يمكننا أن نقول إن الدولة الوطنية بمفهومها الحديث نشأت في مصر منذ أن تولى حكمها محمد علي باشا، وربما منذ أن قرر الشعب أن يكون فاعلًا ورقمًا مؤثرًا في معادلة السياسة لأول مرة حين التف حول الكبراء والأشراف وأجبر السلطان العثماني على عزل واليه على مصر خورشيد باشا وتولية الرجل الذي وقع عليه اختيارهم واليًا عليها.
مفهوم الدولة الوطنية بدأ مسيرته عبر التاريخ من هنا، من تلك الحقبة.
أسس محمد علي لدولةٍ قوية على كل الجوانب السياسية والدبلوماسية والعلمية والعسكرية، أسس لتلك الدولة التي تكون مركزًا لدائرة إمبراطوريته التي لا تحتد إلا بحد طموحه الذي لا نهاية له.
حينما أسس محمد علي لدولته سياسيًا، فعل ذلك بمقاييس عصره وصوره الشائعة، بمعنى أنه لم يبتكر نظامًا سياسيًا جديدًا أو يؤسس لمذهب فكري جديد يصوغ به دولته، بل حرص على أن تكون القاهرة، أستانة جديدة، وأن تتحول قلعة صلاح الدين إلى بابٍ سامٍ لا يضاهيه الباب العالي في نفوذه، لذلك فعلى مستوى تطور النظام السياسي فمحمد علي اقتصر دوره على التأسيس للاستقلال ونشأة الدولة الوطنية فحسب.
فترة ما بعد محمد علي ظلت تحتفظ بذات الطابع السياسي وشكل السدة الحاكمة إلى أن دق الأسطول البريطاني أبواب الإسكندرية بعنف معلنًا عن بدء حقبةٍ جديدة تقع فيها الدولة المصرية تحت سلطة تاج صاحبة الجلالة.
إبراهيم باشا، عباس حلمي الأول، محمد سعيد باشا، إسماعيل باشا.
احتفظ النظام السياسي بشكله ومكوناته تحت حكم هؤلاء جميعًا باختلاف مسمياتهم وألقابهم بين جناب الوالي وحضرة الخديوي، فردٌ واحد تجتمع كل الخيوط في يمينه، لا صوتَ إلا صوته، ولا كلمةَ إلا كلمته، يحكم البلاد والعباد ويحدد المصائر والمسارات على إطلاق الأمر دون مراجعٍ او معترضٍ أو رقيب، ولكلٍ منهم بلاطٌ وحاشية، قد يشيرون عليه في بعض الأمور وربما يعترضون – على استحياءٍ شديد – على البعض الآخر، ولكن يبقى أفندينا هو الدولةُ بذاتها وكيانها ومستقبلها، منه كل شيء وإليه كل شيء.
بدخول مصر تحت إمرة الانجليز عام 1882م واستسلام عرابي بعد هزيمته في القصاصين ثم التل الكبير، دخلت مصر إلى مرحلةٍ جديدة من مراحل تطور نظامها السياسي، أضحى هناك مندوب سامٍ يحكم المحروسة نيابةً عن حكومة صاحبة الجلالة، حضرة الخديوي المعظم الذي وقف على باب قصر عابدين يقول لعرابي – ومن خلفه أفراد الجيش – بملء افتخار “ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا”، لم يعد يقطع أمرًا من أمور دولته إلا إذا حاز الأمر رضا مندوب بريطانيا العظمى السامي، وهو بحسب الأعراف الدبلوماسية مجرد سفير أجنبي في الدولة، ولكنه سفير دولة بسطت نفوذها على ربوع المحروسة بقوتها العسكرية، فصار مُلك أفندينا المعظم مرتهنٌ برضاه وكلمته.
في عهد الخديوي توفيق ومن بعده الخديوي عباس حلمي الثاني، اتخذ النظام السياسي منحًا جديدًا.
المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر على رأس السلطة الفعلية يُسير أمور الدولة وفقًا لسياسات حكومته وما يضمن استفادتها القصوى من موارد المحروسة وثرواتها، ثم الخديوي ومجلس نظَّاره الذين لم يكن دورهم فاعلًا حقًا على مستوى السلطة الفعلية والتأثير في مسارات الدولة.
