ترجمة وتحرير نون بوست
على حافة قلعة حلب القديمة، جلست زهراء وعائلتها القرفصاء في شقة كانت غير مرة عامرة وكبيرة، تقع على خطوط التماس مع مواقع المعارضة المسلحة، حيث تمت تغطية نوافذ الشقة الطويلة بغطاء بلاستيكي لحجب رؤية القناص الذي يستهدف المنطقة.
كانت زهرة، 25 عامًا، والتي عرّفت عن نفسها باسمها الأول فقط، تتنقل ما بين صورتين على هاتفها، الأولى تظهر زوجها ووالد طفلها غير المولود الذي تحمله ببطنها منذ سبعة أشهر، وهو جندي في الجيش السوري، أما الصورة الثانية، فتظهر زوجها مستلقٍ على الأرض والدماء تقطر من أنفه، وبجانبه يسلتقي جنديان آخران سقطا بمحاذاته، حيث توفي زوجها قبل أسبوعين فقط.
“أتمنى موت الرجال الذين كانوا مسؤولين عن موته”، قالت زهرة بإصرار هادئ.
بعد أربع سنوات قاستها في ظل حرب مريرة، تحجرت القلوب في حلب، وخلال الأسبوع الماضي، تحوّلت المدينة المقسّمة لمسرح قتال لا يرحم؛ فالهدنة الهشة، التي توسطت فيها الولايات المتحدة وروسيا، لاقت حتفها في سوريا، مفسحة الباب أمام ابتدار أعمال عنف تعد الأسوأ من بين التي شهدتها البلاد منذ شهور.
تقصف المقاتلات الروسية، التي يملأ هديرها سماء حلب، أهدافًا في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، وبالمقابل، يرد عناصر المعارضة بوابل من قذائف الهاون والصواريخ محلية الصنع التي تهبط في قلب أحياء حلب المزدحمة، هذا الوضع أشعل فتيل التوترات الطائفية، وأضحت المعركة السورية حربًا تجري بالوكالة عن المصالح الإقليمية والعالمية.
معظم القتلى الذين سقطوا في مدينة حلب هم من المدنيين، حيث سقط ما لا يقل عن 200 شخصًا خلال الأسبوع الماضي، ثلثاهم في المناطق الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، والباقي في الجانب الغربي الذي تسيطر عليه الحكومة، وذلك وفقًا للمؤسسات التي ترصد الإصابات في المدينة.
“يُظهر العنف الجاري الاستخفاف الوحشي بالحياة المدنية”، قال رئيس منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، زيد رعد الحسين، يوم الجمعة الماضي.
مدينة حلب، التي تعد من أقدم المدن المأهولة في العالم، والتي عُرفت على مدى قرون باعتبارها ملتقى الإمبراطوريات، والتي خضعت لنفوذ العثمانيين، الأرمن، اليهود، والفرنسيين، يصلها اليوم طريق واحد فقط؛ فبغية الوصول لحلب الغربية، يجب عليك المرور بطريق وحيد يقطع أراضٍ خطيرة، وهو عبارة عن طريق وعر يحاذي قرى مهجورة وتتخلله نقاط حكومية معزولة.
سافرت إلى قلب مدينة حلب مع مترجمي الخاص ومرافق من الحكومة السورية، حيث قطعنا الطريق الواصل إلى حلب بسرعة كبيرة، خوفًا من وقوع اشتباكات على طول الطريق الخطير الذي يسيطر عناصر المعارضة المسلحة على الأراضي الواقعة إلى شرقه، ويسيطر مسلحو داعش على الأراضي التي تقع إلى غربه.
مسعفة في مشفى الرازي الحكومي في حلب الغربية يوم الأربعاء بعد وصول عدد كبير من الإصابات نتيجة لاستهداف المعارضة لمناطق النظام.
أول مشهد قابلناه عند دخولنا إلى حلب، هو الأحياء الجنوبية المدمرة، ذاك الأفق من الدمار الذي أصبح صورة مألوفة للنزاع الذي امتد لعدة سنوات في سوريا.
