انحدرت مدينة حلب السورية، المقسمة على أرض الواقع إلى قسمين، القسم الغربي الذي ما زال تحت سيطرة النظام السوري، والقسم الشرقي (حلب المحررة) الذي تسيطر عليه عدة مجموعات من المعارضة المسلحة، إلى حالة غير مسبوقة من الحرب الشاملة منذ يوم الخميس المنصرم، حيث استهدفت الغارات التي نفذها سلاح الجو الحكومي أحد المشافي في حي السكري في حلب الشرقية، مشفى القدس، مسفرة عن استشهاد 27 شخصًا على الأقل، بينهم 3 أطفال و6 موظفين، أحدهم هو طبيب الأطفال الوحيد المتبقي في حلب المحررة، الدكتور محمد معاز.
صورة المشفى الميداني في حي السكري بعد استهدافه من قِبل طيران النظام السوري.
استثارت هذه الاعتداءات ردات فعل غير محسوبة من جانب المعارضة المسلحة، التي استهدفت الأحياء التي يسيطر عليها النظام السوري بوابل من قذائف الهاون ومدافع جهنم الانتقامية، مما أسفر عن إزهاق أرواح 14 شخصًا، معظمهم من المدنيين.
تخلل حملة التدمير القاتلة الأخيرة في حلب تصعيد هائل في القتال على مدى الأسبوع الماضي، مما أسفر عن انهيار الهدنة الجزئية للحرب التي استهلكت سوريا منذ أكثر من خمس سنوات، كما تُهدد حالة إعادة ابتدار الأعمال العدائية أيضًا إفشال المحاولات المتجددة لعقد محادثات السلام في جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة، فضلًا عن إمكانية عرقلتها أو تعطليها لوصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة في البلاد، مما سيؤثر على الملايين من السكان.
امرأة مصابة جرّاء قصف طيران النظام السوري في حلب الشرقية.
الهدنة الهشة ومحاولات تطويق المدينة
حلب، التي كانت غير مرة المركز التجاري لسوريا، تحولت إلى منطقة اشتباكات مستمرة ومتقطعة ما بين القسمين الشرقي والغربي، حيث تمتعت المدينة براحة نسبية بعد اتخاذ القرار بوقف الأعمال العدائية، ولكن الهدنة الهشة لفظت أنفاسها الأخيرة في خضم أحداث الأسبوع الماضي، حيث عاد شخير المقاتلات النفاثة ودوي القصف ليملأ أنحاء المدينة منذ ليلة الاربعاء وحتى ساعات كتابة هذه التقرير، مما أثار حالة من الذعر والقلق الواضح على كلا جانبي المدينة المقسمة.
على الصعيد الإستراتيجي، لا توجد دلائل تشير إلى قرب رغبة القوات الحكومية السورية وحلفائها الروس لاستعادة السيطرة على المدينة بأكملها، ولكن تشير بعض التقارير، من خلال رصد أماكن تركز الهجمات الجوية، وتحركات آلة الحرب الروسية، وملاحظة مناطق اندلاع الاشتباكات على طول خط الثلاث أو الأربع كليومترات الفاصلة ما بين النظام والمعارضة، إلى رغبة القوات الحكومية بمحاصرة معاقل المعارضة المسلحة، موضحين أن الهدنة المفروضة أعطت نظام الرئيس السوري بشار الأسد مجالًا للمناورة.
في حال صحت التخمينات التي تشير إلى احتمالية تطويق حلب، فيسيتغير الوضع الإستراتيجي في سوريا بسرعة كبيرة نحو الأسوأ، ليس فقط بالنسبة للسوريين، ولكن أيضًا بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ولإدارة أوباما، التي راهنت بشكل كبير على محادثات السلام لإنهاء الحرب الأهلية وإيقاف توسع داعش في خضم الفوضى السورية، وعلى الجهة الأخرى، سيحقق تطويق حلب أيضًا تقدمًا إستراتيجيا كبيرًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي ساعدت قواته المتواجدة في سوريا نظام الأسد لإجراء عمليات عسكرية أكثر تركيزًا في ظل شهري “وقف الأعمال العدائية”.
إنقاذ طفل رضيع من دمار الأنقاض بعد هجمة جوية على معاقل المعارضة المسلحة.
استمرار المعاناة في ظل الصمت الدولي
تشير الإحصائيات الأولية إلى سقوط أكثر من 200 شخصًا، معظمهم من المدنيين من كلا طرفي المدينة، نتيجة لتجدد الاشتباكات؛ ففضلًا عن استهدافه للمشفى بحي السكري بصاروخين متلاحقين، استهدف الطيران الحربي النظامي أحياء حلب الشرقية، بما في ذلك، حي المرجة، باب النيرب، بعيدين، كرم الطراب، الحرابلة، الأنصاري، بستان القصر، والكلاسة، ورد عناصر المعارضة المسلحة باستهداف الأحياء الغربية التي يسيطر عليها النظام بقذائف الهاون ومدافع جهنم، بما في ذلك أحياء الميدان، الموكامبو، السليمانية، الزهراء، السريان الجديدة، والجميلية.
