الموازنة المصرية والخداع السنوي

jnyh

تعودت أن أكتب كل عام مقالاً عن مشروع الموازنة المصرية، والغريب أنني أتحدث كل عام عن نفس الأخطاء والمشاكل التي تواجه الموازنة، فلو قمت بتغير التاريخ في مقال العام السابق لظن الكثير أنني أتحدث عن هذا العام، فبالرغم من تغير بعض الوجوه في المجموعة الاقتصادية إلا أن نفس الفشل والإخفاق كما هو، وهذا يجعلني أظن أن هذا الفشل ممنهج وليس بداعي الجهل أو خلافه، لكن لماذا يتعمد المسؤولون ارتكاب الأخطاء؟!

يقول جورج برنارد شو إن “النجاح ليس عدم فعل الأخطاء، النجاح هو عدم تكرار الأخطاء”، ويبدو بحسب برنارد شو أن الحكومة المصرية مصرة على عدم النجاح، أعلم أن عدم تكرار الأخطاء صعب ويحتاج إلى جهد، ولكن المشكلة في مصر هي عدم الاعتراف بالخطأ والإصرار عليه، بل ومحاولة إقناع المصريين أنه الصواب وهذه هي الكارثة.

الموازنة المصرية التي قد لا يدرك الكثير معنى هذه الكلمة من الأساس، لكنها أساس الواقع الاقتصادي العصيب الذي نعيشه هذه الأيام، وقبل أن أقول لماذا هي الأساس، لنتحدث في البداية عن “الموازنة”، التي ربما تمر أمامك الأخبار التي تتعلق بها بدون أن تكترث لها وكأنها ليست ذات أهمية بالنسبة لك، وسأستعين بمقال “ألف باء موازنة” الذي كتبته منذ 10 شهور لإيضاح ذلك.

فبالرغم من أن ملف الموازنة في غاية التعقيد إلا أنه في غاية البساطة، وليس شرطًا أن تكون خبيرًا اقتصاديًا لكي تعرف الموازنة، ففكرة أنك لا تفهم في الاقتصاد لا يعني أنك لا تعرف أين تذهب أموالك، ولكن هل الموازنة فعلاً شيء معقد لا يفهمه سوى المتخصصين في الاقتصاد؟!

في الحقيقة إنها معقده بنفس القدر من التعقيد الذي تواجهه عندما تحدد أولويات إنفاقك، وتحتاج نفس التفكر العميق الذي تفكره عندما تحصل على راتبك، وتضع احتياجاتك في المقابل لتحدد ماذا ستفعل، ومتى، ولماذا، هذه هي الموازنة ببساطة، مرهقة قليلًا، ولكن بدونها سيتشتت تفكيرك وتضيع أموالك في أشياء ربما تكون ليست ضمن أولوياتك.

سأحاول بقدر الإمكان الابتعاد في هذا المقال عن المصطلحات الاقتصادية المعقدة، وسنأخذ جولة صغيرة نكشف فيها لو جزء بسيط من ملامح الموازنة القادمة، قد تتساءل ولماذا نتعرف على الموازنة؟! ما الذي سأستفيده من معرفتي بالموازنة؟!

ببساطة لأنها أموالك وأقل حق لك أن تعرف أين تُنفق، وتعرف من الذي تهتم به حكومة بلادك؟ هل تدعم الفقراء أم الأغنياء؟ هل تهتم بالاستثمارات والصناعة، فيزداد أملك في الحصول على وظيفة، أم العكس؟ هل كل ما يشغلها أخذ المزيد من الضرائب أم أنها تبحث عن مزيد من الرفاهية لك؟

قبل الخوض في التفاصيل يجب أن تعلم أنني أتحدث عن طبيعة الموازنة في مصر، لأن مصر لها طبيعة خاصة، فالطبيعي في كثير من دول العالم أن تسعى الحكومات لتوعية المواطنين بالموازنة بأكبر قدر ممكن، لكن في مصر تتعمد الحكومة حجب المعلومات عن كل المصرين بأكبر قدر ممكن فالطبيعي أن تجد أن أكثر من 90% من الشعب لا يعرفون شيء عن الموازنة.

وبشكل عام الموازنة تتكون من جانبين هما الإيرادات والنفقات، وعندما تزيد الإيرادات عن النفقات يظهر ما يسمى بالفائض، أي ما يفيض عن الحاجة، وعندما تزيد النفقات عن الإيرادات – وهو الغالب – يظهر ما يسمى بالعجز، أي عدم قدرة الإيرادات على تغطية احتياجات الدولة، وهنا يظهر “الدين” وهو ما تلجأ له الحكومة لتغطية عجز الإيرادات عن النفقات، وللديون أكثر من شكل لن نخوض فيها الآن.

