءة “المهنية”، فإن ذلك في المقابل سوف يعني فقدانها أي قبول جماهيري، وكذلك سوف تفقد شريحة ضخمة من مؤيديها من القوى والأحزاب الثورية الأخرى، التي تبقى على مبدأ الاحتجاجات السلمية حتى إسقاط النظام.
وذات حسابات المكاسب والخسائر تنطبق على البيئة الإقليمية والدولية، وخصوصًا الدول التي تمثل محاضنَ للإخوان المصريين في الخارج، حيث سيكون ذلك في حينه مدعاةً لضغوط ستمارسها بكل تأكيد عواصم غربية، وأخرى عربية تقدم دعمًا مباشرًا للسيسي ونظامه، مثل الرياض وأبوظبي، قد تقود إلى طرد الإخوان منها، ولاسيما تركيا، التي تواجه في الأصل اتهامات بأنها تدعم تنظيم “داعش” في سوريا والعراق.
………..
ولكن أيًّا كان الموقف ومآلاته المستقبلية، فيبقى أن مصر والإخوان المصريين أمام مرحلة جديدة من التحولات التي قد تقود إلى نتائج غير متوقعة!