ترجمة وتحرير نون بوست
في لوحته، نساء الجزائر في شقتهن، التي أصبحت أسطورية الآن، صوّر أوجين ديلاكروا المرأة العربية والمسلمة بطريقة مستفزة وأولية للغاية، وفي وقت لاحق، وبعد قرن ونصف، استخدمت الروائية الجزائرية البارزة، آسيا جبار، ذات العنوان لمجموعة قصصها القصيرة، “نساء الجزائر في شقتهم” لعام 1980، حيث قامت بقلب لوحة ديلاكروا رأسًا على عقب محتفلة بجمال وصمود المرأة الجزائرية (العربية) في وجه تعدد الطغيان.
قبل آسيا جبار، استخدمت الفنانة المصرية الرائعة إنجي حسن أفلاطون تجربتها الخاصة كرسامة ثورية ماركسية نسوية قضت 4 سنوات في سجون عبد الناصر لإنتاج روائعها التي تصوّر النساء في زنزانات السجن، حيث تميزت أعمال أفلاطون بالجمالية والقوة السياسية التي تغرقك في كون مختلف تماًما عمّا اقتبسته جبار من ديلاكروا.
بعد عقود من أعمال أفلاطون وجبار، قامت المخرجة التونسية البارزة، مفيدة التلاتلي، بتقديم تحفتها الرائعة، صمت القصور في عام 1994، حيث توسعت ضمن الفيلم بأعمال فلاطون وجبار الرائدة، لتحقق في عمق تجارب ومحن جيلين من النساء التونسيات العاملات في قصر عائلة مسيئة وثرية في ذروة الصراع التونسي المناهض للاستعمار.
عميدة السينما الفلسطينية
أُعطيت هذه الأعمال الفنية ومثيلاتها لمسة جديدة وقوية على يد عميدة السينما الفلسطينية، مي المصري، المشهورة بكونها مخرجة للأفلام الوثائقية لأكثر من 40 عامًا، ولكنها الآن أصدرت أول فيلم روائي طويل من إخراجها، يحكي قصة النساء الفلسطينيات في السجون الإسرائيلية.
في 25 إبريل، تشرّف مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة كولومبيا باستضافة العرض الأول في نيويورك للفيلم الروائي الجديد للمصري، 3000 ليلة.
بدأت الرحلة المتميزة للمصري، وهي فلسطينية مقيمة في بيروت، كمخرجة سينمائية في وقت مبكر من ثمانينيات القرن المنصرم، من خلال فيلمها الوثائقي الرائد، تحت الأنقاض لعام 1983، واستمرت المصري على ذات السياق المبدع حتى أخرجت اليوم أول فيلم روائي طويل لها.
عُرض فيلم 3000 ليلة لأول مرة دوليًا في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، حيث يقوم الفيلم على قصة حقيقية تروي حياة ليال، المواطنة الفلسطينية التي حُكم عليه بالسجن لمدة ثماني سنوات من قِبل المحكمة العسكرية الإسرائيلية، بعد اتهامها زورًا بالمساعدة والتحريض على ما تسميه مستعمرة المستوطنين الأوروبية “الإرهاب”.
حبس البشر داخل الزنازين كان موضوع العديد من التأملات الفلسفية، الشعرية، الأدبية، والسينمائية في العديد من الثقافات والظروف؛ فبدءًا من كريتو أفلاطون (360 قبل الميلاد)، إلى قصائد السجن الأسطورية لمسعود سعد سلمان (1046-1121 م)، إلى قصة اللورد بايرون السجين شيلون (1816 م)، وحتى رائعة فرانك دارابونت إصلاحية شاوشانك (1994)، شهدنا عددًا لا يحصى من محاولات فهم طبيعة السجن على النفس البشرية.
وفي الآونة الأخيرة، وفي كتابه “المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن”، حاول المؤرخ الاجتماعي الفرنسي ميشيل فوكو التحقيق في قانون العقوبات باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الصياغة التأديبية للحداثة الأوروبية.
