ذهب الصدام وبقى الصراع في سوريا، ملامح رئيسة بلعبة التقسيم الغربية المدعومة بتخاذل عربي إقليمي، أطرافه جميعًا مسؤولة عن الدماء التي سالت ومازالت، بنفس القدر الذي يسأل عنه الطاغية بشار وداعمه الدولي بوتين، وبعض الطغاة الإقليميين.
في علم السياسة، يدرك الجميع أن خوض الحرب فقط من أجل السلام هي فكرة غبية، وقع فيها الثوار وداعموهم إقليميًا، وكان الأولى طالما سارت الأمور في هذا المنحى، أن يتم حسم الأمور بكاملها على الأرض بأيدي الثوار، عبر تمويلهم بالمضادات الأرضية والسلاح الجوي، المناسبين للرد على وتحييد عنف النظام وهجماته الجوية، أو على الأقل فرض الحظر الجوي على سوريا، مثلما حدث سابقًا بالعراق ثم ليبيا؛ لتحييد سلاح الطيران بالكامل والإبقاء على المعارك الأرضية كعامل حسم هام بأيدي الثوار.
حلب الجيوسياسية
الخبرة الحربية تقول بأنه كلما زادت الأهمية الاستراتيجية لمنطقة جغرافية ما وقت الحرب، ازدادت شراسة ودموية المعارك حولها، وهي المقولة التي أثبتت صحتها في حلب، بشقيها المحرر والمسيطر عليه من قِبل النظام، خلال فترة الخمس سنوات الأخيرة للأزمة السورية، كونها تعد من أهم البقاع الجغرافية التي تتحكم بخطط وطموحات دولية وإقليمية عدة، وظلت معركة تطويقها هي الأكثر دموية في السنوات الماضية، لأن من يحسمها يكون قد حسم أكثر من 90% من دوره بسوريا.
ليكون حديثنا أكثر دقة دعونا نعرف أهمية حلب عبر التاريخ، فالمدينة شكلت خلال فترات تاريخية طويلة مركزًا هامًا على الصعيد الجيوسياسي والاقتصادي والعسكري بالمنطقة، بدءًا من الإمبراطورية الرومانية وفترات الحكم الأموي والأيوبي والعثماني، وصولاً لترسيم بريطانيا وفرنسا لحدود الدولة السورية الحديثة، التي عزلت المدينة عن جنوبي تركيا وشمال العراق.
ومع بداية الثورة السورية ركن النظام إلى قوته وقدرته على حسم الأمور على الأرض بشكل سريع، وعمل على تحييد حلب، التي توازي في أهميتها أهمية العاصمة دمشق نفسها، وتعتبر منطقة استراتيجية مؤثرة بشكل مباشر في الديناميكية السياسية والعسكرية؛ وظن النظام أنه لن يحتاج لأهميتها الاستراتيجية آنذاك، لكن بدايات العام التالي للثورة، وتحديدًا في فبراير من العام 2012، حينما توالت انتصارات المعارضة بباقي المدن السورية، وبدأت “قردة داعش المتوحشة” في الظهور على الساحة السورية بعد العراقية، أدرك نظام بشار الأسد أن الثورة والأزمة تحولت لحرب ضروس، فبدأ في التفكير في استغلال أهمية حلب الجيوسياسية، خوفًا من هيمنة المعارضة المسلحة عليها، بعد أن شنت تلك العناصر هجومًا شاملاً ضد قوات الأسد المتمركز بالمدينة، وفجرت مبنى الاستخبارات العسكرية ومقر الشرطة، مخلفة 28 قتيلاً بين قوات النظام، لتتحول المدينة منذ تلك اللحظة إلى حلبة قتال شرس، غطت على كل المناطق بسوريا حتى أدلب والرقة واللاذقية، وغيرها من مدن بداية الهبة الشعبية، وأضحت المدينة منقسمة بين سيطرة النظام والفصائل المسلحة على اختلاف انتماءاتها الأيديولوجية والسياسية.
