“الشعب يريد إسقاط النظام” هذا الهتاف الخالد في أذهاننا وفي التاريخ، والذي بدأ يتردد مرة أخرى في شوارع مصر الفترة الأخيرة، هتاف إذا ما أضيف إلى شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” يمكنك من استيعاب أهداف ثورة الخامس والعشرين من يناير بشكل جيد، شعاران يحملان في طياتهما الدافع المركزي خلف الثورة وهو الرغبة في التغيير، لذا يمكن الإشارة إلى الثورة أنها “فعل أو آلية تهدف لإحداث تغيير”، لذا فالثورة في حد ذاتها ليست غاية وإنما هي إحدى الوسائل لتحقيق التغيير المطلوب.
وكما أشرنا في المقال السابق أننا إذا كنا نريد للموجة الثورية القادمة النجاح فعلينا أن نتعلم من أخطاء سابقاتها ونبدأ مبكرًا في طرح الأسئلة المتعلقة بالتغيير المنشود والمرجو، فشعارات كـ “الشعب يريد إسقاط النظام” أو “عيش حرية عدالة اجتماعية” هي شعارات فضفاضة تصلح لاستثارة الهمم وتعبئة الحشود ولكنها لا تصلح لإدارة الحراك وتحقيق أهدافه، فإن لم يتم تعيين ما المقصود بالنظام تحديدًا وفهم بنيته التي نريد إسقاطها وأي حرية هي المقصودة والمتفق عليها وما شكل العدالة الاجتماعية المرجوة في مصر وأي فلسفة دافعة لها، لن نستطيع تحقيق أي من هذه المطالب وستبقى مجرد شعارات رنانة تساعد على شحذ الهمم واستثارة النفوس.
مرة أخرى لن أقدم أكثر من مجرد أسئلة في هذا المقال وقد لا أقدم جديدًا يذكر غير إعادة طرح الأسئلة البديهية والمتعارف عليها بترتيب معين في وقت نحتاج فيه إلى إعادة طرح مثل هذه الأسئلة، ولما كان التغيير هو الأصل ابتداءً، فسأبدأ باستعراض تصنيفات للتغير ثم أطرح مجموعة من الأسئلة حول مفهوم التغيير نفسه.
أولاً: أنواع التغيير المجتمعي
الحركات المجتمعية والتغيير، أبيرلي 1967
يتحدث أبيرلي عن الحركات الهادفة للتغيير في المجتمع ويقوم بتصنيفها وفقًا لمؤشرين الأول هو طبيعة وحجم التغيير الذي تسعى إليه الحركة، والثاني هو الشرائح المستهدفة من هذا التغيير كما هو موضح بالشكل أعلاه، وسأهتم هنا بالإشارة إلى الحركات التي تهدف إلى تغيير شامل يمس كل شرائح المجتمع لأن ذلك هو الأقرب لوصف التحركات في الشارع المصري، فهي ليست حركات تستهدف شريحة معينة من المجتمع كحركات حقوق المرأة أو حقوق السود وخلافها من الحركات التي كانت تهدف إلى تحقيق أهداف خاصة لشرائح بعينها، ولما كانت الموجات الثورية في مصر تستهدف وتهتم بكل شرائح المجتمع فأنا هنا استعرض نوعين من التحركات والتي وصفها أبيرلي بالحركات الإصلاحية والحركات الثورية.
وهنا يتدخل المؤشر الثاني في التفريق بين النوعين، ألا وهو طبيعة وحجم التغيير؛ فالحركات الإصلاحية تهدف في الأغلب إلى تغيير محدود قد يتمثل في تغيير قانون أو مواد في الدستور، إلغاء قرار رئاسي أو وزاري مثلاً، إقالة أحد المسؤولين… إلخ دون التعرض لبنية النظام نفسها، أما النوع الآخر من الحركات الثورية هي التي تستهدف إحداث تغيير راديكالي شامل يمس بنية النظام نفسه، وبالطبع فإن كل نوع من هذه التحركات له خصائصه البنيوية التي تميزه عن الآخر والأهم هو تكلفة هذا الاختيار وثمنه.
