منذ نشأتها عام 1948م، وبلاد الحرمين تنظر إلى الكيان الصهيوني المغتصب على أنه دولة معادية، لا يمكن بأي حال من الأحوال الدخول معها في أي مفاوضات أو حوار، وفي المقابل تنظر تل أبيب للرياض كونها أكثر الدول العربية عداءً معها، لاسيما وهي تمثل التيار السني الرافض للوجود اليهودي تمامًا على أي أرض عربية إسلامية، والمنبع الرئيسي لفتاوى الجهاد ضد بني صهيون لتحرير المسجد الأقصى من دنس اليهود.
وكما علمتنا السياسة أنه لا صداقة مستمرة ولا عداء دائم، بل هي المصلحة التي تحدد بوصلة الدول تجاه نظيراتها من الكيانات الأخرى مهما كانت درجة الخلاف السياسي والعقدي، وبعد مرور ما يقرب من 33 عامًا من الخصومة، ها هي تل أبيب والرياض تلتقيان سويًا ولأول مرة في التاريخ – بوساطة أمريكية – على أبواب مضيق تيران لإنقاذ سفينة صهيونية غارقة وذلك عام 1981م، ثم تعود أجواء العداء لتخيم على سماء الطرفين، إلى أن تم الكشف مؤخرًا عن جملة من اللقاءات السرية بين مسؤولي الجانبين، تناقشوا خلالها سبل التعاون – السري – في بعض الملفات الإقليمية، وصولاً إلى ما يتم الترويج له هذه الأيام من تحول هذه اللقاءات من نطاق السرية إلى أفق العلانية، فهل باتت السعودية على أبواب تطبيع علني مع الكيان الصهيوني؟
تاريخ من العداء
من خلال قراءة سريعة لأبرز الأحداث التي واكبت الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية نجد أن الموقف السعودي المعادي لهذه النبتة السرطانية التي زرعت في المنطقة قد ظهر مبكرًا، ففي حرب 1948م قاد الملك عبد العزيز آل سعود حملة قوية ضد الحكومتين الأمريكية والبريطانية وحملهما مسؤولية ما يقع في فلسطين، وأمر بفتح أبواب التطوع لنصرة الشعب الفلسطيني، كما قام بإرسال مجاهدين سعوديين وقوات عسكرية وشحنات من الذخائر والبنادق إلى الثوار في فلسطين، ومنح الملك فاروق نياشين لعدد من الضباط والجنود السعوديين تقديرًا لما قدموه من بطولات وشجاعة في المعارك التي خاضها الجيش السعودي.
في حرب 1956م، جاءت التصريحات الخالدة للملك سعود في جريدة البلاد والتي قال فيها “لقد عاش آبائي وأجدادي عشرات السنين يركبون الجمال والخيل ويأكلون التمر، وفي سبيل العروبة فنحن مستعدون للتضحية بكل شيء حتى لو أدى ذلك إلى العودة للصحراء على الخيل والجمال، فالعزة والشرف مع الجوع خير من الرفاهية مع الذل”، لتؤكد على عروبة الانتماء لبلاد الحرمين، حيث قطع إمدادات النفط عن بريطانيا وفرنسا، ومنع جميع السفن البريطانية والفرنسية وغيرها المتجهة بحمولتها من النفط السعودي إلى هذين البلدين، كما تحرك الجيش السعودي إلى الأردن ليكون قريبًا من ميدان الحرب، وافتتحت مكاتب التطوع في جميع أنحاء المملكة، كما وضع عشرة ملايين دولار في البنوك المصرية لزيادة رصيد مصر من العملة الصعبة، وقام أيضًا بشراء منتجات مصرية بالدولار، وقطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا مما أدى إلى التأثير على موارد المملكة من جراء حظر البترول (بمبلغ 300 مليون دولار سنويًا) وخسارة 50 مليون دولار من جراء إغلاق قناة السويس، وقد تسبب حظر البترول عن فرنسا وبريطانيا إلى الاستغاثة بأمريكا وحلف الناتو، لكنهما رفضوا، مما دفع لندن وباريس للانسحاب من الحرب سريعًا.
