من الواضح أن اتفاق الهدنة في سوريا، جاء لذر الرماد في العيون، أكثر منه ليطبق على أرض الواقع، حيث صرح كيري في كلمة له خلال جلسة لمجلس الشيوخ، إلى أن عدم إيجاد حل للأزمة السورية عبر طاولة المفاوضات، سينجم عنه تدمير البلاد بالكامل، قائلًا “أعلم جيدًا أنه في حال فشل الاتفاق، فهناك احتمال انهيار سوريا بالكامل”، مضيفًا “إن كان الروس والإيرانيون ليسوا جادين في موضوع تحقيق عملية السلام، فإن ذلك سيتسبب في مزيد من الاختلاف الفكري، والانتقال إلى الخطة (ب) التي تؤجج القضية بشكل أكبر”.
جاءت الهدنة التي يصح تسميتها “بالهدنة الروسية”، لإيقاف الاندفاع التركي ضد ميليشيات انفصالية كردية على حدودها، والاستفادة من التقدم العسكري الذي حققه حلفاء موسكو على الأرض (نظام الأسد، وميليشات كردية) بغطاء جوي روسي، والاستفادة من تلك المكاسب في أي مفاوضات.
تراهن موسكو على خططها السياسية في إنجاح خططها العسكرية لتحسين شروطها وشروط حليفها الأسد، والامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، حليف روسيا الجديد على الأرض السورية، وكان ذلك واضحًا من خلال خارطة تحرك قواتها الجوية وقصفها لمناطق معينة في ريف اللاذقية والتي تقطنها أغلبية تركمانية، وقصف المناطق الواقعة غرب نهر الفرات، وتهجير المكون الرئيسي السوري (العربي) بتأمين الغطاء الجوي لميليشيات انفصالية كردية، للسيطرة على هذه المناطق العربية، وتحقيق التواصل الجغرافي بين مناطق يقطنها أكراد، في محاولة لرسم حدود كيان كردي.
ومن الأسباب المعلنة لدخول موسكو سوريا، تعزيز سلطة الأسد، لكنها تقامر بورقة الانفصالية، وبذلك تقوّض ليس فقط سلطة الأسد التي جاءت لتعزيزها، وإنما تهدد بتمزيق سوريا، في شق من ذلك الانتقام من تركيا بسبب إسقاط طائرتها أواخر العام الماضي ولكنها ربما وعن غير قصد تؤجج النزعة الانفصالية التي إذا بدأت في سوريا مرورًا بتركيا وإيران، لن تتوقف في روسيا نفسها، فهي تلعب في مناطق يختلط فيها التاريخ مع الجغرافيا، ويتداخل فيها ما هو ديني بما هو عرقي.
تنفيذ موسكو مخططاتها في سوريا، رهن على كيف ستتصرف الأطراف الأخرى الداعمة للمعارضة السورية المعتدلة (تركيا والسعودية وقطر) المسألة مسألة وقت، من يسرع ويسيطر على الأرض أولًا، يمكن أن يكون له كلمة عليا لاحقًا، فالمفاوضات الحقيقية والجادة تكون عندما يدخل طرف آخر عسكريًا إلى الأرض السورية.
يبدو للوهلة الأولى الحديث عن تقسيم سوريا، على لسان مسؤولين أمريكيين، وقبلهم إسرائيليين، وكأنه إنذار موجه لجميع الأطراف المعنية بالملف السوري، أكثر منه استراتيجية معدة لديهم مسبقًا، فغياب الاستراتيجية واللامبالاة الأمريكية هي التي أوصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم.
وإذا تحدثنا بشكل واقعي، بات التقسيم موجودًا على الأرض السورية؛ مناطق يسيطر عليها نظام الأسد، وأخرى بيد الأكراد، وثالثة بيد تنظيم الدولة الإسلامية، ورابعة بيد ما تبقى من فصائل عسكرية معارضة، وربما خامسة تسبح خارج أي منظومة.
والشيء الخطير، في كل ما يتداول في الآونة الأخيرة، هو التصريحات إن كان بالتقسيم أو الفيدرالية، من الأمريكيين والروس، فكلام كهذا، كان يقتصر على المتابعين ومراكز الأبحاث، وهي المرة الأولى التي يتحول إلى كلام رسمي، قد يطرح في أي مفاوضات، ويجعل الحديث عن اتفاق (كيري – لافروف) لإعادة تقسيم ما قسمه (سايكس – بيكو) من تركة الدولة العثمانية، يظهر إلى العلن، وربما كأحد البدائل لفشل ما أطلقوا عليه “هدنة”.