كالعديد من مناطق الحرب، تعيش أجزاء أخرى من حلب حياة تشبه الطبيعية، حيث يوجّه عناصر شرطة المرور سير المركبات، يخرج الأطفال ضاحكين من المدارس، ويحتشد المتسوقون في المتاجر التي تبيع المواد الغذائية والعطور المقلّدة، وفي تلك اللحظة بدا المواطنون وكأنهم يتمتعون بمناعة غريبة من وقع خلفية أصوات التفجيرات، الدوي والحطام والانفجارات التي تشكل الإيقاع السريع القاتل لحياتهم اليومية.
هذا الموقف المتجاهل، يمثل شكلًا أكثر شراسة من أشكال لعبة الروليت في بلد أنهكته الحرب؛ فصفير الموت، القادم بشكل قذائف الهاون والصواريخ، قد يسقط من السماء في أي ركن من أركان المدينة وفي أي وقت، وخلال عشائنا الأول في أحد المطاعم الراقية في المدينة، هزنا أزيز إطلاق صاروخ، دوى صوته لثانية واحد قبل إطلاقه من حديقة مجاورة على ما يبدو.
سوق المدينة القديمة المترامي الأطراف، والذي يعود للعصور الوسطى ويعتبر أفضل سوق في العالم العربي وموقعًا للتراث العالمي كما صنفته اليونسكو، أضحى اليوم قفارًا، وفي أحد الشوارع المهجورة القريبة، جلست امرأة متعبة في محرس تابع لقوات النظام السوري، وشرحت لنا كيف كانت تعمل في تربية النمور في حديقة حيوان بضواحي حلب قبل 4 سنوات من الآن، تلك المرأة، التي عرفتنا عن نفسها باسمها الحركي، روز أبو جعفر، تحمل صورًا لنفسها وهي تحضن أسدًا، تلف حول رقبتها ثعبانًا، تقف بجانب دب، أو تسمح لشبل نمر أن يضع كفيه فوق رأسها.
خسرت جعفر مهنتها، التي عملت فيها لمدة تسع سنوات، عندما سيطر عناصر المعارضة على حديقة الحيوان قبل أربع سنوات، مما دفعها للانضمام للقتال ضدهم، وتخدم اليوم باعتبارها مقاتلة على خطوط الجبهة الأمامية.
لا تبعد أقرب نقطة لتمركز عناصر المعارضة سوى على 100 قدم من محرس جعفر، وفي تلك اللحظة التي قابلناها فيها كان الهدوء يعم المكان، ولكنها أوضحت بأن الحال من غير المرجح أن يستمر كذلك، وأضافت: “لا يجرؤون على الخروج إلا في الليل، إنهم كخفافيش الظلام الجبانة”.
بعد لحظات، سقطت قذيفة على مبنى مجاور يصم دويها الآذان، وهرعت سيارة إلى الشارع يقودها جندي آخر، وعلى الرغم من أن جعفر لم تجفل، لكنها نصحتني ومترجمي بمغادرة المنطقة.
بدأت الثورة السورية كاحتجاج ضد الحكومة القمعية للرئيس السوري بشار الأسد، الأسرة التي تحكم سوريا منذ 46 عامًا، ولكنها سرعان ما أججت توترات طائفية ومظالم تاريخية تعود بجذورها إلى سالف الزمان.
معظم السكان الأرمن في المدينة، والمعروفون بعملهم في صياغة الذهب، هربوا إلى أوروبا أو كندا، والعديد من أولئك الذين بقوا في المدينة، هم من أشد مؤيدي الأسد، ويعتبرونه أملهم الوحيد ضد المقاتلين الإسلاميين الذين لن يسمحوا لهم بالعيش في سلام.
يعيش القس اسكندر أسد، وهو كاهن تابع لطائفة الروم الأرثوذكس، في حي الميدان بحلب، وهو حي يجاور خطوط الجبهة الأمامية، وأضحى نصف مهجور اليوم.
قبل يوم واحد، سقطت قذيفة هاون في منزله، مخلفة ثقبًا في السقف، قضت زوجته تلك الليلة وهي تبكي، ولكنه لم يكن مهتمًا بالعواطف، “الأسف لا يكفي”، قال الكاهن، وتابع: “نحن بحاجة لحل، والأسف لا يحل أي شيء”.