وفي حرب 1967م شارك الجيش السعودي مع الجبهة الأردنية في معركة الكرامة وغور صافي، قدم خلالها عشرات الشهداء فضلاً عن المعونات الاقتصادية التي قدمت لمصر والأردن وسوريا، وفي حرب 1973م قامت السعودية بإرسال 3 آلاف جندي وفوج مدرعات ومظلات وبطارية مدفعية، إضافة إلى مدرعات لواء الملك عبد العزيز الميكانيكي (3 أفواج)، بالإضافة لأسلحة دعم أخرى إلى سوريا.
وبالرغم من عدم مشاركة القوات السعودية على الجبهة المصرية في حرب العاشر من رمضان نظرًا لأن الرئيس أنور السادات أبلغ الملك فيصل نيته شن الحرب دون إطلاع أحد على التوقيت؛ مما دفع القوات السعودية للتحرك والمساعدة مع القوات السورية التي قاتلت في مقاومة عنيفة مع القوات الإسرائيلية في ملحمة تل مرعي والتي تصدت لها قوات البلدين، وبعدها قرر الملك فيصل حظر النفط عن الدول الغربية والمتعاونة مع إسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وفي هذه الأثناء أرسل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وزير خارجيته هنري كيسنجر إلى الملك فيصل بغية إثنائه عن قراره بقطع البترول عن دول الغرب ورفض الملك فيصل حينها مما كان له أبلغ الأثر في الانتصار المصري العظيم على الكيان الصهيوني الغاشم.
“اولندي ماعوف” وإرهاصات التطبيع
منذ عام 1948م وحتى 1980م، ظلت المملكة العربية السعودية العدو اللدود للكيان الصهيوني المغتصب، حيث شنت تل أبيب عبر أبواقها الإعلامية في الداخل والخارج هجمات وحملات شرسة ضد نظام الحكم في المملكة، واعتبرته معاديًا للسلام، لاسيما بعد إدانة الرياض للقاهرة وقطع العلاقات معها عقب توقيع معاهدة كامب ديفيد.
استمر الوضع على هذا الحال حتى منتصف عام 1981م، حين ضلت سفينة صواريخ إسرائيلية طريقها بسبب عطل فني، وعبرت مضيق تيران صوب شواطئ السعودية، بینما كانت فی طریقها من حیفا إلى إیلات، وعلى الفور قامت الولایات المتحدة بالتوسط بین إسرائیل والمملكة العربية السعودية للسماح بإنقاذ السفینة.
وعلى الفور تحرك طاقم من القوات الخاصة السعودية والإسرائيلية لإنقاذ السفينة، فيما أطلق عليه حينها عملية “أولندي ماعوف”، واستمرت عملية الإنقاذ ما يقرب من 62 ساعة، ليكون بذلك أول تعاون مشترك بين الرياض وتل أبيب منذ نشأة الأخيرة، وقد ظلت العملية سرية حتى كشفت عنها صحيفة “هآرتس” العبرية في عام 16 أبريل 2016.
إيران ونقطة التحول
المملكة التي دومًا ما تفاخرت بأنها الدولة العربية الوحيدة التي لم تتورط في فخ التطبيع مع الكيان المغتصب منذ نشأته، سرعان ما عادت خطوة للوراء قليلاً، لتعيد النظر في سياساتها تجاه تل أبيب بداية الألفية الثالثة، لاسيما بعد تعاظم دور إيران الإقليمي، والذي تمثل في دعم حزب الله والمقاومة اللبنانية وانتصارها في حرب 2006 على إسرائيل، حيث شهد عام 2008 سيل غير مسبوق من التصريحات الإيجابية لمسؤولين سعوديين تجاه تل أبيب، على رأس هؤلاء المسؤولين، الأمير تركي الفيصل، الذي يعد “عرّاب” التقارب السعودي – الإسرائيلي، حيث ضمن ما دعا إليه في هذا التاريخ إدماج إسرائيل جغرافيًا مع دول المنطقة، وغيرها من التصريحات والدعوات التي جوهرها انتهاء عداء السعودية مع الكيان، والتي جاءت بمثابة الصدمة للكثير من السعوديين إلا أنها قد أعطت مؤشرًا أن الإمبريالية السعودية تفوقت على المعتقد، وباتت المصلحة فوق كل اعتبار.
