الشمس مصدر الحياة على الأرض، هكذا علّمتنا الكتب ولا تزال، بيد أن الشمس مصدر لبعض التهديدات أيضًا، والحياة على الأرض فيما يبدو أكثر تعقيدًا من أن تعتمد على الشمس فقط، فالأرض ذاتها وما يدور في أعماقها يلعب دورًا هامًا في حماية كافة أشكال الحياة الموجودة على سطحها عن طريق المجال المغنطيسي الخاص بها والذي يغلفها ويطرد عنها الجسيمات المشحونة الضارة الصادرة عن الشمس، وهي مهمة لا يبدو أن الأرض تقوم بها وحدها كما تشير دراسة نُشرَت مؤخرًا، فالقمر يحرسنا هو الآخر من تهديدات الشمس.
تبدو الأرض من بعيد كرة زرقاء هادئة وساكنة، ولكن ما يقبع تحت تلك القشرة الزرقاء أبعد ما يكون عن السكون، ففي قلب تلك الكرة الصخرية تقبع كرة من الحديد الصلب بقُطر يبلغ حوالي 2400 كيلومتر، وهي الطبقة المعروفة باللُب الداخلي، ثم تعلوها طبقة سائلة من الحديد والنيكل بسُمك حوالي 2300 كيلومتر، وهي الطبقة المعروفة باللُب الخارجي، وهاتان الطبقتان هما مصدر المجال المغنطيسي الذي يصدر عن الأرض ويغلفها بالكامل، علاوة على طبقة الغشاء المائعة التي تعلوهما وتفصل بينهما وبين السطح.
كيف يحدث ذلك؟ طبقًا للنظرية المُسماة بنظرية الدينامو الكلاسيكية، والتي تشرح كيفية صدور أي مجال مغنطيسي عن جسم ما، فإن حركة سائل الحديد والنيكل في قلب الأرض (كعناصر تتسم بالقدرة على التوصيل الكهربي) تؤدي لخلق تيار كهربي وهو ما ينتج عنه بالتبعية مجال مغنطيسي، وهذا المجال في حاجة إلى استمرار حركة السائل ليظل موجودًا، وإلا فإن توقف السائل عن الحركة يؤدي لاختفاء المجال خلال 20 ألف عام وهي مدة قصيرة بالطبع من عُمر الأرض.
لا يزال المجال المغنطيسي موجودًا كما هو واضح، وبالتالي فإن السؤال الآن هو عن المصدر الذي يحرّك طبقة اللُب الخارجي السائلة تلك بشكل مستمر، والنظرية الكلاسيكية تجيب علينا مرة أخرى وتقول أن هناك مصدرين، أولهما كما هو متوقع حركة دوران الأرض حول نفسها، والتي تُقلِّب فعليًا هذا السائل، وثانيها الحرارة الناتجة عن الاضمحلال النووي للعناصر الكيميائية المشعّة الموجودة على كوكبنا، والتي يُعتقد أنها تولّد الحركة في الطبقة السائلة داخل الأرض.
كل ذلك بالطبع يسري وفق النظرية الكلاسيكية، لكن أندرو مؤلف الدراسة وفريقه البحثي وجدوا أن تلك النظرة الكلاسيكية تستتبع بعض النتائج المتعارضة مع الواقع، أبرزها هو ما يتعلق بحرارة لُب الأرض، والتي تبلغ حاليًا 6800 درجة مئوية، فالنظرية الكلاسيكية تستوجب كون الأرض بكاملها سائلة قبل أربعة مليار عام، وبالتالي فإن اللُب السائل كان ليحتاج إلى هبوط كبير في درجة الحرارة ليصل إلى الرقم الحالي، وهو تقريبًا انخفاض قدره 5400 درجة مئوية (أي أن اللُب كانت حرارته 12200 درجة مئوية قبل أربعة مليار عام.)