من استهداف منطقة الميدان بحلب الغربية
تأتي هذه الأحداث في ظل استمرار الحالة الإنسانية والخدمية المتردية التي يعيشها سكان مدينة حلب منذ فترة طويلة، حيث تعاني المدينة من انقطاع مستمر في خدمات الكهرباء والمياه، سوء خدمات الإنترنت وشبه انعدامها في حلب الشرقية، الارتفاع الجنوني بأسعار المواد الغذائية الأساسية، وندرة موارد المشتقات النفطية كالمازوت والغاز والبنزين.
وفي هذا السياق، دعت لجنة الصليب الأحمر الدولية لوقف الهجمات العشوائية وتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين، تحت طائلة مواجهة حلب لما وصفته بالكارثة الإنسانية الجديدة، حيث قال فالتر جروس، رئيس مكتب حلب للصليب الأحمر: “أينما كنت في حلب، ستسمع أصوات القصف وانفجارات قذائف الهاون، وأصوات الطائرات تحلق فوقك، الجميع هنا يخشى على حياته، ولا أحد يعرف ما الذي سيحصل لاحقًا”.
أما على الصعيد الدولي، فما زال المبعوث الدولي الخاص لسوريا، ستيفان دي ميستورا، متفائلًا بإمكانية استمرار اتفاق وقف الأعمال العدائية، موضحًا بأن “الهدنة مستمرة، ولكنها بالكاد تنجو”، ومعززًا الفجوة ما بينه وبين ما يحصل على أرض الواقع من خلال تصريحه بإحراز تقدم في سلسلة الاجتماعات والمشاورات بين الأطراف المتحاربة، رغم تجميد المحادثات إثر انسحاب وفد المعارضة السورية اعتراضًا على انتهاكات نظام الأسد للهدنة.
حلب من عيون مواقع التواصل
على الصعيد الشعبي، أطلق ناشطون وكتاب وصحفيون حملات على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال عدة هاشتاغات لإيقاف ما وصفوه بالتدمير الممنهج وآلة الحرب التي حصدت خلال أقل من أسبوع أرواح أكثر من 200 مدني، حيث كانت أكثر الوسوم رواجًا هاشتاغ #أنقذوا_حلب، #حلب_تحترق، و #حلب_تباد .
لا كلمات تصف همجية المجرمين ونذالة الصامتين!! #حلب_تحترق pic.twitter.com/hAIHwSOGes
— عمر إدلبي Omar Edlbi (@OmarEdelbi04) April 29, 2016
اللهم رحماك بإخواننا المستضعفين في حلب.
اللهم إنهم ضعفاء فقوهم.. مغلوبون فانتصر !
#حلب_تباد pic.twitter.com/iFT8r1QHAa
— يوسف القرضاوي (@alqaradawy) April 29, 2016
لن نجد سواك يارب فإننا نستودعك أهلنا الذين يبادون في #حلب من طرف السفاح #بوتين والطاغية #الأسد.
لا كلام آخر بعد هذا. pic.twitter.com/KPn7pqTfrM
— أنور مالك (@anwarmalek) April 29, 2016
كما أطلق الناشطون أيضًا حملة لتغيير الصور الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي إلى اللون الأحمر تعبيرًا عن التضامن مع حلب الجريحة، حيث لاقت هذه الحملة تجاوبًا هائلًا من أهم المواقع والمنصات الأخبارية الرئيسية، ومنها قناة الجزيرة وصحيفة الهافينغتون بوست العربية.
حلب، تلك المدينة التي تنضح بآلاف السنين من عبق التاريخ الزاخر، التي تطل عليك من خبايا زواياها وأزقتها برائحة آلاف الحضارات المتعاقبة، ويشتبك فيها ألق الأزمان الغابرة مع أنوال الصناعات النسيجية وروعة العمران المتقنة لينسجوا عقدًا ألماسيًا يزين رقبة حارات حلب القديمة ويصوغها بحنو مع أحيائها الراقية.
حلب، التي كانت مقصد المتنبي، وجنة عدن المعري التي خلع أمام تيهها عنفوانه ورعًا، والتي استلت حسامها دومًا لتقطع دابر مخربيها، تعاني اليوم من حملة ممنهجة ومجرمة لتقويضها، تستبدل حُليّها بدماء أبنائها على ثراها الطاهر، وتلفظ أنفاسها الأخيرة بعد أن استوطنها شذاذ الأفاق ومغول العصر الحديث، ليصبح عنوانها المشهور اليوم: #أنقذوا_حلب .