الرياض وتل أبيب جمعتهما عدد من الملفات المشتركة والتي كان لها التأثير القوي في تقريب وجهات النظر بين الجانبين، أول هذه الملفات القلق من تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، والذي يهدد عرش آل سعود فضلاً عن زعزته لأمن واستقرار تل أبيب، كذلك المشروع النووي الإيراني والذي يزيد من قوتها الإقليمية بما يجعلها قوة لا يستهان بها في المنطقة وهو ما لا تقبله الرياض فضلاً عن تل أبيب، إضافة إلى تطابق الرؤى في بعض القضايا الشرق أوسطية نسبيًا منها الموقف من نظام بشار الأسد، حيث يتفق الجانبان على ضرورة الإطاحة بالأسد خارج المشهد السياسي بالكامل.
هذه الرؤى المشتركة ساهمت بشكل كبير في التقليل من حجم الهوة بين البلدين، وهو ما انعكس في حجم اللقاءات الرسمية وغير الرسمية بين مسؤولي الدولتين في الآونة الأخيرة، حيث شهد 2010 لقاء رئيس جهاز الاستخبارات السعودي سابقًا تركي الفيصل مع الوزير الأمني الصهيوني داني إيالون على هامش مؤتمر للأمن في مدينة ميونخ الألمانية، وتميزت هذه المرحلة بإيفاء شؤون الأمن ومكافحة الإرهاب أولوية تجمع بين الدولتين وستار لتنمية علاقات علنية بينهما، ولكن سرعان ما تغير الخطاب منذ 2011 وبات رسميًا الجامع الأهم بين السعودية وإسرائيل هو كيفية مواجهة الخطر الإيراني، وهو ما تجسد في انتقاد الرياض وتل أبيب لسلوك إدارة أوباما تجاه الملف النووي الإيراني، انتقاد وصل إلى حد التلميح ومنذ 2012 باللجوء إلى عمل عسكري مشترك ضد طهران، وهو ما يعني أن حافزًا هامًا – ولو بشكل مؤقت – أضيف إلى قائمة دواعي وحوافز التوافق والتقارب بين الدولتين.
وكثفت الرياض من جهودها لتسويق الفكرة التي تقول إن إيران أخطر على السعودية من إسرائيل، وهو ما لاقى قبولاً لدى الإدارة الصهيونية، وبات الخطاب الطائفي المغلف بالسياسي هو الأكثر سيطرة على مخرجات الإعلام السعودي، لتسحب الرياض البساط من تحت الدوحة في القيام بدور الوساطة بشأن التقارب في العلاقات بين دول التعاون الخليجي والكيان المغتصب.
ثم جاءت تصريحات رجل الأعمال السعودي الوليد بن طلال في حوار له مع شبكة “بلومبرج” الأمريكية نهاية 2013م، بشأن نقاط التلاقي بين بلاده وبين إسرائيل من وجهة نظره لتبلور الرؤية السعودية تجاه التقارب مع تل أبيب، وتمهد الخروج للعلانية بعد سنوات من السرية التامة.
تيران وصنافير… وحفظ ماء الوجه
العديد من الأسئلة فرضت نفسها مؤخرًا أمام خطوة تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، كان أهمها: لماذا ألحّت الرياض للحصول على الجزيرتين في هذا التوقيت بالذات بالرغم من التغاضي عنهما طيلة خمسين عامًا؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد وأن نعرج سريعًا على خريطة التحالفات الإقليمية في المنطقة حتى نقف على الأسباب الحقيقية التي دفعت بلاد الحرمين لاسترداد تيران وصنافير إن سلمنا أنهما ليست مصريتين.
من الواضح أن الولايات المتحدة ومنذ ثلاثة أعوام تقريبًا وحتى الآن، باتت ترى في طهران حليفًا هامًا، لامتلاكها أوراق القوة في سوريا، فضلاً عن علاقتها بموسكو وما يمكن أن تحمله من انفراجة دبلوماسية بين القطبين المتصارعين، إضافة لامتلاكها أوراق القوة للسيطرة على الوضع العراقي، ومساعدة الولايات المتحدة في القضاء على داعش.