لذا وبالعودة إلى الحراك الحالي في مصر فإن أسئلة تتعلق بأهداف الحراك تعتبر ضرورية لاختيار أي نوع من التحركات وآليتها وحساب ثمنها والأهم من ذلك عندي هو ضبط التوقعات الخاصة بهذا الحراك؛ فمثلاً إذا كان الاختيار هو استغلال دورة الاحتجاجات القادمة من أجل الحصول على بعض الإصلاحات كالإفراج عن المعتقليين أو إلغاء قانون التظاهر أو إلغاء اتفاقية بيع الجزر أو حتى تغيير شخص السيسي نفسه فقط فتظل هذه المطالب تقع تحت بند التغيير المحدود، وعليه فإن الهدف من هذه الاحتجاجات هو الضغط على السلطة القائمة أو اللعب على الأجنحة المتصارعة داخل النظام، وبالتالي يمكن فهم دعوات كالتي أطلقها المهندس يوسف ندا (الأناضول – 24 أبريل 2016) وفهم خلفيته، فالرجل يرى ما يحدث في مصر في إطار حركات واحتجاجات تهدف إلى إجراء مجموعة من الإصلاحات داخل بنية النظام نفسه أهمها عنده الإفراج عن المعتقلين السياسيين وإيقاف القمع السياسي الممارس ضد جماعته، ويأتي في نفس السياق الدعاوى التي أطلقها الشباب لقيام صدقي صبحي بانقلاب على السيسي، فمثل هذه المطالب حتى وإن كانت هزلية فإنها تعني أن من يطالب بها قد قام بقراءة المشهد على أن سقف الطموحات لهذه التحركات هو مجرد إجراء إصلاحات داخل النظام لا أكثر.
وإذا كان هذا هو الاختيار الحاكم للموجة الثورية القادمة فإن أي تحركات لها طابع أكثر راديكالية مثل الدعوة لاعتصام مفتوح أو إضراب عام أو الزحف والسيطرة على مؤسسات الدولة الرئيسية تعتبر نوع من أنواع العبث والمخاطرة برفع أثمان مثل هذه المطالب.
أما إن كان الخيار لهذه الموجة الثورية القادمة هو التمسك بمطالب أكثر راديكالية لها علاقة بتغيير بنية النظام المصري نفسه فحينها يجب التخلي عن ميكانيزمات الحركة العادية سواء المظاهرات والمسيرات وخلافه والاستعداد لدفع أثمان باهظة والتمسك بمثل هذه المطالب وتلافي أي محاولة للالتفاف عليها، وللمساعدة في تحديد الاختيار نستعرض التصنيف الثاني لمفهوم التغيير وهو مستويات التغيير.
ثانيًا: مستويات التغيير
إذا كان الاختيار هو التغيير الرديكالي عن طريق حركة ثورية أعم، فإن سؤال ما الذي نريد تغييره وأي مستوى من التغيير يصبح سؤالاً ملحًا، وللإجابة عليه أود الإشارة إلى مفهوم النموذج.
Paradigm
ويمكن تصور هذا النموذج على شكل مخروط تمثل قاعدته العليا الفكرة المركزية الحاكمة، ثم يأتى المستوى الأدنى منه وهو مستوى القيم الحاكمة، ثم مستوى التنظيرات والنماذج الإدراكية، ثم المستوى الأدنى وهو مستوى إدارة الواقع، وقاعدة المخروط الدنيا هي مستوى الأدوات التنفيذية المتفاعلة مع الواقع والمشكلة له، ويعتبر كل مستوى انعكاسًا أو تجليًا للمستوى الأعلى منه، فعلى سبيل المثال يمكن طرح النموذج الغربي (المنظومة المادية) على أنها منظومة تنبع أساسًا من فكرة مركزية وتصور معين عن الوجود، فيه الإنسان موجود من العدم، ينتج عن هذه الفكرة مجموعة من القيم الحاكمة (الحرية، المتعة، المساواة… إلخ) ومنها تنبثق مجموعة من التنظيرات والنماذج الإدراكية لها علاقة بفلسفة العلوم ككل والتنظيرات السياسية والاقتصادية ومصطلحات مثل الليبرالية والاشتراكية ومفهوم السيادة… إلخ)، ثم يأتي المستوى الأدنى والمرتبط بآليات إدارة الواقع وفقًا لهذه النماذج الإداركية مثل شكل وهيكل الدولة الإداري ومنها في المستوي الأخير تأتي الآليات وأدوات التنفيذ والتداخل مع الواقع كالقوانين وخلافه، وكل مستوى يمكن بسهولة تتبع أثر المستويات الأعلى منه في تكوينه وتركيبه.
