نشرت صحيفة النيويورك تايمز مقالًا مطولًا تحت عنوان “مع انحدار العراق إلى الاضطربات، يدعو البعض لتقسيم البلاد”، تصف فيه حالة التخبط العراقية الناجمة عن تصاعد معارضة خطوة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لتأسيس حكومة تكنوقراط والتي تلازمت مع تصاعد المطالبات بتقسيم العراق كحل للمشكلات العديدة التي تواجهها.
ابتدرت الصحيفة تقريرها، الذي حرره الصحفي تيم أرانجو، بوصف مشهد تجمع عشرات الآلاف من المحتجين في مسيرة في بشوارع بغداد للمطالبة بتغيير الحكومة، ومثول العبادي أمام البرلمان هذا الأسبوع أملًا بتسريع عملية تشكيل الحكومة من خلال تقديم لائحة وزراء جدد.
ولكن بعد أن قوبل العبادي بسيل من زجاجات المياه التي ألقاها عليه أعضاء البرلمان، الذين عبّروا عن استهجانهم لخطوته من خلا الضرب على الطاولات وترديد شعارات الإطاحة به، انتقل العبادي إلى غرفة اجتماع آخر، حيث أعلنت كتلة من النواب الداعمين له اكتمال النصاب القانوني للجلسة، ووافقوا على تعيين عدد من وزراء التكنوقراط الجدد، كخطوة لإنهاء السياسات الطائفية والفساد والمحسوبية.
هل يمكن أن تصبح العراق في أي وقت من الأوقات دولة فاعلة تعيش في سلام مع نفسها؟
ولكن، وكالكثير من المقاربات العراقية، تبين بأن هذا الجهد غير كافٍ، حيث بقيت العديد من الوزارات الرئيسية، بما في ذلك وزارة النفط والخارجية والمالية، بدون أي وزير ليشغلها، وتم إلغاء جلسة جديدة للبرلمان يوم الخميس المنصرم.
التقسيم هو الحل
أشارت الصحيفة بأنه بعد حوالي العامين من اجتياح الدولة الإسلامية لشمال العراق، الأمر الذي اضطر إدارة أوباما لإعادة الانخراط في الصراع العراقي بعد احتفالها بانتهائه، يبدو النظام السياسي في العراق معطلًا، وفقما بدا واضحًا من مشاهد الفوضى في البرلمان هذا الأسبوع.
وبمناسبة الزيارة المفاجئة لبغداد يوم الخميس الماضي من قِبل نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، الذي دعا عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ في مقال نشره بعام 2006 لتقسيم العراق إلى مناطق سنية وشيعية وكردية، تساءلت الصحيفة عن السؤال الذي أنهك القوى الأجنبية على مدى قرن من الزمان: “هل يمكن أن تصبح العراق في أي وقت من الأوقات دولة فاعلة تعيش في سلام مع نفسها؟”.
في هذا السياق، نقل محرر المقال، أرانجو، عن علي خضيري، المسؤول السابق الأمريكي في العراق الذي عمل مساعدًا لعدد من السفراء والجنرالات، قوله: “أعتقد عمومًا بأن العراق غير قابل للحكم في ظل التركيبة الحالية”، وأوضح بأن حل الكونفدرالية، أو تقسيم العراق، قد يكون العلاج الوحيد الناجع لمشاكل البلاد، واصفًا إياه بـ”الحل غير المثالي لعالم غير مثالي”.
يشير خضيري، الذي وصفه التقرير بأنه من أشد المعارضين للسياسة الأمريكية في العراق اليوم، بأن “ترابط المجتمع العراقي عنيف ومختل وظيفيًا، ومع ذلك نستمر بضخ الحياة والدولارات الأمريكية ضمنه على أمل حدوث معجزة ما، ولكن ينبغي علينا أن نسعى بدلًا من ذلك للتوسط في انفصال ودي ينجم عن حق تقرير المصير للمجتمعات العراقية المنقسمة”.
مقاتلي البشمركة الكردية في مدينة طوز خورماتو الشمالية
التقسيم ما بين الرفض العلني والإقرار السري
يذكّر التقرير بأن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الأراضي في العراق وسوريا، وتوسعه في ليبيا وأفغانستان وأماكن أخرى، فضلًا عن تنفيذه لهجمات إرهابية في باريس وبروكسل، قد ينسينا بأن المجموعة بزغت في المقام الأول نتيجة لفشل السياسة في العراق، وبالذات نتيجة للسياسات الطائفية لرئيس الوزراء الشيعي السابق نوري المالكي.
العراق عالق في حلقة مفرغة من تكرار التاريخ لنفسه إلى ما لا نهاية
وفي هذا الوقت، ما يزال المسؤولون الأميركيون يصرون بأن الحفاظ على وحدة العراق هو ديدن سياستهم في البلاد، ولكن على الجانب الآخر، باشر مسؤولو الأمم المتحدة في بغداد دراسة الكيفية التي يمكن فيها للمجتمع الدولي أن يدير تفكك البلاد بهدوء شديد.
وتُرجع الصحيفة تفاقم الأزمة السياسية في العراق لانهيار أسعار النفط، الذي يعد شريان الحياة الرئيسي في البلاد، والحرب الطاحنة ضد داعش، فضلًا عن الاقتتال الذي ابتدر مؤخرًا بين الميليشيات الشيعية والأكراد في الشمال، الذي يخشى المحللون بأن يفتتح صراعًا عنيفًا جديدًا في البلاد، مما يجعل العراق عالقة في حلقة مفرغة من تكرار التاريخ لنفسه إلى ما لا نهاية، على حد وصف الصحيفة.