الأرض بمجالها المغنطيسي وطبقاتها الأربع: القشرة الزرقاء ثم الغشاء السميك ثم اللُب الخارجي ثم اللب الداخلي
لسوء حظ النظرية الكلاسيكية، فإن الدراسات الزلزالية التي يقوم بها العلماء، وتحليلاتهم الكيميائية للضخور العتيقة، تشير إلى أن حرارة لُب الأرض لم تنخفض بهذا الشكل الكبير والسريع أبدًا، وأن لُب الأرض لم يبرُد منذ تشكله سوى 540 درجة مئوية فقط، مما يعني أن هناك سببًا خارجيًا تسبب في تزويد لُب الأرض بالطاقة الكافية ليحافظ على درجة حرارته بشكل جيد، على عكس البرود السريع للنموذج الكلاسيكي (وهو ما يعني بالطبع أن حرارة اللُب لم تكن 12200 درجة قبل أربعة مليارات عام، بل أعلى من حرارة اليوم فقط بـ540 درجة.)
كيف حافظ اللُب على حرارته إذن؟ ومن أين أتى بتلك الطاقة ليظل “دافئًا”؟ هذا هو السؤال الذي ظل لغزًا محيرًا للكثير من العلماء، لكن المؤكد لهم كان وجود قوة ما تؤثر على اللُب الحديدي للأرض، وتعطيه مصدرًا إضافيًا للحركة غير دوران الأرض، والشكوك اتجهت بشكل منطقي بطبيعة الحال إلى القمر، والذي نعرف أن جاذبيته تؤثر بالفعل على الأرض، وأشهر تلك الظواهر هي ظاهرة المد والجزر التي شهدها الكثير منها بالتأكيد عند شواطئ البحار.
يبدو أن تأثير القمر لا يتوقف فقط عند البحار، بل يمتد إلى الغشاء واللُب الخارجي السائل تحته كما يقول أندرو في دراسته، حيث قام مع فريقه بتقدير حجم القوة الإضافية التي تمنحها جاذبية القمر للُب الأرض بألف مليار واط، وكأن القمر قد زرع فعليًا محرّكًا بالجاذبية يزود اللُب الحديدي بالطاقة ليظل دافئًا ومفعمًا بالحركة، وبالتالي يحافظ على درجة الحرارة الكافية ليبقى المجال المغنطيسي للأرض كما هو، وتبقى الحياة على الأرض بالنتيجة في أمان.
دور القمر بالطبع ليس بهذه البساطة فقط، فنتيجة لتداخله مع تأثير دوران الأرض بينما تدور حول نفسها، فإن جاذبية القمر ليست موزعة بالتساوي في كافة المواقع على الأرض، وتتباين في قوتها على مدار الساعة، وهو تباين يؤثر على طبقة الغشاء الموجودة تحت القشرة الأرضية مباشرة (والتي تفصلها عن اللُب الأكثر عُمقًا،) وبسبب أنها طبقة مائعة لا صلبة فإن ذلك التباين يجعلها تتعرّج، ومن ثم تضغط على اللُب الحديدي الموجود تحتها بشكل متغيّر هنا وهناك وكأنها ضغطات أصابع عازف على البيانو.
تلك السيمفونية الجاذبية التي تعُزف في قلب الأرض الحديدي ليست فقط مسؤولة عن الطاقة والدفء في قلبها، بل هي مسؤولة أيضًا على الأرجح عن ذوبان بعض أجزاء الغشاء بشكل كامل نتيجة تعرّضها للسخونة، والتي تنطلق في شكل حمم بركانية باتجاه السطح إن وجدت ثغرات في القشرة الأرضية أعلاها لتشكل بذلك جزئيًا ظاهرة البراكين التي نعرفها.
لا يمكننا المقارنة بالطبع بين تلك الخطورة الطفيفة والحادثة بين الحين والآخر بسبب القمر (بشكل جزئي) والمهمة الجليلة التي يُسديها لكافة أشكال الحياة على كوكبنا بحراسة مجالها المغنطيسي على مدار أربعة مليار سنة، والذي كان لينقشع تمامًا في مراحل مبكرة من عُمر الأرض تاركًا إياها فريسة لتهديدات الشمس، دون أن يعطي ضوءها فرصة أصلًا ليكون “مصدرًا للحياة على الأرض.”
نحن ندين إذن للقمر على ما يبدو كما ندين للشمس، وندين كذلك لكرة حديدية مفعمة بالطاقة والحرارة قابعة تحت أقدامنا على بعد بضعة آلاف من الكيلومترات، لحماية الحياة المركّبة التي تسكن السطح الهادئ لكوكبنا منذ ملايين السنين.
*المصدر: مجلة ديسكافر