عاد من كان يلقب بفتى العقيد المدلّل إلى مدينة طبرق مستفيدًا من قانون العفو العام الذي أقره مجلس النواب الليبي، واستقبل الطيب الصافي وهو أمين شؤون الاتحادات والنقابات والروابط المهنية بمؤتمر الشعب العام بليبيا زمن معمر القذافي من طرف أبناء عمومته في قبيلة المنفي استقبالاً مهيبًا ورحب به أعيان المنطقة الشرقية وبعض من أعضاء مجلس النواب، ورد الصافي بدوره التحية لكل هؤلاء ولكل من سمّاهم بالمحترمين دون أن يسهو عن شكر خليفة حفتر.
وقف الصافي خطيبًا في المتحلقين حوله وتكلم كثيرًا حول الوفاق وحول رص الصفوف وحول مصلحة الوطن، وعدا استنكاره تحكّم دولة في حجم قطر بمصير دولة بحجم ليبيا فإنه لم يقل أي شيء ذي بال، وعلى كل حال لم يكن ذلك موطن الأهمية فيما صرّح به علنًا، فموقف أتباع القذافي من قطر معروف واتكالهم في كل مرة على قضية تمدد الإرهاب في ليبيا للطعن في الثورة أيضًا معروف، بيد أن الأهمية كلها كانت فيما أسر به الصافي لعدد من مقرّبيه من أن مشكلة داعش في سرت ستنتهي بمكالمة هاتفية من أحمد قذاف الدم، وأحمد قذاف الدّم هذا هو ابن عم معمر القذافي المقيم بالقاهرة وصاحب التصريح الشهير عن مقاتلي تنظيم الدولة الّذين وصفهم بالشباب الأنقياء، باستثناء هذا التوصيف الغريب لمقاتلي تنظيم الدولة وباستثناء خطورة ما قاله الطيب الصافي عن ارتباط التنظيم في نسخته الليبية بأحمد قذاف الدم فإن تمركز التنظيم وتمدده بشكل واسع في هذه المدينة دون غيرها وهي التي تعدّ معقلاً لقبيلة القذاذفة يعدّ بدوره أمرًا مريبًا.
يتمركز تنظيم الدولة جغرافيًا في مدينة سرت الساحلية ويسيطر بشكل كلي على المدينة ويقيم البوابات والحواجز على أطرافها ويتخذ منها قاعدة لشن هجماته في الشرق والغرب، بيد أن المنطقة الغربية لا تبدو وفق عملياته الأخيرة ذات أولوية، إذ تتركز جل هجماته ومحاولاته للتقدم على منطقة الهلال النفطي الّذي لا يزال التنظيم يفشل المرة تلو الأخرى في تجاوز مقاتلي جهاز حرس المنشآت المكلفين بحمايته، ورغم أن هجمات التنظيم وقدراته عُدَةً وعتادًا لازالت أبعد من أن تشكّل تهديدًا لموازين القوى في الوضع القائم، ورغم أن أقصى ما يمكن للتنظيم فعله حاليًا لا يتجاوز التشويش على هذا الطرف أو ذاك، فإن وجوده في حد ذاته بالإضافة إلى عملياته القائمة على جانب كبير من المشهديّة الدموية مثل رصيدًا هامًا استغلّه اللواء المتقاعد خليفة حفتر ليثبّت من خلاله شرعية انقلابه وليجمِّعَ حوله بالاستناد على هذا المبرر في آن واحد قيادات نظام معمر القذافي ومناصري مشروع الفيدرالية الليبية الذي يقضي بتقسيم ليبيا لأقاليم ثلاثة ودعم الدول المناهضة للثورات كمصر والإمارات والأردن، ويستفيد حفتر من وجود التنظيم وانتشار جيوبه ليثبِّت في المشهد الليبي فرزًا مزيفًا تختزله ثنائية مع أو ضد الإرهاب.
فحفتر الّذي يقدّم نفسه في صدارة محاربي للإرهاب يرمي كل خصومه في السلاح أو في السياسة بالوقوف وراء الإرهاب وتغطي هذه الثنائية التي يعمل حفتر ومن ورائه كل مريدي مشروعه على تثبيتها على الفرز الحقيقي داخل ليبيا بين مساندي الثورة وأعدائها، فتحت مسميات مثل المصالحة الوطنية والوحدة بين أبناء البلد الواحد وإعلاء مصلحة ليبيا يوفّر مشروع الكرامة واجهة سياسية لضرب الثورة وللقدح فيها وتخوين قياداتها ورميهم بالعمالة للناتو أو للغرب، ويتسربل من خلال اعتبار الثورة مؤامرة على ليبيا أعضاد نظام القذافي في ثوب الوطنية كحماة للوطن من الطامعين والحاقدين، ليس آخر هؤلاء الطيب الصافي الّذي عاد منذ أيام كبطل قومي.