وعلى الرغم من اقتراحه السابق بتقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق نفوذ، عمل بايدن علنًا على تعزيز وحدة العراق، ولكن في تصريحاته يوم الخميس أمام الموظفين الدبلوماسيين والعسكريين الأميركيين في بغداد، عاد بادين ليؤكد صحة هذا الاقتراح، حيث أوضح بأن الغرب هو الذي رسم خطوط الدول الحالية الاصطناعية، وخلق دولًا مصطنعة تضم مجموعات عرقية ودينية وثقافية متباينة للغاية، قائلًا: “إننا فرضنا عليهم هذه الحدود ليعيشوا ضمنها سويًا”.
العراق: إرث التقسيم المتجدد
منذ 100 عام تقريبًا، أعلنت جيرترود بيل، المسؤولة والجاسوسة البريطانية التي يعود إليها الفضل في رسم حدود العراق الحديث بعد الحرب العالمية الأولى، عن قلقها حول مشروع التقسيم، حيث انتقدت مشروع خلق دولة جديدة بقولها: “هرعنا إلى هذا العمل متجاهلين كالمعتاد خلق نظام سياسي شامل”.
وفي هذا السياق، توضح النيويورك تايمز بأن إرث بيل ما زال مستمرًا حتى وقتنا هذا؛ ففي الأسبوع الجاري، رشح العبادي الشريف علي بن حسين، وهو سليل الملك فيصل، الذي تم اختياره من قِبل السيدة بيل في عام 1921 لحكم العراق، لاستلام منصب وزير الخارجية، ولكن أعضاء البرلمان العراقي رفضوا هذا الاقتراح باعتبار تعيينه يشكل تذكيرًا بحقبة الملكية العراقية الفاشلة.
يتمتع العراق بذاكرة طويلة من قصر النظر
غالبية مشاكل العراق اليوم تنبع، وفق رأي الصحيفة، من الإرث الوحشي لنظام صدام حسين، حيث تعرض الشيعة والأكراد للقمع السافر تحت إدارة حسين التي يهيمن عليها السنة، ولم يستطيعوا تجاوز مظالمهم التي نشأت إثر تلك الحقبة، وفي ذات الوقت، يتظلم العرب السنة من تهميش مجتمعهم بأسره بشكل غير عادل جرّاء ربطه بجرائم صدام حسين.
التنافس الشيعي – الشيعي
“يبدو بأن العراق يتمتع بذاكرة طويلة من قصر النظر” قالت كيت غيلمور، مسؤولة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بعد زيارتها للعراق هذا الأسبوع، وتابعت: “تبدو العراق كسيارة تسير عبر تلال وعرة، مزودة بمرآة رؤية خلفية كبيرة، ولكنها تنظر من خلال ثقب مفتاح للطريق الذي يقبع أمامها، فضلًا عن التنافس المحموم لتسلم دفة عجلة القياد؛ فالسرد السائد بين الكثير من زعماء العراق هو الاعتراف بمظالم مجتمعهم فقط، متجاهلين الاعتراف بمعاناة العراقيين على نطاق واسع، ومخفقين في رسم مسار مستقبل شامل للبلاد”.
في مقابلة أجرتها معه صحيفة النيويورك تايمز هذا العام، اعترف المالكي بأنه لم يتمكن، وهو في منصبه، من التغلب على هذا التاريخ من الانقسام، موضحًا بأن “الأكراد يريدون تعويضًا عما عانوه في الماضي، والشيعة كذلك، أما السنة فما زالوا يخشون من أن الأغلبية ستحاسبهم عمّا فعله صدام حسين”.
ليس لدينا ديمقراطية في العراق، فالجميع يريد أن يقود السيارة، سواء الفائز أو الخاسر
وفي هذا السياق، يشير تقرير الصحيفة بأن الانقسامات داخل القيادة الشيعية، والتي انعكست من خلال عمل المالكي وغيره لتقويض جهود العبادي في إعادة الهيكلة، تقبع أيضًا في صلب الأزمة السياسية الحالية؛ فالمالكي، الذي شارك جده في انتفاضة مسلحة ضد البريطانيين في العشرينيات، عُيّن كأحد نواب الرئيس العراقي الثلاثة بعد خسارته لمنصب رئيس الوزراء في عام 2014، وتمثلت إحدى أولى التغييرات التي اقترحها العبادي في الصيف الماضي لمواجهة الاحتجاجات، بالقضاء على مناصب نائب الرئيس، وهي الخطوة التي رفضها نائبان من النواب الثلاثة، اللذان رفضا مغادرة منصبهما، رغم قطع رواتبهما، والمالكي كأن أحد الرافضين، الذي أصرّ على البقاء بقصره معتبرًا بأنه لا يزال نائب رئيس العراق.
يشدد المالكي بأنه لا يحوز أي طموح للعودة إلى منصبه، رغم أن العديد من المسؤولين العراقيين والدبلوماسيين الغربيين يعتقدون بأنه يخطط للقيام بذلك، وبالمثل، يُنظر إلى هادي العامري، المنافس الشيعي للعبادي، والذي يرأس فرقة ميليشيا قوية تدعمها إيران، بأنه يحوز طموحات ليحل محل مكان العبادي، ولكنه نفى ذلك بقوله: “فقط لو كنت مجنونًا سأقبل بمنصب رئيس الوزراء”، وتابع: “ليس لدينا ديمقراطية في العراق، فالجميع يريد أن يقود السيارة، سواء الفائز أو الخاسر”، وأضاف مدافعًا عن إخفاقات العبادي في توحيد الدولة العراقية: “حتى لو جاء نبي لحكم العراق، فلن يكون قادرًا على إرضاء جميع الأطراف”.