بدأت معركة الموصل فيما يبدو في الآونة الأخيرة، ولكن ليس بتحريك أية قوات ناحية المدينة، بل باشتعال الصراع بين الأطراف المفترض أن تكون على استعداد لدخولها قريبًا، فهناك البشمركة الكردية من ناحية، مدعومة من جانب تركيا، ثم القوات التابعة لحزب العمال الكردستاني في سنجار، والتي تريد موطًا قدم لها في العراق لتعزيز مشروعها في شمال سوريا، وهناك أيضًا قوات القبائل السنية التابعة للنجيفي والمدعومة تركيًا، ثم ميليشيات الحشد الشعبي الشيعي بالطبع المدعومة إيرانيًا والموالية للحكومة العراقية وقواتها.
ليس هناك خلاف بالطبع بين تلك القوى على اتنزاع المدينة الثمينة من يد داعش، ولكن على من يحق له السيطرة عليها فيما بعد، وهي معضلة تعلّق حتى الآن خطة المعركة بين مختلف القوى الإقليمية التي تخطط لها، كالولايات المتحدة وتركيا، وإيران بشكل غير مباشر عبر ضغوطها على النظام العراقي، ورُغم أن المدينة تتسم بغالبية سكانية سُنية على الأرض، إلا أن كردستان العراق تدعي أحقيتها التاريخية في المدينة قبل تهجير الكثير من الأكراد منها على يد صدام منذ أربعين عامًا، كما أن إيران تعتبرها مدينة هامة نظرًا لقربها من الحدود الإيرانية.
الحكومة العراقية مترددة
في هذا السياق جاءت زيارة نائب رئيس الجمهورية الأمريكي جو بادين مؤخرًا، وهي الأولى منذ عام 2011، لتنسيق خطة واضحة لاستعادة المدينة، بيد أن الحكومة العراقية على الأرجح غير مستعدة أولًا نظرًا لضعف قواتها الشيعية في معظمها، والتي لا تلقى أي ترحيب بين السُنة العراقيين الذين يفضل الكثير منهم نار داعش على جنة الميليشيات الإيرانية، كما أن رئيس الوزراء حيدر العبادي منشغل أيضًا في معركة مع القيادي الشيعي الأبرز مقتدى الصدر حول فساد الحكومة بشكل لا يجعله واثقًا بما يكفي للمضي في مغامرة عسكرية جديدة لا يضمن عواقبها، وربما تطيح به من منصبه.
الميليشيات الشيعية منفردة تبدو أكثر حماسًا على الأقل من الحكومة، فكتائب بدر الشيعية وزعيمها هادي العامري مصمم على تولي جزءًا محوريًا من المعركة يتمثل في محاصرة المدينة من الخارج لتأمين القوات العراقية التي ستدخلها، وهي إشكالية بالطبع ليس فقط لأن كتائب بدر من الميليشيات التي ارتكبت مذابح بحق السُنة، ولكن لأنها شاركت كذلك في استهداف القوات الأمريكية باستخدام ذخيرة إيرانية في السابق.
لا يريد أحد سوى إيران إذن هذا الدور الكبير للميليشيات الشيعية منفردة، ففي واشنطن يعتقد صناع القرار أنها أكثر تطرفًا مذهبيًا بشكل يعقّد الحسابات الأمريكية، والأمريكيون لا يريدون إيكال مهام ثقيلة لها وإن كانوا مضطرين للرضوخ لاعتماد الحكومة العراقية عليها جزئيًا نظرًا لإدراكهم بأنها تعزز نفوذ إيران على حسابهم، وهم يخططون بالأساس لقيادة القوات العراقية لمعركة الموصل بمساعدة أمريكية على الأرض لتحجيم التأثير الإيراني إلى أقل قدر ممكن.
خريطة للموصل وما حولها من إصدار الحكومة الأسترالية
لكن العبادي مهموم بعدم خسارة موقعه في بغداد أكثر من استعادة الموصل، لا سيما وأن جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر قد أعلن نيته هو الآخر تولى جزءًا هامًا من المعركة بوجه داعش بشكل عام، وليس الموصل على وجه التحديد، ورغبته في تأمين العاصمة بغداد بعيدًا عن مواقع تمركزه في جنوب العراق والمدن المقدسة الشيعية هناك، وهو ما يثير هواجس لدى العبادي برغبة الصدر في استغلال انشغال الميليشيات الشيعية بمعركة الموصل لقلب الطاولة عليه في بغداد.
“العبادي غارق تمامًا في أزمته الداخلية، ومن الصعب أن يقاتل أي شخص حربًا بينما هو مشغول بأمنه والتهديدات السياسية التي تحيط به بشكل مباشر على المدى القصير،” هكذا قال بِن كونابل، ضابط المخابرات الأمريكي السابق التابع لقوات المارينز، والمحلل البارز الآن لدى راند، بعد زيارة قام بها مؤخرًا للعاصمة العراقية بغداد.
تركيا والسُنة والأكراد
على الناحية الأخرى يقع المعسكر التركي، والممثل في حكومة كردستان العراق الحليفة لتركيا، وكذلك مجموعة مقاتلين سُنة تقوم تركيا بتدريبهم في معسكر بعشيقة، وهي القاعدة العسكرية التركية الجديدة التي دشنتها تركيا في شمال العراق بمباركة الحكومة الإقليمية الكردية وبمعارضة الحكومة العراقية المركزية في بغداد، وهو موقف منطقي بالطبع بالنظر لرغبة إربيل في ضم الموصل بشكل يتعارض تمامًا مع رغبة الحكومة العراقية، مما يفسّر الاصطدام العسكري المباشر مؤخرًا بين قوات كردية وميليشيات شيعية في مدينة توز خورماتو شمالي شرقي العراق، والذي راح ضحيته 27 مقاتلًا.
تحاول تركيا عبر وجودها العسكري أولًا تعزيز مطالب كردستان العراق، فوقوع الموصل بعد تحريرها في يد الحكومة المركزية العراقية الضعيفة والموالية لإيران سيكون ضربة واضحة للدور التركي، وهي مهمة سهلة وصعبة في آن، سهلة أولًا لأن استمالة السنة بعيدًا عن بغداد أمر يسير بالنظر للاحتقان الطائفي الحادث، ولكنها صعبة لأن حكومة كردستان العراق والأكثر لينًا تجاه السُنة ليست الخيار الأفضل على المدى البعيد، لا سيما إن قورنت بداعش وهي قوة عربية سنية بالأساس تفضلها قبائل سنية كثيرة لا تبالي بسياسات داعش المحافظة، على عكس سنة كثيرون غيرهم فروا من الموصل ولجأوا لكردستان العراق.
يشكل اعتقاد الحكومة الكردية بأن الموصل ومحافظة نينوى بالكامل منطقة كردية تاريخيًا عائقًا أمام تحالف عربي سني وكردي سلِس، فقد قامت القوات الكردية ببعض الانتهاكات بحق العرب في المحافظة برفضها إعادتهم لقراهم لأشهر طويلة، ومنح بعضها لعائلات كردية، وتوطين بعض العرب في مناطق أبعد عن مناطقهم الأصلية، ومنعهم من الحصول على الخدمات الرئيسية، وهو ما يعني ببساطة أن الخلافات التاريخية بين العرب والأكراد قد تحول دون تشكيل جبهة متجانسة بما يكفي لتعزيز السيناريو الذي تريده تركيا.
في هذه الأثناء إذن تقوم تركيا بثلاثة إستراتيجيات في وقت واحد حتى تضمن تشكيل تلك الجبهة بالفعل، أولها الاستمرار في دعم كردستان العراق، وثانيها تعزيز تمركزها العسكري كقوة ضخمة وثقيلة ومهمة بالطبع في شمال العراق لفرض شروطها بل وربما المشاركة بنفسها في معركة تحرير الموصل، بشكل يعطيها المساحة لكافية لرفض أي سيناريو لا يتناسب مع مصالحها، وثالثًا وأخيرًا، محاولة تشكيل ميليشيا عربية سنية لاستمالة عدد أكبر من السُنة بعيدًا عن داعش، ولإحداث توازن بينها وبين البشمرجة في شمال العراق يضمن عدم تكرار الانتهاكات الكردية.
6500 مقاتل سني ترعاهم وتدربهم تركيا، هي قوة سنية بقيادة أثيل النجيفي وأخيه أسامة، واللذين ينحدران من أحد أبرز عائلات الموصل، فأثيل حكم محافظة نينوى سابقًا قبل أن تدب الخلافات بينه وبين بغداد بما أدى لعزله، وهو ربما يريد العودة إلى موقعه السابق، أو على الأقل أن يصبح عُمدة الموصل، وهي أماني قد يحققها بالفعل لو أثبتت تلك الميليشيا السنية كفاءتها على الأرض باستخدام السلاح التركي، “الإخوة النجيفي حليفا تركيا القويّان.. وهما يعتقدان أن قواتهما القبلية يجب أن تمتلك اليد العُليا في الموصل بعد تحريرها، وهو السبب في وجود دبابات تركيا على تخوم المدينة،” هكذا تحدث آرون شتاين، زميل بالمجلس الأطلنطي ومتخصص بالشؤون التركية، “عائلة النجيفي وجيشها الخاص هي الجزء الرئيسي من خطط تركيا للموصل ما بعد التحرير.”
***
تباعًا، لربما تنجح تركيا عبر جيش النجيفي بخلق جبهة من نوع ما، ومن ثم تسوية ما بينه وبين كردستان العراق، في إطار جهودها لإبعاد نينوى عن الحكومة المركزية العراقية لتحجيم الدور الإيراني، وهي ستحاول بالطبع استغلال الميل النسبي للسنة تجاه كردستان لتعزيز سياستها تلك، علاوة على ضعف الحكومة المركزية العراقية وعدم قدرتها على تقديم أي بديل واضح لتشكيل حكومة سنية حقيقية في الموصل تحمي السنة من هيمنة الميليشيات الشيعية، أضف لذلك أن الاستقرار الأكبر لاقتصاد شمال العراق المرتبط بتركيا، وإمكانيات تركيا الاقتصادية، ستتيح لها أن تلعب الدور الأهم في إعادة تعمير الموصل.
بدون أية خطط إذن، أو استعداد واضح لبدء المعركة بالفعل، فإن الأمريكيون يلحظون يومًا بعد يوم أن الحكومة العراقية تزداد ترددًا في خوض المعركة، فهي تخشى على موقعها داخل العراق أولًا، كما تخشى إن دخلت المعركة بهشاشتها حاليًا أن تخسر الموصل للأبد لصالح المعسكر التركي، وهي بالتالي تفضل بقاءها في يد داعش لبعض الوقت حتى تصبح ظروفها أفضل، وهو موقف واضح لدى كل الأطراف ولو مرحليًا، فالأتراك أيضًا ربما يفضلون الانتظار قليلًا حالما تزداد قوة جيش النجيفي الجديد، والأكراد ليسوا مستعدين تمامًا في ظل هبوط أسعار النفط لدخول معركة مكلفة ماليًا.
“بقاء المدينة تحت حكم داعش هو الخيار الأقل سوءًا بالنسبة لكافة الأطراف وهو السبب الرئيسي في تأخر المعركة حتى الآن، فالجميع هنا يفضل استمرار داعش في الموصل عن خسارتها للأبد إلى غريمه الإقليمي والطائفي و/أو العرقي،” هكذا يقول روبرت بليتشر، نائب مدير شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى منظمة مجموعة الأزمات الدولية غير الحكومية.
*المصدر: فورين بوليسي