لم يعد الخلاف بين إيران وأغلب جيرانها العرب مجرد تدافع سياسي حول المصالح وتعزيز النفوذ. إن أخذ هذا الخلاف من جوانبه المختلفة، فالواضح أن المحيط العربي يواجه مسألة إيرانية، بالغة التعقيد. وهذه المسألة ليست مرشحة للحل، سواء وافق الأمريكيون على تبني وجهة النظر العربية تجاه إيران، كما تحاول دول الخليج إقناع الحليف الأمريكي منذ شهور، أو لم يوافقوا. ليس هناك شك في أن الصراع في الشرق الأوسط يثير اهتمام وقلق القوى الدولية الرئيسية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. ولكن هذا الاهتمام والقلق لم يعد كما كان من قبل، بالرغم من أهمية المنطقة كمصدر هائل لمصادر الطاقة، وباعتبارها مصدر موجة جديدة من الإرهاب العالمي وملايين من اللاجئين؛ ووجود الدولة العبرية. والواضح، أن أغلب الدول الغربية لم يعد يرى أن المخاطر النابعة من الشرق الأوسط تشكل تهديداً كبيراً لأمنها القومي، أو أن هذه المخاطر عصية على الاحتواء. وتشير النصيحة التي وجهها أوباما لدول الخليج في قمة الرياض، في الأسبوع الماضي، إلى أن سياسة تجنب التورط الأمريكية في الشرق الأوسط لم تزل على ما هي عليه.
من جهة أخرى، فسواء رحبت القوى الغربية بتفاقم الصراع العربي ـ الإيراني، أو خشيت عواقبه؛ وسواء قررت الدول العربية المعنية الوقوف في وجه إيران منفردة أو انتظار التحاق الشركاء الغربيين، فعلى الجميع إدراك حقائق هذا الصراع ومداه؛ سواء فاوض العرب الإيرانيين أو حاربوهم. هذه بعض الأسباب التي تجعل إيران مسألة بعيدة المدى في جوارها العربي.
أولاً، تقود إيران منذ سنوات، ومنذ غزو أفغانستان في 2001، على وجه الخصوص، مشروعاً توسعياً في الجوار الإقليمي. يعود هذا المشروع إلى الطبيعة التوسعية التاريخية للدولة الإيرانية، منذ ولادتها من جديد في بداية القرن السادس عشر؛ إلى شعور إيراني متزايد بالتهديد، تمتد جذوره إلى سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية؛ وإلى فرص توسعية أتاحتها سياسة الحرب الشاملة التي اتبعتها إدارة بوش الابن في الشرق الأوسط. وبالرغم من أن إيران تحاول منذ سنوات تأسيس نفوذ لها في جواريها الشرقي والشمالي، إلا أن اعتبارات جيوسياسية للعلاقة مع روسيا، ومواريث تاريخية يصعب تجاوزها، وضعت حدوداً لما يمكن لهذه المحاولات تحقيقه.
التوسع في الجوار العربي، وتعزيز الرصيد الجيوسياسي، كانا أسهل منالاً. إلى جانب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، تعرضت المنطقة العربية خلال العقد ونصف العقد الماضيين لزلزالين كبيرين، صنعا بعضاً من فراغ القوة، أخرجا عدداً من الدول العربية الرئيسية من ميزان القوى الإقليمي، وأتاحا لإيران عدداً من الفرص السانحة للتوسع وتعزيز النفوذ. نجحت إيران في بناء قوة عسكرية ـ سياسة في لبنان، لم تصبح طرفاً رئيسياً في صناعة القرار اللبناني وحسب، بل وأصبحت مؤهلة للتدخل في دول عربية أخرى؛ سيطرت إيران على قرار الدولة العراقية الجديدة، وربطت قطاعاً واسعاً من القوى السياسية العراقية بها؛ وفرت الحماية لنظام بشار الأسد، وتحولت بالتالي إلى ما يشبه القوة المحتلة لسوريا؛ وعملت على بناء الحوثيين بهدف السيطرة على اليمن ككل.
ليس ثمة امتداد إيراني، إثني ـ قومي ملموس في المجال العربي؛ ولكن القيادة الإيرانية تستخدم الخطاب القومي لتسويغ مشروع التوسع، وتوفير دعم شعبي داخلي كاف لاستمراره. وقد نجحت في تحقيق هذا الهدف إلى حد كبير. إيران دولة ذات مقدرات اقتصادية وبشرية بلا شك، ولكن الثمن الذي تدفعه من أجل تعزيز نفوذها الإقليمي أصبح باهظاً أيضاً، سواء مالياً أو بشرياً؛ بينما لم يزل المردود الاقتصادي لهذا المشروع محدوداً للغاية. ولذا، ولمنع الأصوات المعارضة في الداخل من تحويل الخسائر المالية/ الاقتصادية والبشرية إلى رأسمال سياسي، تعول القيادة الإيرانية على سردية استقلال القرار، المصالح القومية، والأوهام الإمبراطورية لدولة ممتدة من قزوين إلى البحر الأحمر، ومن الخليج إلى المتوسط، لكسب التأييد الشعبي لسياساتها الإقليمية.