أطراف متصارعة
- هنا يبرز تساؤل جيوسياسي هام، لماذا تشكل حلب تلك الأهمية للجميع داخليًا وإقليميًا ودوليًا؟
الرد على هذا التساؤل يقتضي حصر أهم الأطراف المستفيدة من المدينة الآن، وخلال السنوات الأربع السابقة، حيث تنشط بالمدينة عدد ليس بالهين من الجماعات المسلحة مختلفة الانتماءات والتوجهات الأيديولوجية، بينها جماعة لواء الحق ولواء التوحيد وأحرار الشام وصقور الشام والنصرة، بالإضافة لداعش التي شكل دخولها المدينة أزمة للجميع، قوى المعارضة قبل النظام، فقبل دخول داعش لحلب كان هناك أكثر من مائة جماعة صغيرة تسعى للاندماج فيما بينها، وتفكر في التحالف على أهداف قوامها الأساسي إسقاط النظام العلوي، قبل الالتفات للاختلافات الأيديولوجية بينها، لكن تواجد القردة المتوحشة لداعش في الساحة صعب الأمور، وعقد تلك التحالفات، حتى باتت القوى المسلحة تتقاتل فيما بينها.
أما أهميتها الإقليمية فبرزت بعد التدخل الروسي في الأزمة، حينما قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إرسال الدعم العسكري والجوي لإنقاذ نظام بشار من الانهيار، بعد أن باتت معظم المعابر الحدودية لسوريا بأيدي المعارضة، وهي المعابر التي تسمح بعبور المسلحين والجهاديين والدعم اللوجستي للأراضي السورية عبر تركيا، بطول أكثر من 800 كيلو متر بين الجانبين، ومع التدخل الروسي بات الشريط الحدودي مع تركيا مهددًا، ونظرًا للعداء الشديد بين تركيا والتنظيمات المسلحة التابعة للأكراد، شكلت المعابر التي سيطر عليها أكراد سوريا نقاط هامة للدب الروسي، ومن خلفه نظام بشار، بعكس المعابر الأخرى الواقعة تحت سيطرة التنظيمات المسلحة الباقية مثل معبري باب الهوي وباب السلامة، الأمر الذي جعل من حلب النقطة الأهم لدى تركيا وحلفائها الإقليميين، لتصبح هي نقطة الصراع المسلح بين جميع الأطراف، باعتبار أنه مع قطع طريق الإمدادات في حلب، لن يبقى للمعارضة المسلحة سوى طريق إدلب، الذي تسيطر عليه جبهة النصرة الموالية للقاعدة للحصول على الإمدادات، وهو ما يعني انهيار التحالفات المسلحة القائمة على العداوة الأيديولوجية للقاعدة من جهة، والموالية لتنظيم داعش الأقوى بتلك المعابر من جهة ثانية.
تركيا والمملكة
- هذا عن أهمية حلب لقوى المعارضة لكن ماذا عن أهميتها للنظام وتركيا وباقي دول الجوار مثل السعودية وغيرها؟
بالنسبة للجيش السوري الذي يحارب الآن فيما يقارب الـ 500 بؤرة داخل سوريا، تنبع أهمية المدينة من الاستراتيجية العسكرية لجيش بشار، التي تعتمد على أولوية هامة في ديناميكية صراعها علي الأرض، تقوم على فكرة تطويق المدن الهامة، وقطع خطوط الإمداد عن المسلحين بداخلها، بدلاً من السيطرة عليها سيطرة تامة تتيح لعناصر المعارضة مباغتتها والهجوم عليها، كونها لا تستطيع توزيع جنودها بهذا الكم الهائل من بؤر الصراع، وتعمل قوات النظام على حصر البؤر المسلحة في مناطق ضيقة أولاً، قبل مهاجمتها، على أن تعتمد في محاربتها للمسلحين على القوى الأخرى الأقل قوة من داعش؛ لتحقيق انتصارات وهمية ضد قوى وتمركزات ضعيفة، تمنح أولاً جنودها نصرًا معنويًا، وتوحي للرأي العام العالمي والغربي على وجه التحديد، أن الجيش السوري قادر على السيطرة واسترداد ما تمت السيطرة عليه سابقًا من قوى المعارضة، وفرض الأمر الواقع أمام الجميع أن المواجهة المتبقية فقط ستكون بين الجيش السوري وتنظيم داعش، وهي الاستراتيجية التي تضع القوى الإقليمية والدولية كلها في مأزق أمام شعوبها، كونها تعتمد ثنائية تقول بأن المعركة في سوريا باتت منحصرة فقط بين الجيش السوري وداعش، وعلى الجميع أن يختار بين دموية نظام بشار داخليًا، وبين همجية ودموية ووحشية تنظيم داعش العدو الحالي لكل أطراف الصراع داخليًا وخارجيًا، وهنا تمثل حلب مربط الفرس، كونها أكبر المدن السورية التي تتلقي دعمًا لوجيستيًا للتنظيم الإرهابي.