وعلى أهمية القاعدة العليا أو الفكرة المركزية الحاكمة والتي تبنى على أساسها بقية المستويات إلا أن المستويات الأدنى تكون أكثر تعقيدًا لأنها تتفاعل مع متغيرات كثيرة مرتبطة بعوامل كالزمن وتراكم المعرفة، فعلي سبيل المثال يمكن الإشارة إلى الفكرة المركزية في النموذج الإسلامي بسهولة إلى كونها فكرة “التوحيد” في مقابل فكرة الوجود من العدم في النموذج الغربي، ويمكن أيضًا استنباط العديد من القيم الحاكمة (العبودية، الاستخلاف، العدل… إلخ) وقد نتمكن بمجهود ليس بقليل من إيجاد مجموعة من النماذج الإدراكية (كمفهوم الأمة في مقابل السيادة) لكن ستزداد صعوبة المسألة عندما نبدأ في إجابة أسئلة إدارة الواقع وأدواته، وتزداد صعوبة تلك المسألة لوجود واقع مسيطر هو أساسًا نتاج منظومة أخرى.
إن تحديد مستوى التغيير المطلوب هو أمر هام في إدارة المعركة والتخطيط لها والإجابة على أسئلة الوجهة واختيارات التفاعل مع الواقع وإدارة التضحيات وتحديد دور الأفراد في مثل هذا الصراع، وذلك التحديد ليس بالأمر الهين على الإطلاق بل هو من التعقيد بمكان أنه يحتاج إلى جهود العديد من العقول المهتمة بهذه الأسئلة خصوصًا لوجود عدة إشكاليات تتعلق بإدارة مثل ذلك التغيير.
أول اشكالية يمكن الإشارة إليها هي إشكالية تداخل المستويات، فعلى العكس من التصور المبالغ في التبسيط الذي طرحته سابقًا، فإن النموذج أكثر تعقيدًا مما هو مطروح، حيث إن المستويات تتداخل فيما بينها وتتأثر وتتطور بشكل مستمر فمثل هذه النماذج المركبة “Complex” تتداخل بشكل كبير، حيث إن أي تغيير أو تطوير أو انحراف في أي مستوى من المستويات يؤثر تلقائيًا في باقي المستويات، ولذلك يجب جيدًا حساب التدخل المطلوب لأن مجرد التدخل ولو بمجرد المراقبة فقط يؤدي تلقائيًا لتغيير النموذج أو تطويره في أحد هذه المستويات خاصة إذا امتلك النموذج هذه القدرة العالية على التكيف كما في حالة النموذج الغربي على سبيل المثال.
وبالعودة إلى الحالة المصرية فإن النموذج القائم هو نموذج مشوه غير واضح الملامح تجد فيه طغيان النموذج الغربي على مستوى الأدوات التنفيذية مع محاولة إكسابه صبغة إسلامية على المستويات الأعلى، وذلك طبعًا يخلق صعوبة في التعامل مع ذلك النموذج المشوة بالفك أو التركيب.
الإشكالية الثانية وهي قدسية الفكرة المركزية المنسحبة على اختيارات التفاعل مع الواقع، الأفكار المركزية الحاكمة هي على الأغلب أفكار تمتلك هذا النوع من القدسية لأنها أفكار متعلقة بفلسفة الوجود نفسه ورؤية الإنسان فيها، وبما أن باقي المستويات هي عبارة عن إفرازات لهذه الفكرة المركزية فإن البعض يكسبها قدسية الفكرة نفسها، وهذا غير دقيق، فعلى سبيل المثال تحقق فكرة التوحيد في النموذج الإسلامي تنعكس على مفوم الانتماء للأمة في مقابل مفهوم المواطنة، الأمر الذي يدعو بعض الإسلاميين إلى معاداة مفهوم الدولة القومية الحديثة إلا أن هذا العداء لا أستطيع أن أُكسبه قدسية الفكرة المركزية نفسها وإنما أضعه في مكانة الاختلاف المفاهيمي النابع من اختلاف المرجعيات.
إشكالية القدسية التي كثيرًا ما نراها تنسحب على خياراتنا لأنها تنبع من فكرة مركزية ذات قدسية أساسًا كمن أضفى قدسية على فكرة العمل الثوري المسلح لأنها نابعة من مركزية فكرة التوحيد والجهاد كانعكاس لها في مستوى إدارة الواقع، بالتأكيد لا نفصل الجهاد عن المنظومة الإسلامية أو ننزع عنه قدسيته لكننا ننزع القدسية عن اختياره كآلية تعامل مع أي واقع متعين في لحظة زمنية متعينة، نفس الأمر ينسحب على السلمية كاختيار منعكس من قدسية الدماء في الإسلام.
