في الأيام العشِر الأخيرة، شهد الشارع العراقي اعتصام عدد من نواب البرلمان داخل مبنى البرلمان، بدعوى رفض الفساد والمحاصصة الطائفية، بعد أن رفضوا التوقيع على وثيقة إصلاحات “العبادي”، تراشق البرلمانيون بقناني المياه ثم شاهدناهم في مشهد مخزي وهم جالسون على الأرض لتناول وجبة العشاء، في مشهد فوضوي لا يليق بنواب، لينتهي اليوم بصور السادة الأعضاء بملابس النوم والوسادات، قبل أن يناموا داخل البرلمان، “جلابية party” كما أسماها الشباب.
جاءت حلقة “البشير شو” ساخرة من كل هذه المواقف، بأسلوب كوميدي خفيف لم يحتج القائمون على البرنامج لبذل الكثير من الجهد فيه، نظرًا لسلوك أعضاء البرلمان الذي يمكن وصفه بأحسن تقدير بالمهزلة.
ما كان من الحكومة العراقية إلا أن تصدر قرارًا بوقف بث برنامج البشير على قناة السومرية، بدعوى مخالفته أصول المهنة، في محاولة بائسة للتغطية على ما يحدث، فهل ستنجح الحكومة بقمع الكوميديا الساخرة؟
تجربة “البشير شو“ خير دليل على فشل مساعي الحكومة بمحاولة القمع، بدأ البرنامج في 2014 على قناة الشاهد ثم أوقف بعدها، فنقله صناعه إلى اليوتيوب، ليبث منه بنجاح الى منتصف شهر نيسان الجاري الذي أعاد البرنامج من جديد إلى شاشة التلفاز، وتحديدًا قناتي “السومرية” العراقية، و”دوتشيه فيله” الألمانية، ليصدر قرار إيقافه من التلفاز مجددًا بعد حلقتين فقط.
مع أن البشير شو قد يبدو كبرنامج كوميدي بحت للوهلة الأولى، إلا أنه ليس كذلك، يهدف البرنامج لنبذ الطائفية عن طريق محاربة رموزها السياسية، المتمثلة بقادة الكتل والأحزاب الدينية في العراق.
قد يكون البشير شو هو البرنامج الساخر الأكثر شهرة وشعبية في العراق، إلا أنه ليس الوحيد، ففي مطلع العام 2016، ظهر برنامج سياسي ساخر آخر “ولاية بطيخ” على قناة “هنا بغداد” وحقق نجاحًا كبيرًا في وقت قياسي، انتشرت المقاطع الأولى من البرنامج كمقاطع ساخرة من “داعش” فحظيت بشعبية كبيرة وتناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لتنتشر بعد ذلك مقاطع شخصية “الحجي” وجملته الشهيرة “الله أكبر عليكم” فتحقق نجاح أكبر للبرنامج، إلى أن أصبح اليوم المنافس الشرعي للبشير شو.
بالإضافة إلى البرامج التليفزيونية، استخدمت الكوميديا الساخرة في مجال الاستاند آب كوميدي، أو ما يعرف بـ “كوميديا الارتجال” في فن حديث نسبيًا على الساحة العراقية والعربية، يقوم المؤدي بإلقاء النكات على الجمهور أو تناول موضوع أو قضية بطريقة ساخرة، من أجل إيصال وجهة نظر إلى المتلقي.
اشتهر أحمد وحيد بعد انتشار مقطع ستاند آب كوميدي له، يقوم فيها بتقليد رؤوس الحكومة العراقية بطريقة ساخرة، لتلاقي المقاطع التي ينشرها رواجًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، كان آخرها أداء ساخر ومحور لأغنية “مدرسة الحب”، لخص فيها أحمد وحيد كل ما يحدث في الشارع العراقي في الآونة الأخيرة.
مع أن السخرية في البرامج التلفزيونية أو مقاطع الفيديو على اليوتيوب لها الأثر الأكبر على المتلقي، إلا أن الرسوم الكاريكاتورية الساخرة لم تسلم هي الأخرى من محاولات القمع، في الأيام القليلة الماضية، نشر رسام الكاريكاتير أحمد فلاح رسمة ساخرة بعنوان “العشاء الأخير” على طراز لوحة لدافنشي بالاسم نفسه تمثل العشاء الأخير للسيد المسيح، إلا أن الرسام وضع أبرز ساسة العراق في الرسمة، كطريقة منه لقول أن أيامهم باتت معدودة في الحكم.
أثارت هذه الرسمة موجة جدل كبيرة أدت في نهاية المطاف أن يزيل فيسبوك صفحة الرسام الشخصية، التي يقوم من خلالها بنشر رسومه، أما المستاؤون من الرسمة فكانوا قسمين، قسم يرى في تشبيه الرئيس بالمسيح عليه السلام كفر وإهانة لشخصه المقدس، بينما يرى آخرون إن تشبيه العملية السياسية بالعشاء الأخير إهانة للشخصيات المرسومة، يشاع أن الرسام قد تلقى تهديدات بالقتل بعد هذه الرسمة!
في ظل الظروف المتردية التي يشهدها الشارع العراقي، باتت السخرية هي السلاح السلمي الوحيد الذي يواجه به الشباب كل ما يجري في العراق، لكن السلطات تحاول القمع، كمحاولة بائسة للحفاظ على “هيبة الدولة” المتمثلة بشخوص السياسيين الفاقدة للهيبة.
مع الثورة في وسائل التواصل، بات من المستحيل أن يتم منع تداول الرسوم أو البرامج أو حتى الأشعار الساخرة، فعلى الرغم من إزالة صفحة الرسام أحمد فلاح من الفيسبوك، إلا أن عملية استعادتها أو إنشاء صفحة جديدة أمر غاية في السهولة. وعلى الرغم من التهديدات المستمرة لكادر البشير شو وإيقافه لأكثر من مرة، لم يمنع كل هذا استمرار الحلقات على اليوتيوب، لا بل وازدياد أعداد المشاهدات يوميًا.
محاولات إيقاف البشير شو، وحملات تشويه السمعة والتخوين، لم تمنع أحمد وحيد من اعتلاء المسرح وحيدًا لأداء عرض ساخر من الحكومة، وكل ما حدث ويحدث لن يمنع الشباب من تصميم وتداول رسوم الكوميكس والكاريكاتير الساخرة؛ لذا يبدو أن على العراق أن يتقبل الكوميديا الساخرة بنفس رحابة الصدر التي يتقبل بها من يسعى جاهدًا لقمعها.