مدينة حلب السورية واحدة من أقدم مدن العالم، تنبض بالحياة منذ قدم التاريخ، تعرضت لنكبات عديدة على مر العصور من تدمير وخراب بفعل الحروب والغزو والزلازل والأوبئة منذ الألف الثالثة قبل الميلاد ولا تزال، الدمار نفسه ولكن الفاعل مختلف! وفي كل الحالات كانت حلب تنهض من تحت الأنقاض وتستأنف دورة حياتها من جديد، وهي تنتظر اليوم وقف الهجمات الممنهجة عليها لتعود أفضل مما كانت.
حلب الحضارات القديمة والمتنوعة عليها والتي لوّنت المدينة بثقافات مختلفة أكسبها هذا التنوع في الحياة الثقافية والعرقية، تعد من أقدم المدن المأهولة بالسكان منذ الألف السادسة قبل الميلاد، فمن الحضارات الآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية حتى الحضارة الإسلامية بمن تعاقب عليها انتهاءً بالدولة العثمانية، كل قوم عاشوا في المدينة تركوا بصمتهم وأكسبوها عراقة وحضارة، وبرزت في العصر العباسي كعاصمة للدولة الحمدانية التي امتدت من حلب إلى الجزيرة الفراتية والموصل، واعتبرت ثالث مدينة في الدولة العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة، وأعلنت عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2006.
حلب نقطة استراتيجية عبر التاريخ الغابر تقع في منتصف الطريق بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد ما بين النهرين كونها في نهاية طريق الحرير الذي يمر عبر آسيا الوسطى وبلاد ما بين النهرين، خصوبة أراضيها الزراعية والحجارة الكلسية التي تكسب أبنيتها قوة وبقاء عبر الأزمنة أكسبها هذه المكانة العريقة عبر التاريخ، ومركزها التجاري بين أوروبا والشرق الأقصى أكسبها أهمية تجارية خالصة لكل من يحكمها ويعيش فيها، وقد حظيت بألقاب متميزة منها أثينا الآسيوية ولندن الصغيرة وباريس الصغيرة وأجمل مدن الدولة العثمانية وقلعة الشرق.
حلب العلم والثقافة والفن والفنون؛ إذ لا يُذكر الفن في الوطن العربي دون ذكر حلب، فلمع عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين في بلاط الدولة الحمدانية في العصر العباسي مثل الفارابي وابن سينا، وفي علوم اللغة العربية ظهر علماء معروفين مثل ابن خالويه وأبو الفتح بن جني، وفي الشعر برع المتنبي وأبو فراس الحمداني وغيرهم، ومن الأدباء المشهورين أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني وابن نباتة، ومن الجغرافيين ابن حوقل الموصلي صاحب كتاب المسالك والممالك، واشتهرت بالقدود الحلبية والموشحات الشهيرة في عالم الموسيقى، وهي مهد النشيد المعاصر الذي تميز بالمديح النبوي ومن أشهر رواده محمد أبو راتب وأبو الجود محمد منذر.
انتكاسة حلب التجارية
بدأت عقدة المواصلات والمركز التجاري وملتقى مسالك قوافل التجارة بين الشرق والغرب، انتكاستها سنة 1869 بعد تحول التجارة إلى البحر إبان افتتاح قناة السويس في مصر وبشكل تدريجي بدأ زهو حلب التجاري يتضاءل، وتلقت ضربة كبيرة عند سقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى إذ سُلخت منها أجزاؤها الشمالية وضمت إلى تركيا عام 1920 فخسرت التجارة مع تلك المدن التي كانت تاريخيًا تابعة لها مثل عنتاب ومرعش وأضنة ومرسين وخسرت السكك الحديدية التي كانت تصلها بالموصل في العراق، ومن ثم جاءت اتفاقية سايكس بيكو وفصلت العراق عن سوريا فأدى ذلك إلى كساد كبير في الاقتصاد الحلبي، وفي عام 1940 خسرت أيضًا منفذها الوحيد على البحر المتوسط عبر لواء الإسكندرون.
حلب ما قبل الأسد
في الخمسينات كانت حلب تغطي معظم الناتج الإجمالي المحلي عبر زراعة القطن وإنتاج النسيج في معامل حلب المزدهرة فيها آنذاك، وبقي الوضع هذا حتى نهاية الخمسينات، ويعرف جُل الاقتصاديين السوريين أن سوريا مرت بمرحلة اقتصادية مستقرة ومتقدمة على مستوى الوطن العربي ساهمت فيها الزراعة والتجارة والصناعة في رفع مستوى سوريا بين الدول وكان الفضل في هذا لمدينة حلب الحاضن الرئيسي لزراعة القطن ولمعامل النسيج والصناعات المختلفة الأخرى التي كانت ترفد الاقتصاد السوري.
حلب في حكم الأسد
تراجع موقع حلب السياسي في حكم الأسد بعد جعل دمشق عاصمة لسوريا وعلى الرغم من ذلك بقيت العاصمة الاقتصادية وأهم مدن سوريا التجارية ورافعتها المالية على الرغم من محاولات الأسد العديدة لاجتثاثتها من هذه المنزلة ونقلها إلى دمشق.