ما حدث بدرنة في الأيام الماضية من هزيمة لتنظيم الدولة المتحصن طوال ثمانية شهور بمرتفعات حي الفتائح على أيدي قوات مجلس شورى مجاهدي درنة جعل من ثنائية مع أو ضد الإرهاب التي بذلت وسائل إعلام ليبية مدعومة من دولة الإمارات وقتًا طويلاً وأموالاً طائلة في ترسيخها، هباءً منثورًا، فمجلس شورى مجاهدي المدينة الّذي يصمه حفتر بالولاء لتنظيم القاعدة والّذي يصفه مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة إبراهيم الدباشي بمجلس شورى مجاهدي القاعدة كان في طليعة الثائرين ضد القذافي وكان من الرافضين لمشروع الكرامة ومن المحاربين والطاردين لتنظيم الدولة من درنة ثم من الفتائح، وقام مقاتلوه مباشرة بعد فرار تنظيم الدولة بتطهير المكان من الألغام وبرفع علم الاستقلال، كما سبق لهذا المجلس أن عبر عن دعمه لحكومة الوفاق واستعداده للعمل معها ومساندتها.
يستمّد إذًا نموذج مدينة درنة تميّزه من خلال محافظة المدينة على جذوة الثورة مشتعلة بتمكنها من الصمود أما الإرهاب ومن إلحاق الهزيمة به وبتمكنها كذلك من الوقوف في وجه مشروع حفتر الانقلابي ومن صد محاولاته المستمرة لإضعاف المدينة وتركيعها.
الوعي السياسي المتقدم الذي أظهره مجلس شورى مجاهدي درنة بالإضافة إلى انتصاره ضد مقاتلي تنظيم الدولة بإسناد من ثوار مدينتي طبرق والبيضاء لم يرُق كثيرًا اللواء المتقاعد بل يبدو أنه أفسد عليه الطبخة التي كان يعدّها منذ أشهر، وكعقاب للمدينة الرافضة دخول بيت الطاعة قرر حفتر معاقبتها بقصفها بالبراميل المتفجرة 48 ساعة بعد أن نجح مجلس شورى مجاهديها في تحريرها من مقاتلي تنظيم الدولة، وتسبب هذا القصف الكثيف في سقوط قتلى وجرحى كثر بين سكان المدينة.
هذا التصعيد المفاجئ من قِبل حفتر ضد أهالي درنة لا يفسّر إلا بما بلغه عجز الرجل عن فك العزلة التي ضربها حوله الاتفاق السياسي، وفي الواقع فإن حركات حفتر الخائبة لم تقتصر على ما هو عسكري (سنعود لذلك في الجزء الثاني من المقال) وبمعزل عن فشله المتواصل منذ سنتين في السيطرة على بنغازي وفشله في تركيع درنة وفشله في إضعاف جهاز حرس المنشآت النفطية، يفشل حفتر من خلال مؤيديه في المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق علي القطراني وعمر الأسود في تحصين موقعه كقائد عام للجيش الليبي وهو يعلم تمام العلم أن فشله في تحصين موقعه يعني آليًا محاسبته على الجرائم التي اقترفها جنوده في المنطقة الشرقية والمذكورة بشكل تفصيلي في تقارير الأمم المتحدة كما يعلم تمام العلم أن السجون السرية التي فاحت رائحتها في منطقة المرج وطالت نشطاء ووجهاء كانوا في صفوف داعميه لا تخفى تفاصيلها لا عن الأمم المتحدة ولا عن المنظمات الحقوقية المراقبة للساحة الليبية ولا عن أهالي المنطقة الشرقية الّذين قام بعضهم بمداهمة بعض من هذه السّجون لتحرير أبنائهم، وقد صور أحدهم وهو الناشط عثمان بو الخطابية الّذي كان قيد الاختطاف تسجيلاً يروي فيه حيثيات اختطافه كما ظهر في نفس هذا التسجيل والده فرج بالخطابية ورئيس مجلس حكماء مدينة طبرق الّذين تحدثوا عن كيفية اكتشافهم لهذه السجون في منطقة المرج.
بفعل كل هذه التفاصيل وبفعل أخرى غيرها تزداد عزلة اللواء المتقاعد داخل المنطقة الشرقية نفسها التي تمثله معقله وحاضنته الشعبية.
البقية في الجزء الثاني …