الجانب الشمالي لمدينة كولون، مكان يعرف بسكانه من الطبقات العاملة الأفقر، الحي المعروف بـ “Eherenfeld” يعبر عن طبيعته تلك بوضوح عبر شعاره الذي يأخذ شكل التروس الصناعية، أسير جنبًا إلى جنب مع دليلي الشابين، كلاهما يملأ حديثه قدرًا من الانكسار، خصوصًا عند حديثهما عن عمليات طرد الطبقات الفقيرة المستمرة من الحي من أجل تحويله إلى متحف مفتوح، متحف يسكنه الشباب ممن يعرفون بطبقات الـ “Hipsters” ممن يطاردون القصص العميقة والصيحات الثقافية النادرة، فالحي الذي فتح ذراعيه لكل العمال الفقراء من كافة الخلفيات الثقافية والقومية أصبح عبر السنين خليطًا من الموسيقى الإفريقية والطعام الصيني والذكريات اليهودية، مشهد متنوع بامتياز، أو مكان يصلح حاليًا لطرد أهله ليحل محلهم مجموعة من الشباب البيض ذوي الدخول العالية.
يصل بنا السير إلى محطة القطار، تستطيع أن ترى بوضوح تردي حال المنطقة من شكل محطة القطار، اختلاف كبير عن محطة القطار المركزية الفاخرة، ينعطف بي دليلي إلى ركن جانب المحطة، تقع عيناي على جدارية مكتوبة بكثير من اللغات، كانت العربية من بينها وإن كانت ترجمة بيت الشعر المكتوب على الجثث المعلقة في مشانقها غير دقيقة.
“اطلقوا عليهم قراصنة الأقحوان… كانت أعدادهم قليلة
وحيثما أزهروا… نبتت المقاومة”
أصمت لأني أدرك أنني أمام قصة لا أدري عنها شيئًا، قصة يتضح من تخليدها أنها ملطخة بالدماء، ويتضح من خلع دليلي لقبعته وصمته لبضع دقائق أنها أكثر اتصالًا به مما أتخيل.
“علمتنا المدارس أن قراصنة الأقحوان كانوا محض شباب يلعبون ويحاولون قضاء وقت جيد في زمن الحرب، إلا أنني كبرت في هذه المدينة، تحدثت إلي هذه المدينة عن بطولة قراصنة الأقحوان، حدثتني الكتب والمذكرات عن شباب قضوا حياتهم في أنفاق مدينة دمرها الطيران، فاتحين أذرعهم للأسرى الهاربين من معسكرات النازية، حدثتني عن ثلاثة عشر شابًا وشابة نصبت مشانقهم حيث تقف الآن، فقط لأنهم عزفوا لحن لا تحبه الجماهير ولا السلطة”.
أبدأ في الاستقصاء بشغف يخالطه بعض الألم في صدري، من هؤلاء؟ كيف لم أسمع عنهم؟ ماذا فعلوا ليقتلوا؟
تبدأ القصة عام 1933، وصل الحزب النازي إلى سدة الحكم في ألمانيا، الجميع بين مؤيد مسعور يستعد للسيطرة على العالم، وبين مناهض يستخف بتهديد النازية ظانًا أنها ستسقط خلال أشهر، فقط كولون، المدينة ذات المجتمع المدني الأقوى في ألمانيا، تدرك فداحة الخطر القادم، تبدأ المجتمعات المسيحية في التكتل لتخفف من اعتمادها على الدولة، وتستمر الاتحادات العمالية بالتعاون مع القوى اليسارية والحزب الشيوعي لمنع تغلغل النازية في المجتمع.
إلا أن كل هذا ينتهي مع سيطرة الحزب النازي المطلقة على النظام التعليمي، الآن أصبح على كل شاب ألماني أن يصبح عضوًا فيما يعرف بمنظمة “شباب هتلر” إلى جانب دراسته، يعزل الشاب تمامًا عن أهله وأصدقائه في معسكرات شباب هتلر تلك، يبدأ في تعلم أن حياته فداء للرايخ الثالث وللفوهرر العظيم، يبدأ في حفظ أناشيد وأغاني التفوق الألماني والآري عن ظهر قلب، يبدأ في معرفة الفرق بين العرق الآري وغيره من الأعراق الأدنى التي لا تستحق الحياة.
بدأ مجموعة من الطلبة في التجمع في أنحاء المدينة وأركانها مخالفين قوانين تحديد الحركة النازية، اتسعت أزقة المدينة لأبنائها ورحبت بهم وسمحت لهم حتى بالخروج إلى السهول خارج المدينة في رحلات برية تملؤها رموز المجتمع المدني التي حرمها الحزب النازي بوضوح، في رحلاتهم تلك بدأ هؤلاء الشباب في الغناء، أغاني تبقى إلى يومنا هذا حاملة شعار الأقحوانة البيضاء الذي ارتداه هؤلاء الشباب على صدورهم.