هذا التقارب بلا شك لم يرض الرياض، مما دفعها للبحث عن تحالف جديد يضمن لها أمنها واستقرار نظامها، لأجل ذلك ربما كان السعي السعودي للانضمام لكامب ديفيد في غاية الأهمية، وذلك لعدة أسباب منها، حصولها على ذريعة جيدة للتعاون والتطبيع مع تل أبيب تحت دعاوى التنسيق الأمني في خليج العقبة، إضافة إلى إيمان المملكة أن إسرائيل هي الطرف الأكثر تأثيرًا في القرار الأمريكي، وهو ما تنظر إليه الرياض بعين الاعتبار لاسيما فيما يتعلق بتوجهات واشنطن حيال طهران، وأن أمنها يأتي دائمًا في المقام الأول؛ ومن ثم جاءت معاهدة ترسيم الحدود بين مصر والسعودية والتي ألزمت القاهرة بإعادة الجزيرتين للرياض بمثابة “قشة الإنقاذ” التي تسمح لنظام آل سعود بالتواصل والتباحث مع تل أبيب دون القلق من أي رد فعل سلبي قد يوجه لها.
هل تكشف الرياض علاقتها بإسرائيل؟
منذ مبادرة السلام السعودية الشهيرة عام 2002م، ونصّبت الرياض نفسها مع تل أبيب الدعامتين الرئيسيتين للسياسيات الأمريكية في المنطقة والقائمتين على رعايتها وحمايتها، وهو الأساس الذي رسم ملامح العلاقة بين واشنطن وحليفتيها في المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
والملفت للنظر أنه منذ العام الماضي دخلت العلاقات بين الدولتين نطاقًا غير مسبوق من التواصل والإيجابية، تجسدت في عقد العديد من اللقاءات والاجتماعات، منها مناظرة بين المخابراتي الصهيوني عاموس يادلين والأمير السعودي تركي الفيصل حول ما تمثله إيران من خطورة للدولتين، كذلك مشاركة بعض المسؤولين السعوديين في مؤتمر عُقد في تل أبيب أوصى بضرورة إنهاء العداء بين إسرائيل والدول العربية، إضافة إلى الحث على العمل معًا لمواجهة الإرهاب الإيراني، وهو الأمر الذي عكس مدى تعجل الرياض لقبول داخلي وعربي لمسألة تطبيع العلاقات مع تل أبيب، تمثل في الدفع بعدد من التوصيات والمقالات واستطلاعات الرأي التي تسير في هذا الاتجاه على حساب إيران.
كما تم الإعلان مؤخرًا – حسبما أفادت بعض المصادر – عن عدة لقاءات علنية جرت بين مسؤولين أمنيين على هامش مؤتمر المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية والذي عقد بالعاصمة الأمريكية واشنطن منذ شهر تقريبًا، وحسبما أشارت شبكة “بلومبرج” الأمريكية فإن لقاء جمع بين اللواء في الاستخبارات السعودية أنور ماجد عشقي، ودوري جولد المسؤول السابق في الموساد، كان بمثابة التتويج لخمسة لقاءات “سرية” سابقة، عقدت في إيطاليا والتشيك والهند، شملت تبادل معلومات استخباراتية تتعلق بإيران وبرنامجها النووي.
وكشف موقع “واللا” الإسرائيلي النقاب عن لقاء سيجمع رئيس المجلس القومي ومستشار رئيس حكومة الاحتلال لشؤون الأمن القومي السابق الجنرال يعقوب عميدرور، مع رئيس جهاز الاستخبارات السعودي سابقًا الأمير تركي الفيصل، خلال الشهر الجاري في العاصمة واشنطن، وسيكون النقاش علنيًّا بمشاركة جمهور في مؤتمر ينظمه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط “WINEP“، تحت عنوان “السلام والأمن في الشرق الأوسط”.
مما سبق يتضح أن الإمبريالية الصهيونية التي وجدت تحول دفة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران وروسيا في الآونة الأخيرة بسبب تقارب وجهات النظر حيال بعض الملفات الإقليمية التي تمثل أهمية بالغة لدى واشنطن، دفعتها للبحث عن حليف جديد، قادر على تعويض هذا الدور المفقود، ولديه نفس الرغبة في التصدي للمشروع الإيراني وعرقلة كافة مخططاته، فلم يجد الكيان الصهيوني أفضل من الدول العربية وعلى رأسها بلاد الحرمين لتشغل هذا المكان، فهل تدفع “الإمبريالية” الرياض إلى الإعلان صراحة عن تطبيع سياسي واقتصادي وأمني مع الكيان الصهيوني استنادًا إلى تطابق الرؤى في بعض الملفات المشتركة دون النظر لأي اعتبارات عقدية أو دينية؟