في زيارةٍ لولي عهد دولة الإمارات العربية المتحدة لمصر، أعلن محمد بن زايد آل نهيان، من القاهرة، تقديم بلاده مبلغ 4 مليارات دولار دعمًا للنظام المصري، ملياران منها توجه للاستثمار في عدد من المجالات التنموية في مصر (لم يعلن عن أي منها بشكل واقعي)، وملياران وديعة في البنك المركزي المصري لدعم الاحتياطي النقدي المصري.
بعد ذلك بأقل من أسبوع، أعلنت العديد من وسائل الإعلام المصرية، أن وفدًا حكوميًا سيسافر إلى أبو ظبي، لإجراء بعض اللقاءات مع مسؤولين إماراتيين، للتفاوض على 4 مليارات دولار جديدة لدعم الاقتصاد.
هذه المساعدات وغيرها، تفتح الباب كثيرًا أمام التساؤلات عن مصير هذه المليارات التي لا يُرى لها أية آثار في الاقتصاد المصري الذي يزداد سوءًا يومًا بعد الآخر، ومدى صمود الاقتصاد المصري.
القصة من البداية
تلقت مصر مليارات الدولارات في صورة مساعدات خليجية منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، بعضها في صورة قروض وهبات لا ترد، وبعضها الآخر في صورة مشتقات بترولية، هذا فضلًا عن مشاريع واستثمارات تحدثت عنها وسائل إعلام مصرية.
وتشير التقارير دائمًا إلى أرقامٍ متضاربة حول حجم هذه المساعدات، كما أن الغموض يحوم حول الجهة التي تتلقى هذه الأموال دون الإعلان عنها بشكل رئيسي، فهل هي الخزينة العامة للدولة أم حسابات وخزانات جهات سيادية خاصة؟
فبعد الانقلاب مباشرةً أعلنت كل من الكويت والسعودية والإمارات “التبرع” لمصر بـ 12 مليار دولار، بعد ذلك أعلن عبدالفتاح السيسي، عقب الانتخابات أن ما تلقته مصر من مساعدات بلغ 21 مليار دولار نقدًا، إضافة إلى أن السعودية كانت تقدم سبعمائة مليون دولار شهريًا في شكل مواد بترولية، الأمر الذي يجعل الحجم الكلي للمساعدات الخليجية حتى نهاية عام 2015 يتجاوز الثلاثين مليار دولار.
أين يذهب “رز” الخليج؟
“فلوس زي الرز” تلك هي الاستراتيجية التي يتعامل بها النظام المصري، مع الدول الخليجية، والمساعدات التي يقدمونها؛ ففي فبراير من العام الماضي، بثت قناة مكملين الفضائية، تسريبًا لعبد الفتاح السيسي حينما كان وزيرًا للدفاع في لقاء جمعه بمدير مكتبه عباس كامل ورئيس الأركان محمود حجازي.
تضمن التسريب حوارًا بين الثلاثة حول طلب السيسي 10 مليارات دولار من الكويت والسعودية والإمارات، موجهًا، بتحويل جزء كبير من مليارات هذه المنح الخليجية للجيش لا للحسابات الرسمية المصرية.
يفسر ذلك، اختفاء هذه الأموال من مصارفها المنطقية كالخزانة المصرية أو الصناديق التي يتم الإشراف عليها من قبل الأجهزة الحكومية المختلفة.
بعد هذا التسريب بأيامٍ قليلة، بثّ الإعلامي أسامة جاويش، عبر قناة مكملين، تسريبًا آخر تحت عنوان “السيسي ينهب الخليج” يوضّح فيه كيف تعامل قادة الانقلاب مع الأموال الخليجية وكيفية نهب المساعدات التي تُقدم لمصر.
هذا التسجيل، جمع بين عباس كامل، واللواء أحمد عبد الحليم مساعد رئيس الأركان للشؤون الطبية، وأحمد علي المتحدث العسكري السابق، وفيه وجّه كامل حديثه للضباط، “هو خادم الحرمين أهدى المساعدات الطبية لشعب مصر ولا للجيش”، فكان رد المتحدث العسكري: “الجيش هو الشعب المصري يا فندم”، ليطلب عباس من عبد الحليم حرمان المصريين، أصحاب المنحة الأصليين من الدواء والعلاج بداعي أن المملكة السعودية توقفت عن إرسالها.
التسريبات، حملت أيضًا الكثير، ففي أحد أجزائها التي جمعت بين السيسي وعباس كامل، تطرق حوارهما للدعم في حال وصول السيسي للرئاسة رسميًا، حيث أكد عباس أنه يجب أن يتطور الدعم العيني مثل البترول والأسمنت والحديد، فيرد السيسي أنه لا يكترث بغير الدعم النقدي، ويقول: “ميجيبش إلا نقدية، خد بالك بس من اللي أنا بقوله، أنا بعرف أتصرف”.