من استهداف منطقة الميدان بحلب الغربي.
تقدمنا الكاهن ليقود الطريق إلى شقته الواقعة في الطابق الخامس،”الهدنة كانت قرارًا خاطئًا”، قال الكاهن أثناء نظره لغرفة منزله التي يتناثر فيها الغبار الناجم عن تحطم الجدران، وتابع: “ما الذي حصلنا عليه من الهدنة؟ لقد أفسحت المجال للإرهابيين للتجمع بمجموعات أكبر، وجمع أسلحة أكثر تطورًا، هؤلاء الناس مرتزقة، ولقد أعطيناهم الوقت لإعادة تنظيم صفوفهم، والآن نحن الذين نعاني، وليس هم”.
بشكل عام، لا يمكن لأي من الطرفين في حرب سوريا الطاحنة أن يحتكر المعاناة أو اللوم، فالمدنيون من كلا الطرفين يعانون ويقتلون.
مؤخرًا، واجه الأسد اتهامات جديدة بارتكاب جرائم حرب بعد أن استهدفت غارات جوية مستشفى القدس في حي السكري من حلب الشرقية ليلة الأربعاء، وبحلول يوم الجمعة، تم سحب 55 جثة من تحت الأنقاض، من بينهم 29 طفلًا وإمرأة، وفقًا لإحدى منظمات الإغاثة، كما استنكرت منظمة أطباء بلا حدود، التي كانت تدعم المستشفى المستهدف، استهداف القوات الحكومية له واصفة ذلك بالفعل “الشائن”.
صورة المشفى الميداني في حي السكري بعد استهدافه من قِبل طيران النظام السوري.
اعتاد السكان في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بحلب الخوف مما يسمى بـ”مدفع جهنم”، وهو صاروخ محلي الصنع يتكون من اسطوانات غاز البروبان المعدلة والمحشوة بالمتفجرات والمواد المعدنية، ويتم استخدامه من قِبل بعض عناصر المعارضة المسلحة، بما في ذلك المجموعات التي تتلقى المساعدات الأميركية.
لا يمكننا إنكار تعرّض كامل مدينة حلب، بجانبيها المعارض والمؤيد، للقصف والدمار، ولكن الحكومة السورية وحدها التي تمتلك الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر، والتي تستخدمها في النزاع بشكل عشوائي، محوّلة مساحات واسعة من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة إلى أنقاض.
عدم احترام الحياة المدنية هو السمة المميزة للنزاع بحلب؛ ففي يوم الخميس المنصرم، وبعد هجوم الحكومة على مسشفى القدس، أمطر عناصر المعارضة كل حي تسيطر عليه الحكومة في حلب الغربية تقريبًا بوابل من الصواريخ، مما أدى إلى ارتقاء عشرات الضحايا، حيث كانت سيارات الأجرة والإسعاف تتوافد متعاقبة لتسد مدخل مستشفى الرازي الحكومي في حلب الغربية، وذلك بالتزامن مع تهافت العائلات اليائسة من ذوي المصابين الملتحفين بالدماء والغبار، ومن بينهم العديد من الأطفال، إلى قسم الطوارئ.
أحد مصابي النظام السوري في مشفى الرازي.
وفي اليوم التالي، ردت القوات الحكومية بقصف ثلاث مرافق طبية في الجزء الشرقي من المدينة.
يتهم بعض السكان، ممن يعيشون في الجانب الحكومي للمدينة، الولايات المتحدة وحلفائها بالغضب الانتقائي، بحيث تغض الطرف عن تجاوزات حلفائها، كقطر والسعودية وتركيا، “مجلس الأمن يتبع سياسة الكيل بمكيالين”، قال القس إبراهيم نصير، وتابع: “إنهم لا يرون ضحايانا، يطلبون سوريا الديمقراطية، ولكنهم لا يرون الديكتاتورية في المملكة العربية السعودية وقطر”.
