أثار صعود “السديرين” بعد وفاة الملك الراحل عبد الله آل سعود، تكهنات وآمال بترقب حدوث تغير حاد بالسياسة الخارجية السعودية، إزاء الأزمات الاستثنائية التي تواجهها المملكة خاصة بعد الانقلاب الناعم الذي حصل على أبناء الملك عبد الله والتواجرة، والذي جابهه محاولة انقلاب مضاد باءت بالفشل وإن كان لا يعلم حتى الآن مداها.
ولعل تلك الأزمة حتى الآن تلقي بظلالها حول رؤية المملكة لـ 2030 التي أعلنت مؤخرًا.
ولضبط التوقعات وما الذي يمكن تغييره ومدى هذا التغيير، علينا أن نلقي نظرة حول محددات السياسة الخارجية السعودية، وما الذي يمثل مصالح حيوية للسعودية، ومدى التأثير الأمريكي على تلك السياسة، والمفارقة النابعة من مصالح ذاتية، وبالنهاية من خلال هذا العرض ستتكون عندنا نتائج ومحصلات عامة حول آليات عمل السياسة الخارجية السعودية.
سنقسم تلك الورقة لتناول محددات علاقة السعودية بالخليج، ومحددات العلاقة بأمريكا، والعوامل الداخلية التي تفرض نمط معين من السياسات، ومحدد عامل النفط، ومحدد التحدي الإيراني، ومحدد ثورات الربيع العربي، ومحدد السلفية الجهادية.
أولاً: العلاقة مع الخليج
لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم ديناميات علاقة السعودية مع محيطها الخليجي، إلا بالعودة لظروف تأسيس الدولة نفسها؛ فقد حرص عبد العزيز آل سعود عند تأسيس المملكة إلى أن تحتل مملكته كل المساحة المتسعة الواصلة بين البحرين، أي الأحمر والخليج، بالرغم من أن مركز الثقل الأساسي للمملكة لا يخرج من شريط الحجاز الملاصق للبحر الأحمر ومنطقة نجد الملاصقة للحجاز أو اليمامة كما عرفها العرب قديمًا والرياض والقصيم حديثًا، مع عدم تعديه على الإمارات على ضفاف الخليج الخاضعة وقتها للنفوذ البريطاني، بعدن أو محاولة التوغل بالعراق والشام أو الأردن حديث التكون، بالرغم من العداء التاريخي بين آل سعود والهاشميين، بل تاريخيًا كان تخلص عبد العزيز من جيشه البدوي، الذي عرف بـ “إخوان من طاعِ الله”، ناتج من الخلاف حول التوسع بالعراق، ورغبة الإخوان بهذا التوسع مخالفة لأوامر الملك، هذا المسلك التأسيسي سيوضح لنا عاملاً هامًا برؤية المملكة لسياستها ببيئتها الإقليمية الأولى، أي الجزيرة العربية والهلال الخصيب.
فهي من ناحية ترغب بأن يكون لها الهيمنة على الممرات المائية المحيطة بشبه الجزيرة، ومن ثم ينتج عن هذا هيمنة على جيرانها من الإمارات الصغيرة، وأعدائها التقليديين من الهاشميين إلى حكم الأئمة باليمن إلى سلطنة “ظفار” التي تحولت إلى عمان.
ولكن بنفس الوقت لا تدخل بصدام مع القوى العالمية راعية تلك الممالك والإمارات، بل صعودها الإقليمي من البداية كان مرهونًا بالارتكان والارتكاز إلى حليف إقليمي قوي وهو ما حرص عليه عبد العزيز بلقائه بروزفلت قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية لكي يعرض عليه نفسه كشرطي حراسة للإقليم بعد تبدل ميزان القوى بين بريطانيا وأمريكا، وهو نفس العرض الذي عرضه فاروق مصر وعرضه عبد الله شرق الأردن، وبالفعل وقع اختيار روزفلت على عبد العزيز آل سعود ولكن ليس منفردًا، وإنما بالارتكاز على المشروع الصهيوني الذي أنشأ دولة بعد هذا اللقاء بين روزفلت وعبد العزيز بثلاث سنوات.