ثم بدأ كامل، في تعديد أشكال المساعدات، “علاوة عالمواد البترولية، لما سيادتك تجمعها سيادتك والله معدي التلاتين مليار دولار”، ثم يتطرق حوارهما لتفاصيل هذه الثلاثين، “16 من السعودية و9 من الإمارات على 4 من الكويت، مع بعض المليارات من هنا على هناك”، ليؤكد عباس أنه على يد السيسي “الخير هيزيد وهيبارك”.
وقبل يومٍ من إذاعة هذه التسريبات، كان الأمير السعودي سعود بن سيف النصر، قام بما اعتبره مراقبون، تمهيدًا لهذه التسجيلات، حيث كتب عبر حسابه على تويتر، “بما أنه لا أحد يعرف الأساس الذي أعطى المدعو خالد التويجري وعصابته عليه مبلغ عشرين مليار دولار لمصر، فقد نهب المدعو وعصابته هذه الأموال، وتساءل الأمير، لماذا لا يُسأل القائمون، عن التبذير وتبديد خيرات الشعب السعودي أمثال المدعو (التويجري) على جنرالات الانقلاب في مصر؟”، وأكد الأمير السعودي، أنه “رغم المليارات التي انهمرت كالمطر على هؤلاء الجنرالات، فلا يزال المصريون يعانون أزمة كهرباء وغاز، بل ورغيف الخبز”.
يدلل على اختفاء الأموال أيضًا، ما قاله رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الدكتور أنور عشقي، إن دول الخليج لا تعرف أين ذهبت المساعدات والأموال التي قدمتها لمصر.
صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية التي تهتم بالأعمال التجارية الدولية، نقلت عن الكاتب المحلل في الشأن المصري كورت ديبوف قوله: “ربما أشد التسريبات إثارة هي تلك التي تظهر السيسي وهو يقترح تحويل مساعدات من دول الخليج إلى حسابات الجيش”.
المؤتمر الاقتصادي
كان المؤتمر الاقتصادي في مارس من العام الماضي، موسمًا جديدًا للنظام، في تلقي المعونات الخليجية، حيث أعلنت دول الخليج في افتتاح المؤتمر عن حزمة من المساعدات بإجمالي 12 مليار دولار.
وأعلن أمير الكويت، صباح الأحمد الصباح، في كلمته في افتتاح المؤتمر، دعم بلاده للاقتصاد المصري بمساعدات تبلغ قيمتها أربعة مليارات دولار؛ ما دفع كويتيون لمخاطبة أمير بلادهم بالقول “المليارات للسيسي والحرمان لأبنائنا”، حيث انتقد نواب كويتيون ما صرح به الأمير عن دعمه للحكومة المصرية، واصفين البرلمان الكويتي بالميت إكلنيكيًا، موضحين أن الشعب الكويتي يُحرم لصالح دعم عبد الفتاح السيسي، حسبما نقل موقع أسرار عربية.
وخلال كلمته بالمؤتمر، كشف حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أن الإمارات قدمت 14 مليار دولار لمصر منذ يوليو 2013 وحتى مارس 2015.
يشار إلى أنه، قد شارك في المؤتمر ممثلون عن 90 دولة، و25 منظمة دولية وإقليمية، من بينها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي وبنك الاستثمار الإسلامي وبنك التنمية الإفريقي، إلا أن نصيب الأسد من المعونات والاستثمارات المقدمة كان لدول الخليج.
في السياق ذاته، أكد البنك الدولي في تقريره، الآفاق الاقتصادية العالمية، أن المساعدات الإنمائية الرسمية من دول مجلس التعاون الخليجي وتحديدًا من الكويت والسعودية والإمارات تشكل أكثر من 18% من إجمالي المساعدات للمنطقة، وتصل نسبة المقدم منها لمصر 72%.
أين تذهب كُل هذه المليارات؟
يوضح الدكتور فخري الفقي أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة ومستشار صندوق النقد الدولي سابقًا في تصريحات لموقع دويتشه فيله، أن “إجمالي ما تم رصده لمصر نحو 33 مليار دولار، فضلاً عن دعم عيني في صورة دعم المواد البترولية، وصل من هذه الأموال نحو 23 مليار دولار، منها 12 مليار دولار وديعة للبنك المركزي على دفعتين”، وأشار أستاذ الاقتصاد إلى أن هذه الأموال لعبت دورًا في دعم الاحتياطي النقدي الأجنبي، لأنه كان قد تدهور بشكل كبير.
على جانبٍ آخر، أوضح عضو ومقرر لجنة الشؤون المالية في مجلس الأمة الكويتي السابق عبد الرحمن فهد العنجري، أن النظام المصري يقدم تقاريرًا متضاربة حول حجم الأموال الخليجية، مشيرًا إلى أن مشكلة الاقتصاد في مصر تكمن في سيطرة الجيش على حوالي 28% من إجمالي اقتصاد البلاد.
