منذ يوم الخميس المنصرم، بدأت موجة من الأعمال العدائية التي أطلقتها السلطات السورية متمتعة بالغطاء الجوي الروسي لدعمها، فجأة انفتحت جبهة كبرى تستهدف أحياء المدينة الخارجة عن سيطرة النظام السوري، فيما يتم الحديث عن تصعيد حملات أخرى باتجاه كلا الريفين الجنوبي الشرقي والجنوبي للمدينة.
كان الرد من القوى المعارضة بالطبع هو فتح النار على جانب المدينة الآخر عشوائيًا، وبطريقة لم تحدث فقط أضرارًا في الجانب الذي يسيطر عليه النظام وحسب، بل كذلك في المناطق التي تسيطر عليها قوى معارضة أخرى، باختصار فتحت أبواب الجحيم في أنحاء المدينة جميعها في آن واحد، أما في المستوى الأعلى – ومنذ التاسع عشر من نيسان/ أبريل – يبدو أن الأطراف السياسية الكبرى (روسيا وأمريكا بوصفهما الراعيين الأساسيين للجهود السياسية) قررت تغيير خططها والاعتراف ضمنيًا بفشل اتفاق الهدنة الساري منذ شهرين، والتعامل على أنه لم يكن، بعد النتائج ضعيفة المستوى على طاولة جنيف.
النظام السوري وتركيا: تحالف مصالح مفاجئ
مع تصاعد حملة النظام السوري على أحياء المدينة يبدو تركيز النظام منصبًا على خلق حالة حصار لهذه المناطق من المدينة وجرها نحو الريف الشرقي وبالتالي اكتساب مساحة مقبولة للتحرك ودفع تلك القوات باتجاه الريف الشرقي حيث تحاصر من جهتين هما قوات الحماية الكردية YPG شمالًا والحدود التركية شرقًا.
إن إحكام الحصار على المدينة بهذا الشكل يخلق ضغطًا أكبر على الريف الشرقي في حال انسحاب الجزء الأكبر من القوات المعارضة إلى هناك، فيما ستحاول تركيا بشتى الوسائل إغلاق الحدود أمام المدنيين والعسكريين لمنع ازدياد الضغط على الحدود التركية وتصاعد الأعمال المسلحة على حدود مدينة الريحانية، وهو الأمر الذي حدث مرارًا من قبل، وهنا سيكون أمام الفصائل المعارضة أزمة كبيرة في التحرك، خصوصًا أن القسم الذي سيبقى محاصرًا داخل المدينة من مدنيين ومقاتلين سيكون لقمة سائغة في فم النظام خلال وقت قصير، ولن تستطيع الكتائب الموجودة في الريف الشرقي أن تتعامل مع ثلاث جبهات في وقت واحد شمالها وشرقها وغربها.
الروس والحلفاء الكورد
قدم الروس في 25 من هذا الشهر انتقادًا واضحًا على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف يتهم فيه نظيره الأمريكي “بالفشل في تحقيق هدفه” في الفصل الواضح بين المعارضة المسلحة المعتدلة وجبهة النصر، وكان ذلك إنذارًا روسيًا بالانفكاك عن اتفاق الهدنة المزمع، لكن هذا الإنذار لم يكن فجائيًا أو دون سابق تخطيط، بعد اليوم الأول للهدنة المفترضة تابعت روسيا مباشرة حملاتها الجوية على الجزء الشمالي الشرقي من المدينة، فيما تزايد تعميق الصلة بين القوات الموالية للنظام وقوات ال YPG الكردية لتحقيق ضغط أكبر على طريق الكاستيلو “الطريق البري الوحيد المتبقي الذي يؤمن وصول قوات المعارضة المسلحة إلى الجزء الشرقي من المدينة”، وقد شهد شهرا شباط وآذار معارك محتدمة بين قوات YPG والمعارضة المسلحة على طريق الكاستيلو قرب منطقة الشيخ مقصود في محاولة لإغلاق ذلك الطريق وتطويق حلب الشرقية.
ووفق ما يذكره تقرير معهد دراسات الحرب فإن مسؤولين روس “مغفلي الأسماء” أقروا بأن روسيا قد قامت بإنزال جوي من دعم بالجنود والسلاح والذخيرة إلى عفرين في نيسان 2016، مما يرجح أن قوات النظام السوري والميليشيات الداعمة لها تعتمد على قوات الحماية الكردية لمساعدتها في تطويق المدينة.