هناك مقولة شائعة تقول “قل لي فيم تنفق أموالك أقُل لك ما هي أولوياتك” هذا القول لا يقتصر على الأشخاص فقط إنما ينطبق أيضًا على الحكومات، ولكي تعرف أولويات الحكومة الفعلية وسياساتها، بعيدًا عن تصريحاتها الإعلامية المتجملة ما عليك سوى النظر إلى بيانات الموازنة العامة، وقتها ستعرف بمن تهتم الحكومة، هل يشغلها الأمن أم التعليم والصحة، أم أنها مهتمة أكثر بالصناعة والزراعة والطرق ومحطات الصرف والشرب إلى آخره، كل هذا ستجد إجابته داخل الموازنة العامة، لكن في مصر يواجه المتخصص مشكلة في الحصول على المعلومات، فما بالك بالمواطن العادي!

لنلقي نظرة سريعة على ملامح مشروع الموازنة المصرية الجديدة، فقد أصدرت وزارة المالية بنهاية الأسبوع الماضي البيان المالي التمهيدي لمشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي القادم 2016/2017، وذلك لعرض الإطار العام لمشروع الموازنة الجديدة، البيان كالعادة يحتوي على توقعات فلكية لا علاقة لها بالواقع.

فقد بدأ البيان بالكذبة السنوية التي جاءت هذا العام على لسان عمرو الجارحي وزير المالية، الذي قال إن “هدف عرض البيان أمام الرأي العام هو المشاركة المجتمعية الفعالة في عملية إعداد مشروع الموازنة العامة والتي يملكها في الأساس المواطن المصري”، وهذا الأمر عاري تمامًا من الصحة وإذا كان صحيحًا لماذا لا يكشف عن ميزانية الجيش مثلاً؟

ويدور البيان المالي التمهيدي حول عدد من الأهداف لا أبالغ إن قلت إنها لا تمت للواقع بصلة، حيث إن الهدف الأول هو تحقيق معدل نمو اقتصادي يقترب من 5%، ولن أخوض في هذا الهدف كثيرًا ولكن يكفي أن صندوق النقد الدولي يتوقع نمو الاقتصاد المصري بنسبة 3.3%.

الهدف الثاني الذي تحدث عنه البيان هو خفض معدلات البطالة إلى نحو 11-12% نزولاً من 12.8%، وعلى اعتبار أن الرقم الأخير صحيحًا، فإن هدف الحكومة هو خلق ما بين 600 – 700 ألف فرصة عمل خلال العام المالي، وعلى اعتبار أيضًا أن الحكومة ستنجح في هذا الأمر وستوفر نحو 700 ألف وظيفة، لكن المفاجأة أن الداخلين الجدد لسوق العمل يتجاوز عددهم 750 ألف شخص، بمعنى أن هذا الهدف يستحيل أن يتحقق فالبطالة سترتفع عليه بعشرات الآلاف لو فرضنا أن الحكومة ستتنجح في توفير هذا العدد من الوظائف بنسبة 100%.

الهدف الثالث هو السيطرة على العجز الكلي ليتراوح بين 8-8.5% على المدى المتوسط بحلول عام 2019/2020، وهذا الهدف السنوي الذي لا يتحقق أبدًا، وعندما يتحقق جزء منه يكون على حساب المواطن البسيط سواء من خلال التقشف ورفع الدعم أو من خلال زيادة الضرائب.

الهدف الرابع وهو إصلاح سياسات المالية العامة وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق، وذلك سيحدث من خلال عدة آليات ضريبية لن تضر أحدًا سوى المواطن البسيط كما ذكرت، وذلك بدءًا من ضريبة القيمة المضافة والتي انتهت الحكومة من إعداده، وكذلك إصلاحات الضريبة على الدخل.

على العموم تتعلق كل الأهداف بالأرقام الرسمية التي لا تعبر عن الواقع الذي نعيشه فأرقام التضخم أو البطالة الرسمية لا تنال ثقة الجمهور، لأنها باطلة وما بني على باطل فهو باطل.

فالحكومة تتوقع نمو الإيرادات العامة بنسبة 20% بمشروع الموازنة، ونمو النفقات العامة بنسبة 13% بالمقارنة بالعام المالي الجاري، أما عن النفقات فمن الممكن أن يتحقق عن طريق رفع الدعم ومواصلة التقشف، ولكن من أين تأتي الإيرادات في ظل تراجع الصادرات وأعداد السياح وإيرادات قناة السويس وكل مصادر الدخل القومي بشكل عام، كيف ترتفع الإيرادات وقد تراجعت في 6 شهور بنسبة 38%.

الخلاصة: هذا البيان مازال تمهيديًا حتى الآن وأتوقع أن تزيد نسبة الخداع في المشروع النهائي للموازنة، فحاولوا أن تدركوا الواقع حتى لا تخدعكم الأرقام ولا تعرفوا أين ذهبت أموالكم هذا العام، كان هذا المقال بمثابة تمهيد للمقال القادم بعد إقرار الموازنة العامة بإذن الله.