حافظت المدينة وسكانها على موروث التجارة التي أصبحت اسمًا متلازمًا لحلب ولأهلها، وتميزت بممارسة مختلف أصناف التجارة من النسيج لتجارة الحبوب والقطن والذهب والغذاء وغيرها، وساهمت في الاقتصاد السوري بشكل كبير إذ تعتبر 50% من الصادارت السورية أصلها من حلب، ونصف العمالة السورية الماهرة في مختلف المجالات موجودة بها، ومن أصل الناتج المحلي الإجمالي السوري تسهم حلب بالربع تقريبًا، ومن إجمالي الإنتاج الزراعي 13% منه تسهم فيه حلب، وتقدر حجم الاستثمارات الصناعية فيها 3.5 مليار دولار في أرضها البالغ مساحتها 18 ألف متر مربع ويبلغ عدد سكانها 5 مليون نسمة وبها ما يقرب من 35 ألف مصنع ومعمل ينتج مختلف المنتجات تبدأ بالنسيج والألبسة وليس انتهاءً بالمصوغات الذهبية والصناعات الغذائية والطبية، علمًا أن هذه المنشآت تشغل 94% من أبنائها.
حلب بعد الثورة السورية
دخل الريف الحلبي والمدينة في الثورة السورية بعد أشهر من انطلاقها في 2011 وطالها القصف والاقتحامات العسكرية من قِبل آلة النظام السورية مثل باقي المحافظات التي أدت لنزوح رؤوس الأموال المحلية ونقل المصانع والمعامل إلى دول عديدة أبرزها تركيا بحكم العامل الجغرافي القريب من المدينة، وتعرضت المناطق الصناعية في المدينة لقصف ممنهج أدى إلى تدميرها فضلًا عن إحراق المحاصيل الزراعية وتوقف عجلة الإنتاج بشكل شبه كامل.
تعرضت حلب في الأشهر العديدة الماضية لحملة قصف عنيفة من قِبل النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين، واعتبرت المدينة “منكوبة” لكونها متضررة في جميع مجالات الحياة بحسب الهيئة العامة لغرفة صناعة حلب التابعة للنظام السوري، وقد كشفت وزراة الصناعة السورية (التابعة للنظام) أن خسائر القطاع الصناعي في حلب بلغت 239 مليار ليرة أي نحو مليار دولار علمًا أن هذا الرقم يعد القيمة الدفترية لتلك المنشآت والأرقام الحقيقة تعد أكبر بكثير، إذ تقدر المعارضة السورية الخسائر الاقتصادية التي لحقت بحلب بأكثر من 55 مليار دولار موزعة على سرقة وتدمير منشآت وبنى تحتية، ولا يتجاوز عدد المنشآت الصناعية التي لا تزال تعمل 4 آلاف منشأة تقع في مناطق سيطرة النظام بينما قدرت قبل الثورة بـ 40 ألف منشأة موزعة على حلب وريفها.
ولم يبق من إجمالي المنشآت العاملة اليوم سوى 1065 منشأة كما يشير لذلك الصناعي محمد الدباغ، ومن تلك المنشآت 170 في مدينة الشيخ نجار من أصل 3392 منشأة في المدينة الصناعية قبل الثورة ونحو 360 منشأة بمنطقة الراموسة الصناعية من أصل 1370 وبعض المعامل والمنشآت في تجمع جبرين الصناعي.
توزعت جغرافية حلب بين فصائل المعراضة السورية ولا تزال هناك مناطق تابعة للنظام السوري ويسعى لبسط سيطرته على مناطق المعارضة بكل الأساليب المتاحة مستخدمًا كل أنواع العنف، ومناطق يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأخرى لقوات سوريا الديمقراطية (الأكراد)، كما تبينه الخريطة في الأسفل:
بحسب مصادر معارضة فإن اقتصاد المدينة تحول إلى اقتصاد حربي يعتمد على بعض الورش الصغيرة التي نجت من القصف والطيران الذي يستهدف المدينة منذ عام 2012 واشتدت وتيرته في الأسابيع الأخيرة، وفضلاً عن استهداف البنية الاقتصادية للمدينة فإن أحياء حلب شبه خاوية بعدما نزح أهلها إلى مناطق أخرى أكثر أمنًا أو هاجروا إلى تركيا وبلدان أخرى بعدما كانوا يمثلون ثلث سكان سوريا.
حلب الأحمر لا يليق بك
تلونت حلب في الأسبوع الماضي باللون الأحمر بفعل حملة عسكرية يشنها النظام وحلفاؤه عليها تستهدف ما تبقى من المدنيين ولم تستثن مشفى أو مدرسة، أدت لمقتل ما يقرب من 250 مدنيًا بينهم 20 طفلاً، وتركز القصف في أحياء الكلاسة والفرودوس والقاطرجي والفردوس والسكري والمشهد، كما تم استهداف مشفى القدس في حي السكري ومركز الرعاية الطبية في حي المرجة وسوق الهال – مركز لبيع الخضار – في حي الحلوانية، فضلًا عن تركز القصف على المنشآت الاقتصادية في المدينة مثل سوق بيع الألبسة في حي الجلوم وثلاثة معامل للأدوية والسوق الرئيسي في حي بستان القصر.
حلب كانت تتلون باللون الأحمر أثناء مباريات نادي الاتحاد في ستاد الاتحاد الرئيسي في حلب، ولكن اليوم حلب ملونة بحمرة الدم، دماء أبنائها ممن يروون ثراها الطاهر لينعم مستقبلها بالحرية التي ينشدهاعموم المجتمع السوري منذ انطلاق الثورة في 2011.