لا أحد يستطيع أن يحصي عدد سكان مدينة حلب، الذين كانوا يناهزون الـ2 مليون نسمة قبل الحرب، الذين غادروا المدينة؛ فالكثيرون فرّوا إلى أوروبا أو لبنان أو أجزاء أخرى من سوريا، وأولئك الذين بقيوا في حلب، يعانون في خضم العيش تحت رحمة أنظمة الكهرباء والمياه المؤقتة، لأن أي تصعيد في القتال يجلب معه احتمالية حدوث “كارثة إنسانية”، كما يقول فالتر جروس الذي يترأس اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مدينة حلب.
“الأيام تمر بشكل ثقيل للغاية حاليًا، والجميع يشعر بوطأتها بطرق مختلفة”، قال جروس، الذي ينحدر أساسًا من البوسنة، وتابع مشيرًا إلى هدوء الحلبيين في الشوراع بقوله: “من الغريب حقًا أن أسمع سقوط قذائف الهاون على مسافة ليست ببعيدة، في الوقت الذي يلعب فيه أطفال بكرة السلة خارج نافذة مكتبي”، وأضاف: “لكن الناس يحاولون أن يعيشوا بشكل طبيعي، يحاولون أن يكونوا على قيد الحياة، فعندما تغرق في آلية تأقلمك، ستنخفض عتبة إحساسك بالأمور التي يراها الناس في الغرب مرعبة، لأنك ستصبح معتادًا عليها، وهنا يكمن الخطر”.
انتهى حوارنا عندما سقطت قذيفة هاون في شارع قريب، حيث اهتزت نوافذ مكتب جروس بشدة، وقام بنقلنا مع الموظفين التابعين له إلى منطقة آمنة في وسط المبنى، الذي كان مسبقًا القنصلية التركية في حلب، وانتظرنا هناك لمدة 10 دقائق، ولكن سرعان ما خرجنا، سمعنا دوي انفجار قذيفة أخرى من الخارج.
يبدو بعض الحلبيين عازمين على المضي قدمًا في الحياة؛ فبعد ساعات قليلة من سقوط القذائف، تجمع نحو 100 شاب في أحد المطاعم لحفل زفاف صاخب، حيث تدفقت شمس المساء من الجدران الزجاجية إلى صالة الحفلة، وباشر الضيوف بتناول الفاكهة، تدخين النرجيلة، ورقص الدبكة، وحجب صوت الموسيقى المرتفع أصوات الانفجارات العرضية القادمة من الخارج.
احتفال بعض الشبان بحفل زفاف في أحد مطاعم حلب الغربية في ظل سقوط قذائف الهاون.
أُطلق على المطعم اسم ماتريوشكا، تيمنًا بالدمى الروسية الشهيرة، في إشارة إلى العلاقات التجارية طويلة الأمد مع روسيا؛ حيث يشير صاحب المطعم، نديم بساطة (27 عامًا)، بأنه وبعد أربع سنوات من الحرب، تعلم الحلبيون كيف يستمرون بحياتهم.
ولكن بعد ساعة من بدء الحفل، شهدنا تذكيرًا بمخاطر العيش تحت حكم القبضة الحديدية لنظام الأسد، حيث توقفت فرقة من رجال الاستخبارات العسكرية الذين يرتدون ملابس سوداء خارج المطعم، وأمسكوا ببساطة من قميصه، محتجين على سماحه لراود المطعم بالغناء والرقص في ذاك اليوم الذي شهد الكثير من العنف.
انتقل الحوار إلى طاولة على شرفة المطعم، حيث أكد بساطة للضابط الذي يقود المجموعة بأنه يؤيد جنود الجيش العربي السوري، “لا أريد أن أترك الإرهابيين يدمرون المدينة” قال بساطة للضابط، وتابع: “يجب أن تقتلوهم وتدعونا نعيش”.
بعد أن اقتنع بالجواب على ما يبدو، قبّل الضابط بساطة على خده الأيمن والأيسر، واستؤنف حفل الزفاف في الطابق العلوي حتى الليل، بالتوازي مع استمرار سقوط القذائف في شوارع حلب، التي يحاذي بعضها مطعم ماتريوشكا.
المصدر: نيويورك تايمز