ثم من المهم أيضًا إلقاء الضوء على قضية غاية بالأهمية، وهي التي تحكم تفاعلات السعودية مع الخليج حتى الآن، وهي النزاع الحدودي على منطقة “خور العيديد” التي كانت تحدث اتصال بري بين كل من الإمارات وقطر ولكن بالتحكيم الأممي سنة 7419م انتقلت السيادة عليها إلى السعودية، وبذلك أصبحت السعودية تفصل بين كلا الدولتين بريًا وبحريًا ويمكن الرجوع إلى هذا الرابط لمعرفة تفاصيل تلك الأزمة والنزاع الممتد حتى الآن.
هذا النزاع كما هو موضح بالعرض بالرابط ليس مرتبطًا فقط بمسأَلة الوفرة النفطية بـ “خور العيديد” وليس كذلك مرتبطًا برغبة دولتي الإمارات وقطر بتوسعة مساحتهما الصغيرة التي تشكل مشكلة أمنية مزمنة لهما، وإنما مرتبطًا أيضًا بميزان القوى مع الجارة الأكبر جغرافيًا ووزنًا السعودية، فالسياق الذي تم توقيع ترسيم الحدود المتنازع عليها بـ”خور العيديد” كان بإطار طموح زايد إلى ضم كل من إمارتي قطر والبحرين لدولته الوليدة لكي يكون اتحاد الإمارات مكون من 9 إمارات بدلًا من 7 وهو الذي وقفت ضده السعودية، مخافة أن يختل توازن القوى بينها وبين جيرانها الأصغر، ومن ثَم اتجهت السعودية لعقد علاقة استثنائية، وتحالف وثيق مع قطر مشابه لتحالف السعودية والإمارات الآن، من أجل فض هذا التحالف المزمع، ومن أجل أن يحسم النزاع الحدودي لصالحها، ثم ما لبث أن انفض هذا التحالف بوصول “حمد” إلى الحكم واقترابه أكثر من الإمارات كمحاولة لاستعادة فكرة اتحاد اتساعي بأشكال مختلفة، كما وضح الرابط، ولعل كانت المحطة الأبرز في هذا قبل اندلاع شرارة الثورات العربية مباشرة هي أزمة دبي العقارية، والتي تشير بعض الاتهامات لدور سعودي في الأزمة.
وبالفعل استفادت السعودية من الأزمة بانسحاب جماعي للمستثمرين العقاريين – الكويتيين خصوصًا – من دبي واتجاههم للسعودية، والآن مع صعود تميم للسلطة، متزامنًا مع الموجة الثانية من الثورات العربية متمثلة بالردة إلى الثورة المضادة، كانت قد بدأت دورة أخرى من التحالف السعودي الإماراتي والتباعد عن قطر ثم أخيرًا مع مجيء سلمان إلى الحكم، على ما يبدو ستبدأ مرحلة أخرى من دورة من التقارب المجدد مع قطر، والتباعد تدريجيًا عن الإمارات، ولعل حينها ستبرز مجددًا ملفات الاتحاد الخليجي العالقة، كرفض الإمارات لفكرة العملة الخليجية الموحدة وإصرارها على أن يكون البنك المركزي الخليجي المزمع إنشاؤه في أبو ظبي وليس الرياض.
فما نود استنتاجه من هذا العرض هو أن مثلث العلاقة بين السعودية والإمارات وقطر يمر بدورة متكاملة من تبدل التحالف والتباعد بين أضلاعه الثلاث، فلذا يمكننا أيضًا استنتاج أن المرحلة الحالية لن تدوم وسيأتي الدور على المرحلة التالية من الدورة التي بدأت مع تأسس الإمارات، أي تقارب إماراتي قطري مع تباعد عن السعودية، متى يحدث هذا أو إلى أي مدى ستستمر المرحلة الحالية؟ هذا مرتبط بمحددات السياسة الخارجية لكل من الدولتين الآخرتين ولكننا سنستطيع استشفافه بعد تناول بقية المحاور.
ولكن يمكن الاطلاع على هذا البحث الذي يلقي الضوء على محددات وإمكانية تحالف مُقبل بين السعودية وقطر ومتى ينتهي وإن كان يتناول المسألة من الزاوية القطرية لا السعودية.