أين يمكن تتبع هذه الأموال؟
تقول التقارير إن هناك مسارات رسمية لأي مبالغ تأتي من الخارج، لكنها جميعًا يجب أن تتم عبر البنك المركزي، أولها المنح التي تثبت في الباب الثاني من الإيرادات في الموازنة العامة للدولة، والثاني الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تذهب لشراء أو إنشاء أصول، الثالث القروض والودائع التي يتم إضافتها إلى احتياطي البلاد لدى البنك المركزي؛ وتمثل دَيْنًا خارجيًّا على الدولة يتم سداده حسب مدة القرض أو الوديعة.
في هذا السياق، يقول برلماني سابق، للجزيرة مباشر، إنه رغم ضخامة المساعدات الخليجية المعلن عنها، إلا أن البيان المالي للموازنة العامة للدولة عن العام المالي 2015-2016 أقر فقط، بنحو نصف ما تم الإعلان عنه، إذ جاء فيه أن إجمالي المنح قد بلغ 95.9 مليار جنيه عام 2013-2014، كما بلغت 25.7 مليار جنيه عام 2014-2015، ومن المتوقع أن تبلغ 2.2 مليار جنيه فقط للعام المالي الحالي.
يشار إلى أن التقرير المالي الشهري الصادر عن وزارة المالية المصرية لشهر فبراير الماضي، نقلًا عن البنك المركزي المصري، ذكر أن صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة لدولة الإمارات العربية المتحدة قد بلغ 411 مليون دولار عام 2010-2011، وبلغ 560 مليون دولار عام 2011-2012، وبلغ 481 مليون دولار عام 2012-2013، وبلغ 401 مليون دولار عام 2013-2014، وبلغ 1383 مليون دولار عام 2014-2015، كما بلغ 146 مليون دولار خلال الربع الأول من العام 2015-2016.
وبالعودة، للمساعدة الإماراتية الأخيرة، والتي بلغت 4 مليارات دولار، فكما يرى خبراء، فإنها قد رفعت الاحتياطي النقدي في البنك المركزي إلى 18.5 مليار دولار، إلا أنها رفعت معها نسبة الودائع الخليجية إلى 9 مليار دولار أي ما يقارب من الـ50%.
وعلى صعيد آخر لن يستمر هذا الارتفاع في قيمة احتياطي النقد بعد سداد مصر آخر سندات قطر المستحقة في يوليو القادم، بالإضافة إلى 700 مليون دولار قيمة قسط نادي باريس.
هل يُرى أثر لهذه الأموال؟
صندوق النقد الدولي في تقريره، مستجدات آفاق الاقتصاد الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، الذي صدر مؤخرًا، قال إن ارتفاع الدين العام في مصر يقدر بحوالي 96% من إجمالى الناتج المحلي، ما يتسبب في تقويض ثقة المستثمرين، خاصة في بيئة الأسواق المالية العالمية المتقلبة، وفي ضوء ارتفاع تكاليف خدمة الدين وزيادة الاحتياجات من التمويل.
وطرحت وزارة المالية، الخميس الماضي، سندات خزانة بقيمة 3.750 مليار جنيه، فيما تستهدف الوزارة طرح أدوات دين “أذون وسندات خزانة” بقيمة 112.250 مليار جنيه، خلال مايو المقبل، لتمويل عجز الموازنة العامة.
توقع صندوق النقد الدولي أن تكون فرص نمو الاقتصاد المصري، أقل حظًا، متوقعًا في الوقت نفسه أن تشهد معدلات البطالة في مصر ارتفاعًا مقارنة مع مستوياتها في 2015.
هل يصمد الاقتصاد المصري بهذا الشكل؟
الخبير الاقتصادي ومدير عام قطاع البحوث بالبنك الأهلي المصري سابقًا، الدكتورة سلوى العنتري، وصفت في تصريحات لجريدة المصري اليوم، استمرار المساعدات الخارجية بالكارثة في كل الأحوال، موضحةً أن الاعتماد على المساعدات مفهوم في البداية حتى يتعافى الاقتصاد المصري، وترى العنتري، أنه إذا كانت الحكومة قد قررت أن تكون المساعدات فترة انتقالية، كان من المفترض اتخاذ إجراءات للاستغناء عنها بتدبير موارد محلية تعوض المساعدات، مؤكدةً أن الحكومة لا تبذل جهدًا في تعبئة موارد الدولة للتخلي عن الدعم الخارجي.
ختامًا، فإن جميع التقارير المالية والمصرفية، تشير إلى أن الأزمات الاقتصادية في مصر لا تتوقف، ويبدو أنها لن تتوقف، وأن الاقتصاد المصري لا يقدر على التعافي، نتيجة جفاف مصادر دخل كبيرة كقناة السويس والسياحة، وأزمات النقد الأجنبي المتكررة، والصعود الجنوني لسعر صرف الدولار، وتلاعب السوق السوداء في أسعاره، ما يجعل حركة الاستيراد والتصدير في اضطراب دائم، لتكون النتيجة أن المساعدات المالية الأجنبية، حتى وإن كانت كبيرة، فإنها لا تؤتي أية ثمار.