إقليميًا تكمن أهمية حلب بالنسبة لتركيا والسعودية في كونها نقطة مثالية في الطموح التركي الاستراتيجي لفرض منطقة عازلة شمال سوريا، تمنحها – أي تركيا – السيطرة التامة علي منطقة الشمال التي تأوي الأزمة الكردية المهددة لحدودها، ووقتها تستطيع أنقرة تحجيم القدرة العسكرية للأكراد قبل أن تتحول لتهديد حقيقي، يقترب من الداخل التركي خصوصًا بعد التقارب الروسي الكردي في تلك المنطقة الشمالية السورية من جهة، وتواصلها مع حزب الشعوب الديموقراطي، الذراع السياسي للأكراد بالداخل، حتى إن روسيا تفكر جديًا في تدشين مقرًا للحزب في موسكو.
تقارب كردي روسي
التقارب الكردي الروسي لم يكن وحده الذي يقلق تركيا، بل دخول الولايات المتحدة على خط الأزمة ورفضها تصنيف أكراد سوريا بالمنظمة الإرهابية تعني لتركيا أن “حلب” تبقي النقطة الأخيرة لدى النظام التركي والتي من خلالها يمكنه إبقاء أبوابة مفتوحة نحو الداخل السوري وجماعاته المسلحة، كنوع من الضغط على روسيا والولايات المتحدة في مقابل “شرعنة” الجانبين الروسي والأمريكي للتواجد الكردي في جانبيه السوري والتركي الأمر الذي هدد إلى نحو كبير ليس الطموح التركي في المنطقة بحسب، بل هدده من الداخل أيضًا.
وتنبع هنا أهمية حلب التي يهيمن الأكراد على مطار “منغ” العسكري فيها الذي يقع بين طريقين استراتيجيين يصلان حلب بمدينة أعزاز، أحد معاقل الفصائل الإسلامية في المنطقة، إلى جانب مدينتي تل رفعت ومارع.
أما بالنسبة لأهمية المدينة للسعودية فتنبع من أن مخاطر سقوط حلب في يد النظام سيعتبر انتصارًا جديدًا لإيران في سوريا، وانتصار لحزب الله أيضًا قد يلقي بظلاله على الوضع في لبنان، وسقوط المدينة يعني خسارة المملكة لملايين الدولارات التي أنفقتها على تدريب العناصر المسلحة بها، وربما طرد السعودية من أهم بقعة لها في الصراع السوري، الأمر الذي يفسر اندفاع السعودية وإرسالها لمقاتلات حربية بقاعدة أنجرليك التركية وتلويحها أيضًا بإمكانية التدخل البري بالتوازي مع تصريحات المسؤولين الأتراك، لأنها تعتبر أن سيطرة النظام على حلب “ضربة مدمرة” للمعارضة السورية المسلحة، تقلب موازين الوضع القائم بالمدينة حيث تتقاسم القوات الموالية للحكومة وعدد من فصائل المعارضة المختلفة السيطرة على حلب، غير أن مجموعات المعارضة غير متحدة في قتالها؛ فنجد الائتلاف الوطني السوري ينأى بنفسه عن التنظيمات الأخرى وعلى رأسها داعش وجبهة النصرة، كما أن وحدات حماية الشعب الكردية تسيطر من جانبها على منطقة شمالي حلب، وهو الوضع المريح بعض الشيء للسعودية وتركيا عما لو كانت سيطرة النظام كاملة على المدينة.
النقاط الحمراء: الجيش السوري
النقاط السوداء: تنظيم داعش
النقاط الخضراء: باقي التنظيمات المسلحة أو ما يُسمي “بالمعارضة المعتدلة”
النقاط الصفراء: وحدات الأكراد العسكرية
مفاوضات جنيف
على المستوى الدولي تنحصر أهمية حلب في شق المفاوضات التي تستضيفها جنيف فقط، باعتبار ملكية المدينة والسيطرة عليها ورقة ضغط فاعلة قبل الجلوس لمائدة التفاوض، عملاً بالقاعدة السياسية الحربية التي تقول “إن من يمتلك الميدان، يمتلك تحسين شروط التفاوض”، وجولة جنيف المقبلة تسعى خلالها الحكومة السورية ومن خلفها روسيا وإيران إلى المطالبة بغلق كافة الحدود التركية، وإنهاء الدعم اللوجيستي للإرهابيين تمامًا.