يدور الحديث أن الأكراد في سوريا يشكلون القومية الثانية، وقد يكون هذا كلام حق يراد به باطل، لإسقاط الحالة الكردية في شمال العراق على أكراد سوريا، دون الأخذ بعين الاعتبار فوارق كبيرة بين الحالتين، وهي أنهم في سوريا لا يمتلكون المقومات التي لدى نظرائهم شمال العراق، ديموغرافيًا وجغرافيًا، حيث تشير الكثير من المصادر أن نسبتهم في سوريا لا تصل إلى 10%، وقد تكون أقل بقليل أو أكثر بقليل، بالنظر إلى خارطة التوزع الكردي السوري، الجغرافي والديموغرافي، ولا تمتلك أي تواصل جغرافي بين المناطق الرئيسية التي تقطنها (القامشلي – عين العرب – عفرين)، بالإضافة إلى أنه حتى المناطق التي هي فيها أكثرية، لا تشكل أغلبية مطلقة، على عكس المكون العربي الرئيسي، وهذا يفسر التحرك السريع والمفاجئ، لميليشات كردية بدعم روسي في الآونة الأخيرة في المناطق الواقعة غرب الفرات وفي محيط مدينة حلب، استعدادًا لسيناريو كهذا معد مسبقًا، لتحقيق عمق وامتداد جغرافي.
تعيش تركيا، هذه الأيام، أشد فترة في تاريخها الحديث حرجًا، فالأوضاع الدولية والإقليمية تتطور بشكل كبير وسريع ضد مصالح أنقرة، ولأول مرة في التاريخ، تكون روسيا جارة لتركيا من الشمال والجنوب، كما أن دور الولايات المتحدة في المنطقة بات أقرب إلى اللامبالي مقابل التحرك الروسي المكثف.
لكن الواضح من تحركات تركيا الأخيرة، محاولتها تجاوز بعض الأخطاء التي وقعت فيها سابقًا، في تعاملها مع الملف السوري، من خلال توسيع تعاونها مع الأطراف العربية المتضررة الحقيقية من خسارة سوريا، كما أن تركيا تضع حلف الناتو على المحك، وربما لأول مرة في تاريخه، بتفعيل المادة الرابعة، وهي الدفاع عن دولة عضو في الحلف في حال تعرضها لهجوم عسكري، وأهمية اللحظة أن كافة دول الناتو ولا سيما في أوروبا الشرقية، التي تعيش هاجس القلق من روسيا بعد تمزيق الأخيرة لأوكرانيا، كلها تترقب موقف الناتو حيال أي هجوم تتعرض له تركيا.
وباتت الجبهة الداخلية التركية اليوم أقرب من أي وقت، لموقف يتماشى مع حكومة العدالة والتنمية، فقد صرح دنيز بايكال النائب البارز والرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري (أكبر الأحزاب المعارضة في تركيا) أنه يجب عدم الخلط بين الانتقادات الموجهة لحكومة حزب العدالة والتنمية، ومصالح تركيا القومية، وذهب إلى أكثر من ذلك وأضاف أنّ الدولة التركية تمتلك حق الدفاع المشروع فيما يخص قصفها لمواقع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا في تركيا و الناتو، لافتًا إلى أنّ حكومة العدالة والتنمية محقة في منع عناصر هذا الحزب من الاقتراب من مدينة أعزاز التي تعد استراتيجية بالنسبة لتركيا، وكذلك أطلق زعيم القوميين الأتراك دولت باهتشلي الذي يترأس ثاني أكبر حزب معارض في تركيا “صرخة”، وهو يخاطب رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو: انطلق كالصاعقة إلى شمال سوريا إذا لزم الأمر.
لكن من غير المستبعد أن تجد دولة إقليمية كتركيا، نفسها مضطرة في نهاية المطاف للقبول بأي طرح فيدرالي أو تقسيمي، إذا ما جاء نتيجة اتفاق روسي – أمريكي، مع مراعاة حساسيتها في بعض النقاط كإبعاد الانفصاليين الأكراد عن مناطق معينة هي تحددها، مثل حصرهم في المثلث السوري التركي العراقي، وهنا علينا عدم إغفال أنه في الماضي القريب كان إقامة كيان كردي شمال العراق خط أحمر للأمن القومي التركي، إلا أن إقليم شمال العراق، تحول لاحقًا، إلى أقرب حليف في المنطقة لأنقرة.
ويدور حديث حول أن مصير مدينة أعزاز سيحدد مستقبل كل تلك السيناريوهات، ولكن الحقيقة أن مصير مدينة حلب، سيرسم ليس فقط مستقبل سوريا، وإنما خارطة جديدة للعالم إن كان جغرافيًا أو في إطار التوازنات الدولية القادمة.
تجدر الإشارة إلى أن معارضة موسكو ونفيها لوجود أي خطة بديلة، في حال انهيار الهدنة، ربما يكون لصالح الأطراف الأخرى، الشيء الذي يجعلها تأخذ زمام المبادرة بمفردها، وربما يكون لموسكو خطتها البديلة الخاصة بها، والتي بدأت بها، قبل بدء الهدنة.
يبقى القول، صحيح أن التدخل التركي العسكري في سوريا قد تأخر، ولكن الأصح، هو، تأخرت تركيا التدخل بمفردها، وما زال هناك متسع من الوقت للتدخل، رغم أنه ضيق، ولكن في إطار عربي إسلامي ودولي، والخطة “ب” الحقيقية: يغلب من يسبق، والتأخر يعني خسارة سوريا.