تضع المصري، من خلال مشاركتها السينمائية بهذا الموضوع، النساء المسجونات بموقع مباشر مع سياق الغزو الاستعماري الإسرائيلي لفلسطين، وهو ذات الإطار الذي استفاض به عالم الاجتماع الفلسطيني المميز، إيليا زريق، برؤى فوكو، في كتابه الأخير الصادر عام 2016 “مشروع إسرائيل الكولونيالي في فلسطين: المطاردة الوحشية”.
الخطاب السلالي
في كتابه الأخير، يدرس زريق بالتفصيل المسار الثلاثي للغزو الصهيوني الاستعماري في فلسطين: العنف والأراضي والتحكم في عدد السكان، والتي يحللها باعتبارها شكلًا محددًا مما يسميه “الخطاب السلالي”.
في الوقت الذي اعتمد فيه زريق على رؤية فوكو للمراقبة والمعاقبة والحكم ليقدم رؤية أكثر تعمقًا في مجال العنف العرقي والاستيطان الاستعماري، حاولت المصري في “3000 ليلة” أن تقدم عددًا من التحولات الحاسمة عن هذه الأفكار النظرية لطبيعة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
فمن خلال التركيز على نساء السجون، استطاعت المصري أن توثّق بنجاح سياسة العنف الجنسي في السجون، وصوّرت المواجهة الخطيرة والكاملة لأهوال دولة المراقبة في طورها كامل العنف.
إتقان المصري لحرفتها السينمائية أفسح أمامنا المجال لرؤية السجن الاستعماري بطريقة لا يستطيع التفكير النقدي المجرد أن يصورها لنا.
هذا النوع من التصوير السينمائي ضمن السجن يتحدى الميزات البصرية التي يتمتع بها المخرج إلى أقصى حد ممكن، لأن المخرج في هذا النوع من الحكايا، مجبور على قص رواية طويلة بشكل شبه كامل من خلال لقطات الداخلية، بحيث تكون فضاءات التصوير، حركة الكاميرا، اختيار العدسة، خيارات الإضاءة، والحركة البدنية محدودة بحدها الأدنى.
انحدرت المصري إلى أول فيلم روائي طويل لها من خلفية خبرة وثائقية طويلة، حيث صورت معظمهم لقطاتها في الهواء الطلق وفي المناطق الحضرية ومخيمات اللاجئين التي باتت تألفها للغاية، ولكن هنا استعملت المصري ومدير تصويرها، جيل بورت، والمحرر، ميشيل تيان، كامل مهنيتهم وبذلوا قصارى جهدهم، ليكونوا قادرين على سرد قصة كاملة داخل فراغ عدد قليل من الزنزانات المتجاورة، ممر طويل، وفناء صغير، حيث تم تصوير الفيلم في سجن عسكري في الأردن.
نتيجة للعمل السينمائية الفذ الذي قامت به المصري وزملاؤها، لم يعد من الضروري أن أطيل وأصرّ على مدى قوة الاختيار المجازي لمعاناة الشخصية الرئيسية في القصة، ليال، وذلك من خلال الحفاظ على طفلها عندما تدرك بأنها كانت حبلى عندما تم حبسها، ولادتها في أحد السجون الإسرائيلية، وتربيتها للصبي الجميل الذي أسمته نور في خضم هذا البؤس الأسود.
أقنعت الدعاية الإسرائيلية نفسها بأنها روجت أكاذيبها إلى العالم بأسره حينما سمّت دفاع الأمة ضد غزاتها على أنه “إرهاب”، ولكن الأمر لا يتطلب أكثر من عمل سينمائي بارع، من مخرجة فلسطينية محترفة، لتفكيك الأسطورة الواهية التي ما فتأت تكبر وتتطور من خلال الالتفاف حول نفسها.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية