في الممر الطويل زنازين مغلقة إلى الشمال واليمين، لا يبدو أن أحدًا يقطنها، لا صوت لأحد هنا، ولا أي حركة، وكايد يواصل سيره متلهفًا لرؤية نجلة الغائب عنه منذ 12 عامًا، فيما الممر يزداد ضيقًا.
أصابع أحدهم تطل من الفتحة الصغيرة بأحد الأبواب، وتحرك بعشوائية مستمرة، “ثائر في زنزانة 18” صرخ كايد حماد (64 عامًا)، ليفتح السجان باب الزنزانة ويلتقي كايد بنجله ثائر حماد منفذ عملية عيون الحرمية، والمحكوم بالسجن 11 مؤبدًا.
اللقاء الأول منذ 12 عامًا
في أيلول الماضي اعتقل كايد بعد مداهمة منزله في بلدة سلواد شرق رام الله، واقتيد إلى سجن عوفر حيث قضى 40 يومًا وسط محاولات حثيثة للاجتماع بنجله ثائر المعتقل في سجن ايشل، “12 عامًا غيرت في ثائر كثيرًا، أصبح مختلفًا وكبيرًا، لقاؤه كان مؤثرًا وصعبًا جدًا”، يقول كايد مستذكرًا كيف تفاعل الأسرى مع لقائه بنجله، قبل أن ينقلا إلى قسم 11 بمعتقل نفحة.
كايد ونجله ثائر لم يفترقا بعد ذلك، محاولان استثمار كل لحظة مع بعضهما قبل أن يفترقا مجددًا، “لم نكن نفترق، كنا ننام على ذات البرش (السرير) ونخرج للفورة معًا ونلعب رياضة وتنس، ونأكل ونشرب مع بعض حتى تم الإفراج عني” يقول كايد، فيما لم تتوقف أسئلة ثائر عن البلدة وعائلته وأصدقائه، “لم يبق أحد في البلدة حتى سأل عنه، كنا نسهر كل ليلة نتحدث عن الأصدقاء والأقارب ونستعيد الذكريات معًا”.
وفي أغرب ما يمكن الحديث عنه، أن يكون السجن سريعًا على الأسير، هكذا أحسه كايد حماد عندما اقترب موعد الإفراج عنه ليفارق نجله، يقول، “لا يوجد أصعب أن يترك أب ابنه داخل السجن وهو محكوم مؤبدات، لا يحتمل أب هذا الموقف، تعودنا على بعضنا كثيرًا، لم نعد أب وابنه فقط، أصبحنا أصدقاءً وأخوةً نتحدث مع بعض بصراحة ونلعب مع بعضنا الضومنة (لعبة شعبية فلسطينية)”.
وقبيل اعتقاله كان كايد ينتظر الإفراج عن نجله الآخر عبدالقادر، بعد أن قضى 11 عامًا في سجون الاحتلال، ليشاهد الأب الإفراج عن نجله على شاشة التلفاز ويوزع الحلوى على الأسرى، الوالد وقبل أن يقضي الأشهر الثمانية التي حكم بها ويستعيد حريته، أعاد الاحتلال اعتقال عبدالقادر مجددًا، ليحتفظ الأب وابنه بثلاثة لقاءات فقط طوال سنوات اعتقال كل منهما.
مؤيد لم يجتمع بطفله حمزة
لم يستوعب الأسير مؤيد حماد والذي يقضي حكمًا بالسجن سبع مؤبدات، اعتقال طفله حمزة 16 عامًا للمرة الثانية، لكنه ورغم وقع الخبر عليه إلا أنه توقع أن يستعيد نجله حريته بعد أيام قليلة، قبل أن يتلقى الخبر الصادم بتحويله إلى الاعتقال الإداري لستة شهور.
الأسير حماد الذي قضى حتى الآن 12 عامًا داخل سجون الاحتلال، وقد أكد في رسالة عبر البريد، أن اعتقال نجله الطفل يأتي ضمن ملاحقة الاحتلال للعائلة وما يتخلله من فرض سلسلة من عقابات تعسفية للانتقام منها.
كما طالب الأسير مؤيد في سجن نفحة، إدارة السجن مرارًا وتكرارًا بنقله إلى سجن عوفر لجانب طفله المعتقل أو إحضاره إليه، فيما يرفض الاحتلال مطلبه متذرعًا أن حمزة معتقلاً في قسم الأشبال ولا يجوز نقله إلى نفحة المخصص للبالغين.
ويواجه حمزة منذ طفولته المنع المستمر من رؤية والده، فتروي ورود حماد زوجة الأسير مؤيد، أن حمزة كان عمره أربع سنوات عندما أعيد مرات عديدة عن باب السجن، كما حرم من الزيارات في مرات أخرى في ظل فرض المنع الأمني عليها ومنعها من زيارة زوجها كما منع والديه من زيارته.
وأضافت، أنه ومنذ أن أكمل 15 عامًا منعته إدارة سجون الاحتلال من زيارة والده، وطالبته باستصدار تصريح زيارة على الرغم من أن الصليب الأحمر لا يعطي التصاريح لمن لم يحصلوا بعد على هوية فلسطينية، أي لمن هم أقل من 16 عامًا.
ويزداد قلق ورود على نجلها في ظل استمرار فرض المنع الأمني عليها، فلم تمنح لا هي ولا جدي حمزة تصاريح لزيارته حتى الآن، لينقطع الاتصال معه بشكل كامل.
كيف أترك عبدالعزيز؟
سنوات طويلة مضت، وموسى حامد يحسب أيامه كل يوم بسنة متلهفًا لنيل الحرية والعودة لأسرته الصغيرة، فيما يتركز كل تفكيره الآن على لحظة تحرره تاركًا خلفه نجله أسيرًا، بعد ثلاثة أشهر من اجتماعهما معًا.
احتفال سيتحدث عنه العالم، هذا ما كان يسعى له عبد العزيز 23 عامًا عند استقبال والده موسى حامد 43 عامًا الذي غاب عنه 12 عامًا في سجون الاحتلال، منال حامد زوجة الأسير موسى، تروي أن سلطات الاحتلال لم تكن تمنح عبد العزيز تصريحًا لزيارة والده إلا مرة واحدة في العام، وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة فرضت عليه المنع الأمني ولم يلتقِ خلالها بوالده بتاتًا.
موسى رفض استقبال نجله عبد العزيز في “الفورة” داخل سجن عوفر، مصرًا على أن يكون استقباله داخل زنزانة السجن، فهو يعلم أنه لن يستطع حبس دموعه التي يرفض أن يراها سجانه، نقلا عن أسرى محررين تروي منال، “دخل عبد العزيز إلى الزنزانة حيث كان والده، وتعانقا وهما يبكيان، كان اللقاء صعبًا ومؤثرًا ليس عليهما فقط بل على كل الأسرى الذين تجمعوا حولهم، فلقائهم أبكاهم جميعًا”.
أينما تحرك موسى يتحرك معه عبد العزيز وكأنه ظله، محاولاً أن يعوض السنوات التي مضت دون والده، “يخبرني موسى أن عبد لا يتركه أبدًا، يجلس لجانبه دائمًا على البرش، وأينما ذهب يذهب معه”، وتضيف منال، “موسى حزين جدًا لأنه سيترك عبد في السجن وسيتحرر هو، يقول لي إن قلبه يتقطع عليه وغير قادر على استيعاب كيف سيتركه ويعود للمنزل دونه”، وتتابع، “أقوم بكل التجهيزات لاستقبال موسى لوحدي، فيما أفكر باستمرار كيف سنستقبله دون أن يكون عبد موجودًا معنا وهو الذي كان يحضر أن يكون استقبال والده مميزًا ومختلفًا”.
الأب في الإداري.. والابن في التحقيق
يقضي بسام حماد 45 عامًا حكمًا بالسجن الإداري لستة شهور، حيث تم اعتقاله بعد 10 أيام من ارتقاء نجله أنس حماد إثر تنفيذه عملية دهس بطولية في بلدة سلواد في الرابع من كانون أول الماضي.
العائلة طرقت كل الأبواب، ليتاح لبسام إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمان نجله، وذلك بإرساله إلى باب سجن عوفر بتنسيق مع الصليب الأحمر، “وافقت إدارة السجن وأمهلت بسام ربع ساعة لتحضير نفسه، ليحضر أحد الضباط ويقول له لن ترى ابنك بعد اليوم، فجثمانه نقل من هنا”.
الأب وإلى يساره الشهيد أنس وعن يمينه الأسير عبدالرحيم
وتضيف أم أنس، “تعمدوا حرق أعصابه والتلاعب بمشاعره بهدف تحطيم معنوياته ونفسيته”، ليتضاعف ألم أم أنس، “منذ سنوات وأنا الأم والأب لأبنائي بسبب الاعتقال والدهم المستمر، وفي هذه الظروف كان يجب علي أن أكون ثابتة وقوية لأدعم أولادي، وأثبت لهم أني قوية وأستطيع تحمل هذه المسؤولية ليعتادوا أن يكونوا صامدين وقويين”.
في الرابع من نيسان تحديدًا، اعتقلت قوات الاحتلال عبد الرحيم 20 عامًا نجل الأسير بسام، توضح أمه، “قال لي الضابط إنه سيعتقل عبد الرحيم ليربيه إذا ثبتت عليه أي تهمة فأنا لم أحسن تربيته”، لينقل عبد الرحيم ويخضع لتحقيق متواصل لأكثر من أسبوعين في زنازين مركز توقيف وتحقيق “بتاح تكفا”، حيث منع محاميه من زيارته.
تلقى بسام خبر اعتقال نجله عبد الرحيم في النشرة الإخبارية على أثير إحدى المحطات الإذاعية، “لأرفع من معنوياته، قلت له إننا محرومين من زيارتك، وأخذوا عبد الرحيم لتلتقي به بدلاً من أن يزورك لأربعين دقيقة فقط”. لكن هذا اللقاء لم يتحقق بعد.
وتعلق أم أنس، “كلنا ممنوعين من زيارة زوجي بسام وابني عبد الرحيم، الاحتلال يريد كسر شوكتنا وتحطيمنا وإرباكنا ولكنهم فشلوا ولن ينجحوا بذلك أبدًا، وكل ما نشعر به هو الفخر والاعتزاز”.
المصدر: قدس الإخبارية