شباب بين الرابعة عشر والسابعة عشر، فتحت لهم شوارع مدينتهم صدرها، عرفوا المدينة عن ظهر قلب، تمامًا كدليلي، شابان يساريان في أواخر العشرينات، وإن كانت ألسنتهم تتلو لي تاريخ المدينة والحي، فإن حركتهم بكل اعتيادية وحرية تتلو لي تاريخهما هما في قلب هذه المدينة، يقول لي أحدهم: “لا يدرك الكثير من الناس هذا، إلا أننا أولاد قراصنة الأقحوان وأصدقاؤهم الأصغر سنًا، إن كانت الدولة لم تعترف بقراصنة الأقحوان إلا عام 2009؛ فإن في كل بيت من بيوتنا تسجيل لأغنية لهم بعد أن كبروا وصاروا شيوخًا، لا يخلو بيت لنا من صورة تعلو الصدور فيها الأقحوانة البيضاء، كولون كانت الأقحوانة البيضاء، ونحن أولاد قراصنة الأقحوان”.
تأخذني المشانق المحفورة على الحائط إلى لوح رخام وجد في وقت ما على سور الجامعة الأمريكية في القاهرة، كلمات أمل دنقل محفورة عليه:
” آه… ما أقسى الجدار
عندما ينهض فى وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر… كى ننقب ثغرة
ليمر النور للأجيال .. مرة
ربما لو لم يكن هذا الجدار…
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق”
أسأل دليلي عن قصة شنق هؤلاء الشباب في هذا المكان، يطلب مني أن أمشي معه قليلًا ليخبرني بالقصة تفصيلًا، في الطريق يخبرني عن مقرات الجستابو (البوليس السياسي النازي) كمعلومة جانبية، إذ كانت العادة في هذه المباني أن تكون لها مقابض أبواب من الخارج فقط، فبمجرد دخول الشخص إلى هذه المقرات لا يستطيع الخروج إلا إذا قام أحد الضباط بفتح الباب بمفتاح خاص.
نصل أمام بيت قديم يبدو عليه الفقر بوضوح، يخبرني دليلي أن القصة التي سألت عنها بدأت هنا، إذ قامت عصابات النازي المدنية بخطف أحد القراصنة من هذا البيت، إلا أن مقر الاستجواب في الجستابو كان بعيدًا بعض الشيء، يشير إلى مبنى ضخم جميل في الشارع المقابل، تساعدني ألمانيتي الضعيفة على قراءة المكتوب عليه: “حمام نبتون”، يخبرني دليلي أن هذا الحمام الحراري الذي يستمتع أهل كولون بقضاء إجازاتهم فيه اليوم كان مناسبًا جدًا لأغراض الاستجواب السياسي، إذ يستطيع النازي أن يغرق ضحيته في الماء ثم يخرجه ليقوم بضربه لبعض الوقت حتى يحصل على كل المعلومات التي يريدها، لا يعلم أغلب أهل كولون ما حدث في حمامهم الجميل أثناء الحرب، فإلى هذا المكان أخذ الشاب ليحصلوا على أسماء كل قراصنة إيرينفيلد، في غضون ساعات علقت المشانق في العاشر من نوفمبر 1944 أمام محطة القطار.
عام 1944 كان أكثر من نصف مدينة كولون قد دمرته غارات الحلفاء الجوية، إلا أن المدينة التي لم تبخل على قراصنتها الشباب بشوارعها عوضتهم بأنفاقها، أنفاق حفظها هؤلاء الشباب عن ظهر قلب، يحكى أن جنود الجستابو لم يكونوا ليدخلوا هذه الأنفاق تحت أي ظرف، إذ انتشرت بينهم شائعة أنها تبتلع أعدائها، إلا أن هذه الأنفاق كانت ملعب القراصنة، الملعب الذي استطاعوا منه إنقاذ المئات من الأسرى الهاربين واليهود وإعاشتهم حتى نهاية الحرب، سمح المجتمع المدني القوي في كولون لهؤلاء الشباب أن ينقذوا عددًا عملاقًا من هؤلاء وأن يضمنوا لهم المأوى والطعام في مدينة تدكها الطائرات كل يوم.
في طريق العودة وقد خيم الصمت علينا جميعًا، أرى حائطًا تزينه الهدايا والزهور، يلاحظ دليلي نظري إليه ويخبرني أن هذا هو مقر المعبد اليهودي الوحيد في إيرينفيلد، سابقًا بالطبع، دمر النازيون هذا المعبد الذي بناه يهود المنطقة من العمال كأول هدف لهم في إيرينفيلد، لا يهود اليوم في إيرينفيلد، إلا أن شخصًا ما يواظب على العناية بهذه الزهور كل يوم، كما يراعي تشغيل أغاني قراصنة الأقحوان عبر مشغل الموسيقى المتروك هناك كل يوم، أصمت للحظة وأستمع لكلمات الأغنية لعلي أفهم بعضها.
“ظلم هتلر يجعلنا صغارًا
ما زالت السلاسل تربطنا
لكن، يومًا ما سنسير أحرارًا
فلا سلسلة تقدر على ربطنا إلى الأبد
فلكي يصبح الشباب أحرارًا
سيضرب الأقحوان حصارًا أبديًا”