الوضع الحالي في حلب يمكن قراءته بأن جميع الكيانات المسلحة النشطة في المدينة باتت بدون خطوط إمداد وتعاني نقصًا شديدًا في إمدادات الأسلحة اللازمة لخوض معركة حيوية، وتحتاج لتحرك جوي لأن سقوط المدينة إضافة إلى كونه نكسة استراتيجية، فإنه سوف يمثل انتكاسة معنوية كبيرة للمعارضة خاصة بعد الخسائر المتتالية خلال الأسابيع الماضية في اللاذقية ودرعا وحمص وريفها.
تساؤل مشروع
- هنا قد يتساءل البعض لماذا لا يمكن إمداد المعارضة المسلحة بالطيران والمضادات الأرضية اللازمة لمواجهة التفوق الجوي لجيش الأسد المدعوم من روسيا؟
الإجابة هنا تحكمها الاستراتيجيات الحربية ويمكن قراءتها من منظور استخباراتي انتشرت حوله معلومات كثيرة خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن أنظمة الدفاع الجوي الروسية تتيح الكشف المبكر عن أي تهديدات للطائرات الروسية التي تقوم بمهام قتالية فوق سوريا، أي أن تلك الأنظمة لا تسمح بأي تهديد جوي أو بري ضد طائراتها، وهو ما يبرر لجوء تركيا للرد على التطورات الميدانية في حلب بالقصف المدفعي وليس جويًا كما فعلت بالعراق.
في المقابل الوضع يحتاج لحسم دولي، والولايات المتحدة لا ترغب الآن في إثارة حرب جديدة أو تصعيد الموقف في سوريا مع إيران وروسيا، باعتبارها تفضل حاليًا التهدئة حصدًا لثمار الاتفاق النووي مع إيران، والرحيل عن البيت الأبيض دون إشعال حروب جديدة، قد تدفع بالأمور إلى تصادم مباشر بين القوتين العظمتين، في وقت تعتقد فيه واشنطن والغرب أن خطورة “داعش” كتهديد عالمي – وهي الثنائية التي لطالما حاول نظام الأسد تصديرها للغرب “أنا أو داعش” – أولى بالمواجهة من أي تحريك عسكري إرضاءً لحلفاء تتضاءل أهميتهم بمرور الوقت “الخليج وتركيا”، وعربيًا يبدو الوضع غير مختلف عن الوضع الدولي حيث يغاير الموقف المصري طموحات المملكة ويفضّل الحلول السياسية.
سيناريو مستبعد
- بعيدا عن تلك الجدليات.. ماذا فعلاً لو تم توفير الدعم الجوي للمعارضة؟
على المستوى العسكري يعتبر ذلك فرصة لإقامة المناطق العازلة في الشمال السوري على الأقل، وفرض مناطق حظر الطيران داخل سوريا، وإلا لا فائدة من برنامج تسليح وتدريب المعارضة السورية بدون غطاء جوي.
وعلى المستوى الجيوسياسي ستتمثل أهم نتائج الدعم الجوي الإعلان ولو بشكل غير مباشر عن إقامة مناطق حظر الطيران والمناطق العازلة ما سيضمن بقاء المناطق المحررة بشكل دائم في يد المعارضة، إضافة لحمايتها من هجوم البراميل المتفجرة التي تلقيها قوات الأسد بين الفينة والأخرى.
رؤية أخرى ترى أن توفير تركيا لقوات الناتو فرصة القيام بعمليات حربية جوية عبر قاعدة إنجيرليك، يعني اصطياد ثلاث عصافير بحجر واحد، لأنها ستتمكن من حماية المقاتلين السوريين الذين تدربهم عند عودتهم للداخل السوري، ووضع حجر الأساس للمناطق التي طالبت بها مرارًا وتكرارًا، لحظر الطيران والمناطق العازلة، إضافة إلى منع الهجمات الجوية لقوات الأسد، لكن تلك العملية تتوقف على “وجود الثقة المتبادلة بين أطرافها، لأن الدول المشاركة في برنامج التسليح والتدريب تختلف فيما بينها حول كثير من الأمور، ولا تثق الواحدة منها بالأخرى”.