في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني كانت هناك محاولات من جانبه لمخالفة السياسة الإنجليزية والتحرر من قبضتها بالتقرب إلى الباب العالي من ناحية وإلى الشعب من ناحيةٍ أخرى، إلا أن تلك المحاولات أدت إلى عزله من قبل الإنجليز أثناء سفره إلى الخارج وتولية عمه حسين كامل الذي خلع عليه الإنجليز لقب ” سلطان ” ، و نشرت جريدة الأهرام صيغة قرار العزل على النحو التالي.
بين الأسطر القليلة لهذا المنشور ما يُغني عن الاسترسال أكثر في شرح طبيعة النظام السياسي بهذه الفترة.
بعد حالة الركود في تطور النظام السياسي التي استمرت لفترة طويلة، تتابعت موجات التغيير والتطور على المشهد السياسي المصري بتولي السلطان أحمد فؤاد الحكم – الملك أحمد فؤاد فيما بعد – شهدت هذه الفترة تطورًا هائلًا في النظام السياسي المصري خاصةً بتعاظم دور الحركة الوطنية ونموها الكبير وازدياد تأثيرها على مجريات الأمور.
إلا أن التطور الأكبر على الإطلاق للنظام السياسي كان بإقرار دستور 1923م، حيث ولأول مرة في تاريخ الدولة المصرية يكون هناك اتفاقٌ مكتوب يحدد شكل الدولة وملامحها وطبيعة النظام السياسي وأركانه ودرجاته ويحدد سلطات الملك والوزارة والمجلس النيابي.
في رأيي دستور 23 هو قمة منحنى تطور النظام السياسي في مصر منذ تأسيس الدولة الحديثة وإلى الآن.
إدراك المصريين لمدى أهمية وثيقة الدستور كقيمة ودستور 23 على وجه الخصوص؛ جعلهم يرفضون دستور عام 1930 م الذي حاول الملك فرضه، ونشطت الحركة الوطنية وضجت القاهرة بالتظاهرات مطالبةً بعودة دستور 23 إلى أن عاد رغم أنف جلالته.
“جميع السلطات مصدرها الأمة واستعمالها يكون على الوجه المبين بهذا الدستور” مادة 23
الأمة مصدر السلطة ومنبعها، لا الملك، لا المندوب السامي، الأمة.
“لا يصدر قانون إلا إذا قرره البرلمان وصدق عليه الملك” مادة 25.
أصبح التشريع مقترنًا بموافقة البرلمان وإقراره ومهمة الملك تقتصر على التصديق، بعد أن كانت سلطة الحكم والتشريع مطلقة في يده.
كان دستور 23 نقطةَ انطلاقٍ عظمى لنظامٍ سياسي يليق بالدولة المصرية وتاريخها الضارب في أعماق الدهر، منه انطلقت مصر ترسم ملامحها الجديدة، وكانت هذه الملامح جميلةً بحق، إلا أن دستور 23 لم يكن كاملًا منزهًا عن الزلل.
“للملك حق حل مجلس النواب” مادة 38، ولا توجد في بقية المواد أية شروط أو ضوابط لهذا الحق، بل جُعل حق الملك في حل مجلس النواب مطلقًا!
لكن بالرغم من ذلك مثَّل دستور 23 أساسًا راسخًا لبنيانٍ قوي، واستمرت الحياة السياسية في التطور ضمن هذا الدستور، تصوغ جوانبها ومؤسساتها وأفرادها في إطار من المبادئ الدستورية الحاكمة للجميع.
الأسرة المالكة، مجلس الوزراء، مجلس النواب، مجلس الشيوخ، السلطة القضائية، الجيش المصري… إلخ، كانت هذه جميعها هي مكونات النظام السياسي في مصر، إلى أن انتهى حكم الأسرة المالكة بانقلاب 1952م .
هنا اختُزلت مكونات الحياة السياسية المصرية، واختُزلت الدولة ذاتها في مؤسسةٍ واحدة وهي”الجيش”.