أمريكا والقلق من السنة
يبدو طيلة الأشهر الماضية أن الولايات المتحدة كانت تعتمد بشكل كبير على قوات الحماية الكردية YPG التي لم تبد رفضًا للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في محاربة داعش، إلا أن هذه الاعتمادية الكبيرة خلقت مشكلة كبرى بالنسبة للولايات المتحدة، خصوصًا مع الحديث المتكرر عن تطهير عرقي وامتعاض ممن تسميهم “العرب السنة” تجاه ممارسات قوات الحماية الكردية وأجندتها السياسية التي عرفت باسم “ثورة روجآفا”.
لجأت الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك إلى تشكيل ما عرف باسم “قوات سوريا الديمقراطية” بتوافق بين قوات الحماية الكردية وبضع مجموعات من الجيش السوري الحر في محاولة لرفع صفة “الكوردية” عن هذه القوات وتقديمها كقوات سورية ديمقراطية متنوعة، لكن فيما يبدو ترى الولايات المتحدة اليوم أن التوازن الكردي العربي “السني على وجه الخصوص” غير كاف، مما دفع بالرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى إعلان زيادة عدد القوات الاستشارية العسكرية بإرسال 250 جنديًا أمريكيًا إلى سوريا، وذلك بشكل أساسي للإشراف على ضم عدد أكبر من العرب السنة إلى “قوات سوريا الديمقراطية”.
برغم ذلك، يبدو احتدام العلاقة بين هذه القوات وباقي فصائل المعارضة واضحًا، خصوصًا الفصائل الإسلامية الكبرى بسبب تقديم هذه القوات على أنها علمانية بحتة، وكذلك بسبب تعاونها المكشوف مع القوى الدولية الكبرى والذي ساهم في بسط سيطرتها وتجنب القصف الجوي لمواقعها.
كل هذا يشي بأن هناك جبهة ستفتح ولا بد بين قوات المعارضة السورية في الريف الشرقي والأطراف الشرقية للمدينة من جهة وقوات YPG وباقي حلفائها في قوات سورية الديمقراطية من جهة أخرى، والأهم من ذلك بالنسبة للأمريكيين هو الكابوس الكبير الذي تتخوف منه الولايات المتحدة، وهو أن يؤدي ذلك الحصار إلى تحالف وثيق بين مختلف الفصائل التي تسميها “المعتدلة أو الإسلامية” مع الفصائل “السلفية الجهادية” وهو الاسم الذي يطلق على جبهة النصرة بشكل أساسي وحركة أحرار الشام.
إذا حوصرت هذه الفصائل فإنها ستجد ملائها الوحيد في بناء غرفة عمليات مشتركة تقودها جبهة النصرة كما حدث من قبل عند تشكيل غرفة عمليات “جيش الفتح” المؤقتة التي لم تعد مؤقتة بعد ذلك، لذا كان رد الفعل المتوقع من المبعوث الأمريكي إلى سوريا مايكل راتني هو بيان مقتضب باهت يطالب فيه السوريين من مدنيين ومقاتلين “بالابتعاد عن الإرهاب قدر الإمكان”، لكن من غير المعرف بعد ما الذي ستقوم به الولايات المتحدة لتضمن عدم وصول الأمور إلى حد فقدان السيطرة على الميليشيات الشريكة.
المدينة التي تحترق
برغم إعلان هدنة قصيرة مدتها 24 ساعة بشكل مبدئي، يبدو أن السياق الحالي لا يخدم سوى النظام السوري وحليفه الروسي الذي يراقب الأمور “من الأعلى”، أيًا كانت العلاقات السياسية والمصالح التي تربط الأطراف ببعضها، لا يسعنا أبدًا تناسي أن أدوات هذه الحرب والمنخرطين فيها اليوم هم سوريون، هناك طرف سوري يضغط بشدة وبلا رحمة بمدنيين أو مسلحين، فيما الطرف الآخر ما زال منقسمًا إلى أكثر من 50 مجموعة مسلحة تتوزع الولاءات فيما بينها حسب المصلحة الجزئية البسيطة.
مربط الفرس هنا هو جبهة النصرة، وهو ما يحكم الصراع الدولي والإقليمي بالإضافة إلى المحلي، لذلك قد يحتاج الأمر خطوة شجاعة تتضمن التخلي عن النصرة تمامًا من قبل فصائل الثورة وجمهورها ككل، كما حدث التخلي عن داعش قبل عامين، وقد يحتاج هذا الكثير من بعد النظر والتعاون والتنسيق اليوم، بل وربما البارحة.