- عامل الدولة والقبيلة
وهذا سنفصله بالعوامل الداخلية المؤثرة على السياسة الخارجية ولكن نود التنبيه هنا إجمالًا إلى حداثة ظاهرة الدولة بالجزيرة العربية إجمالًا وحداثة ظاهرة القبيلة السياسية بالجزيرة العربية أيضًا، فهنا فكرة المواطنة أو العقد الاجتماعي ليست موجودة بالمعنى المتعارف عليه بالعلوم السياسية ببيئة الخليج عمومًا، فإلى حد قريب لم يكن يوجد فعلًا ما يسمى مواطن سعودي وإماراتي، وإنما “شمري” و “عنزي” “وغامدي” “وتميمي” وكل التكوينات القبلية الموجودة بالمملكة السعودية لها امتدادات ببقية الدول الخليجية، بل إن قبيلة واحدة كقبيلة “شمر” توجد بالسعودية والكويت والعراق أيضًا، وكذلك الدواسر توجد بالسعودية والامارات وقطر والبحرين والكويت واليمن والعراق بل وبالشق العربي من إيران.
وليست المسألة مقتصرة على هذا، بل الأخطر والذي يمثل هاجسًا فعليًا بالنسبة للسعودية هي التكوينات الشيعية بإطارها، حيث إن التكوينات الشيعية بالسعودية ليست فقط مرتبطة مذهبيًا مع شيعة البحرين والكويت بل وأسريًا وعشائريًا أيضًا.
فبالتالي تأثير العامل القبلي بالسياسة الإقليمية والخارجية السعودية على نحويين:
المستوى الأول
هو استثمار القبائل العابرة لها للدول الخليجية كعامل للتأثير بتلك الدول، وكان أوضح مثال له على الإطلاق هو تحفيز وتحريض قبيلة بني مرة الممتدة بين السعودية وقطر لعمل محاولة انقلاب على حمد آل الثاني في العام 1996م، وهي المحاولة التي انتهت بالفشل ونفي وجهاء وشيوخ بني مرة للسعودية، والمرجح أنه لو كان استمر حكم “متعب بن عبد الله” من خلف أبيه والتواجرة فترة أطول، ولم يتم النجاح بالتوصل لصيغة لإنهاء التوتر الخليجي الذي أدى لسحب سفراء السعودية والإمارات والكويت من قطر.
المرجح أن السعودية كانت ستسعى مجددًا لعمل محاولة انقلاب جديدة على تميم، خاصة أن هناك اختلاف بين فرعي آل الثاني، الفرع الذي يكون منه الأمير، والفرع الذي يكون منه رئيس الوزراء، حيث وجهة نظر فرع رئيس الوزراء أن تأسيس الدولة كان باتفاق على التبادل في الإمارة بين الفرعين، وهو الاتفاق الذي أخل به الفرع الذي منه الأمير الآن، فبالتالي مازالت تلك، أي محاولة انقلاب باستخدام المكون القبلي من مرة ودواسر وشهران، أحد الكروت المتاح استخدامها عند التوتر القادم بالعلاقات، ولكنه على كل حال سلاح يمكن استخدامه من الطرفين، أي إذا فُعل تخطيط استنهاض المكون القبلي الداخلي بالسعودية، ستجد كل من الإمارات وقطر حريصتان على دعم هذا التحرك، وسيسرع هذا من تبدل التحالفات سريعًا
المستوى الثاني
هو التنسيق المركزي بين كل الدول الخليجية التي تحتضن مكون شيعي في سياسة موحدة، للتعامل مع تلك المعضلة التي تمثل أهم الهواجس الداخلية للسعودية حتى أهم من خطر القاعدة، فمن أجل هذا كان قرار السعودية باستخدام قوات درع الجزيرة في قمع الانتفاضة البحرينية، بالرغم من الاعتراض الأمريكي من واقع أن تدريب وتسليح تلك القوات يأتي من القواعد الأمريكية بالسعودية، لذا فضلت أمريكا ألا يكون هناك أي ارتباط بينها وبين مواجهة أي اضطرابات داخلية بالخليج، وهو ما لم تستمع له السعودية، إذ إن نجاح الانتفاضة الشيعية بالبحرين بتحقيق مطالبها من ملكية دستورية يعني انتقال حالة النجاح تلك مباشرة إلى داخل المملكة وهو ما لن تقبله السعودية ولو بإملائات أمريكية.