الإشكالية التالية هي إشكالية الواقع والتفاعل معه، فكما أشرت سابقًا أن التداخل مع الواقع هو أكثر الأمور تعقيدًا عندما نأتي لدراسة الصراع النماذجي، خصوصًا في اللحظة التي يسيطر فيها أحد هذه النماذج على مجريات الواقع ويصبح التفاعل مع الواقع من أجل تشكيل نموذج جديد أمرًا في منتهى الصعوبة، لعدم امتلاك أدوات تغيير الواقع خارج المنظومة الحالية المسيطرة، على سبيل المثال فبينما يطرح تنظيم الدولة نفسه على أنه صاحب مشروع صراع نماذجي يرفض فيه النموذج الغربي بالجملة، إلا أن افتقاره لتكنولوجيا التصنيع أجبره على التعامل مع شبكة التسليح العالمية من خلال عمليات بيع وشراء كانت تتم – حتى صك عملته الخاصة – بالعملات الأجنبية العالمية.
لا تكمن إشكالية التداخل مع الواقع فقط في صعوبة الخروج عن المنظومة باستخدام أدوات هي في الأساس نتاج لها نفسها، إلا أن وجود العديد من الاختيارات كل منها يترتب عليه مسارات وأثمان يجب أن تدفع يعتبر أيضًا من أكبر إشكاليات التداخل مع الواقع، فعلي سبيل المثال إذا حاول أحد المثقفين الإسلاميين الآن طرح مشروع ثوري إسلامي يرى ضرورة استخدام الثورة كأداة في صراع نماذجي فعليه أن يجيب أين ستكون بؤرة هذه الثورة، هل مثلاً دول الربيع العربي أم مناطق التوتر المسلح التي تضعف فيها سيطرة المنظومة الغربية أم في عقر دار المنظومة المعادية نفسها (أوروبا وأمريكا)، كل خيار من هذا يفرض عليك مسار حركة معين وثمن يجب دفعه.
الانتخابات الأمريكية كمثال آخر، فإن كنت من المؤمنين بصراع النماذج أو حتى صراع الحضارات فإن حدث كالانتخابات الأمريكية يعتبر فرصة مناسبة للتداخل ويكون عليك اختيار طريقة تداخلك معها، لن تكون هيلاري هي المرشح الأفضل لك لأنها ستكون مجرد امتداد للمنظومة الحالية وسيتبقى أمامك الاختيار إما بترجيح كفة الإصلاح الداخلي والثورة السياسية التي يريدها ساندرز أو سحب السياسية الأمريكية نحو المزيد من المفاصلة الحدية بدعم أي مرشح من المرشحين الجمهوريين الحاليين وسيكون ترامب المرشح المثالي لمثل هذا الاختيار، مرة أخرى اختيار سيكون عليك دفع ثمنه إما بتأجيل زمن الصراع وبذل جهد كبير لإنجاح وتعظيم الثورة السياسية التي يدعو اليها ساندرز أو مواجهة مزيد من السياسات المضهدة للمسلمين واحتمالية اتساع رقعة الحروب في العالم، أيًا يكن سيكون عليك تحمل ثمن اختياراتك.
ثمن الاختيارات ليس أمرًا هينًا يتم تجاوزه بشكل سريع بل هو شيء غاية في الأهمية عند تخطيط تحركاتك المقبلة، فإذا اخذت في الاعتبار أن النموذج الغربي استلزم ملايين القتلى ومئات من الثورات والحروب وبضعة قرون ليصل إلى الشكل الذي وصل إليه الآن في ظل ضعف النموذج المقابل أثناء ذلك التأسيس، فإن أي صراع نماذجي سيتم الدخول فيه سيكون من الطول والشراسة بمكان.
والأن عودة لمسألة الموجة الثورية القادمة وعطفًا على كل ما قيل في تصنيفات التغيير، فعلى المهتمين بإنجاح هذه الموجه الإجابة على الأسئلة الآتية وغيرها الكثير:
أي شكل من أشكال التغيير نريد؟ أي مستوي من التداخل مع الواقع نبتغي؟ وما اختيارتنا في هذا التداخل؟ وما الأدوات التي نمتلكها لخوض مثل هذا الصراع؟ وما الأثمان التي نحن مستعدون أن ندفعها من أجل الوصول إلى هذا التغيير المطلوب؟… إلخ.
كل هذه الأسئلة تساعد على إجابة سؤالين أكثر أهمية وهما سؤال الوجهة أو الرؤية؟ والسؤال الثاني هو سؤال الدور أو الفعل؟
وهي الأسئلة التي سنتعرض إليها بالتفصيل لاحقًا.