بيد أن البعد الطائفي تحول سريعاً في السنوات القليلة الماضية إلى أكثر أبعاد المسألة الإيرانية وقعاً وأثراً. إن لم يكن لإيران امتداد إثني ـ قومي ملموس في الإقليم (إيران نفسها ليست سوى مجموعة من الإثنيات)، فهناك امتداد طائفي ليس صغيراً. وبالرغم من أن إيران لم تكن دائماً المركز الديني الرئيسي للشيعة المسلمين في العالم، فقد أصبحت كذلك إلى حد كبير في العقود التالية على ولادة الجمهورية الإسلامية. لم يقع هذا التطور بالضرورة لأن العلماء الإيرانيين هم الاكثر علماً وتأثيراً في عداد العلماء المسلمين الشيعة في العالم، ولكن لأن الجمهورية عرفت نفسها، من البداية، تعريفاً شيعياً، ولأن قيادة الجمهورية وظفت مقدرات الدولة لخدمة هدف تحول إيران إلى المركز القائد لعموم الشيعة. شيئاً فشيئاً، وبالرغم من وجود دوائر علمائية معارضة للرؤية الإيرانية للتشيع، أخذ نفوذ هذه الدوائر في الانحسار والتراجع.
من جهة أخرى، لم تتردد القيادة الإيرانية في استخدام الولاء الطائفي لخدمة مشروعها التوسعي، بدون اكتراث كبير بالعواقب الوخيمة لهذه السياسة على علاقات الشيعة العرب بمواطنيهم من الأغلبية السنية. تحول الشيعة اللبنانيون تدريجياً من مواطنين لبنانيين مسلمين، إلى جماعة طائفية سياسية؛ انهارت الوطنية العراقية كلية تقريباً، لصالح توجهات طائفية للهيمنة على الدولة والبلاد؛ تتصاعد الشكوك بين الشيعة العرب في الخليج، من جهة، ومواطنيهم العرب السنة ودولهم، من جهة أخرى؛ يتعرض اليمن للمرة الأولى في تاريخه لعاصفة انقسام طائفي؛ ويتم اختراع تموضع جديد لعلوييي سوريا ولبنان باعتبارهم شيعة يرتبطون بإيران، هم أيضاً.
يوفر التشيع، بإعادة صياغته السياسية ـ الطائفية، إطاراً أيديولوجياً لمشروع التوسعي الإيراني، ويصنع قواعد نفوذ لإيران في عدد من دول الجوار الإقليمي. بمعنى، أن المشروع الإقليمي الإيراني لم يعد مشروعاً جيوسياسياً وحسب، بل وأيديولوجياً كذلك. هذا ليس الشاه محمد رضا بهلوي يسعى إلى التحول إلى شرطي شريك للولايات المتحدة في الخليج، ولا روسيا بوتين تحاول تأمين جوارها الاستراتيجي وتوازن القوة في القارة الأوروبية. هذا مشروع أقرب إلى النموذج السوفييتي، وإن بصورة مصغرة، عندما استخدمت الأيديولوجيا الشيوعية لبناء إمبراطورية عابرة للحدود والقارات والقوميات.
ساهمت السياسة الإيرانية خلال العقد ونصف العقد الماضيين في إشعال حروب أهلية، دموية في العراق وسوريا واليمن، في إعادة تعريف للهويات في الجوار، وفي انهيار دول وطنية. كان لهذه السياسة عواقب وخيمة على النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي لعدد من الدول العربية. وربما يمكن القول أن سياسات طهران الإقليمية أوقعت عطباً بالغاً في بنية المجتمعات العربية المستهدفة إيرانياً. ليست إيران دولة عظمى بالتأكيد؛ وحتى في الموازين الإقليمية، تعتبر إيران دولة متوسطة الإمكانيات.
وبالمقارنة بجوارها العربي، فإن إيران لا تقل تعددية، إثنياً وطائفياً، عن العراق وسوريا. ولكن المشكلة، أن إيران تكاد تكون الدولة الوحيدة التي ترتكز سياستها الإقليمية إلى استراتيجية شاملة، متعددة الأبعاد والمستويات: المال والاقتصاد، القوة العسكرية، والرابطة الطائفية، والتي توظف هذه الأبعاد جميعاً بغض النظر عن عواقبها الوخيمة على الذات والشعوب المجاورة. الأبعاد المختلفة للسياسة الإيرانية، والعواقب الباهظة لهذه السياسة في الجوار العربي، تجعل من العلاقة مع إيران مسألة عصية، ليس من المتوقع إيجاد حل سريع أو سهل لها.