عامل مجلس التعاون الخليجي
وهنا يجب الإشارة إلى ظروف تكون مجلس دول التعاون، فبالرغم من أن أصحاب الفكرة هما الكويت وأبو ظبي إلا أن تبني السعودية للفكرة كان في ظل ظرفين مستجدين: الأول هو انسحاب مصر من العمل العربي بعد السلام مع إسرائيل، وتجميد عضوية مصر بالجامعة العربية، والثاني هو انتصار الثورة الإيرانية، وقد كان تأسيس المجلس عقب هذين الحدثين بفترة قصيرة، فالشاهد من دفع الرياض لفكرة المجلس كان الحاجة إلى التحرك في الفراغ الذي تركته مصر بوصفها الدولة القائدة للنظام العربي، والثاني هو تجميع الدول الخليجية بإطار واحد للاستجابة للتحديات المواجهة للخليج وحده وليست مواجهة للنظام العربي ككل، وهي الوقوع بين فكي الكماشة، إيران الخميني وعراق صدام آنذاك.
فهنا يتبين ملمحين هامين بالسياسة الإقليمية للسعودية تميزها في التعامل مع محيطها الخليجي:
١- هي تريد أن تتمدد بفراغ القيادة للنظام الإقليمي العربي الذي يتركه المتساقطون على زعامته من مصر الناصرية إلى العراق البعثي، ولكن بنفس الوقت لا تريد النظام الإقليمي العربي، الذي لا يعتبر للقضايا الخليجية الخاصة أو الذي لا توجد به وحدات فرعية كمجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي، ومحاولات الوحدة بالهلال الخصيب، والتي كلها رافقت تأسيس مجلس التعاون، وفسرها البعض بأنها انسلاخ من النظام العربي، وقد يكون هذا صحيحًا بحالة الاتحاد المغاربي إلا أنه بحالة مجلس التعاون الخليجي يمكن تفسيره على أنه عمل تكتل تقوده السعودية، ولها فيه وحدها الكلمة الفصل يكون رافعة لها لتتصدر النظام العربي الإقليمي، وهذا هو ما يفسر رفضها لانضمام عراق صدام حسين لمجلس التعاون، ليس لكون العراق جمهورية، وإنما لأن عراق صدام كان أحد المنافسين لها على ريادة النظام العربي.
٢- ولكن بنفس الوقت هي تريد الاستثمار من تلك القيادة وأن تنتقل القضية المركزية للنظام العربي من قضية فلسطين أو غيرها إلى القضية الخليجية، فهي أولًا دفعت لتكوين مجلس التعاون ليواجه تحديات الخليج، كما قلنا مثل الخطرين العراقي والإيراني، وإقامة تكتل إقليمي داعم لها في دول “الأوبيك” ويكون هناك موقف واحد من دول الخليج تجاه تلك الإشكاليات، ولكن علاوة على ذلك هي تريد أن تكون القضية المركزية للعرب قضية الخليج، وهذا مسلك أساسي بسياستها الخارجية، فهي لا تقبل من دولة عربية إقامة أدنى نوع من العلاقات مع إيران، بالرغم من وجود تلك العلاقات مع دول داخل مجلس التعاون كعمان والإمارات، ولكن لا نستطيع القول بأن عمان والإمارات بحلف مع إيران، كما سوريا أو كما يحدث الآن من التقارب المصري الإيراني في بعض المناسبات، وكذلك تصرفها تجاه معضلة الثورات، كما سنبين بهذا الباب، نابع أيضًا من محاولة انتزاع مركزية العمل العربي إلى القضايا الخليجية، ولعل تلك هي نقطة الفصل بينها وبين بقية أضلاع المثلث، أي الإمارات وقطر، إذ إن كلتا الدولتين لا تبدوان حريصتان على استمرار النظام الإقليمي العربي من الأصل، وتفضلان نظام إقليمي شرق أوسطي على أنقاض النظام العربي، يكون داخل به كل من إيران وتركيا، وليس لديهما غضاضة في تفضيل المصلحة الشخصية على المصلحة الخليجية.
فبالرغم من كون الإمارات فاعلة بالحملة الحالية ضد سوريا أو “داعش” إلا أنها لا يعنيها إطلاقا مسألة التهديد الإيراني للخليج ولا ترى بإيران مهدد كما تراها السعودية، وكذلك الحال بين قطر وتركيا، وهذا هو أول محدد سيتم بناء عليه قياس إلى أي مدى سيصمد التقارب السعودي القطري الحالي قبل أن يتحول لتقارب إماراتي قطري.