“ناقلة النفط ديستيا أميا ليس مصرحًا لها بدخول المياه الإقليمية التابعة لدولة مالطا، وكل طلباتها بذلك سيتم رفضها،” هكذا أعلنت إدارة ميناء مالطا الثلاثاء الماضي في أمر وزعته على كافة جهات الشحن البحري الموجودة على أرضها، في انصياع واضح لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بحظر التعامل مع أية صادرات للنفط انطلقت من شرق ليبيا تحت إشراف حكومة طبرق هناك دون التنسيق مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والتي تم الاتفاق عليها مؤخرًا.
كانت الناقلة قد انطلقت محمّلة بـ650 ألف برميل نفط من ميناء الحريقة في أقصى شرق ليبيا، في محاولة واضحة من الحكومة الموجودة تحت غطاء برلمان طبرق، والمدعومة عسكريًا بقوات خليفة حفتر، اتخاذ خطوة بمعزل عن حكومة الوحدة الوطنية التي لم تصادق عليها حتى الآن، غير أن تلك الجهود لم تفلح بالنظر للدعم الغربي الواضح لحكومة الوحدة الوطنية، والتي تم الاتفاق على تشكيلها بين الأطراف المتصارعة الرئيسية؛ برلمان طبرق في الشرق والمجلس الوطني في طرابلس، ورُغم انحياز الغرب فيما سبق لبرلمان طبرق، والتنازلات الكبيرة التي حصل عليها في اتفاق الوحدة مؤخرًا، إلا أنه يبدو الطرف الأكثر رفضًا للتوافق مع القوى السياسية في طرابلس، والأكثر تمسكًا بإقصاء منافسيه.
رُفِضَت إذن خطوة تصدير النفط بشكل منفرد بعد ضغوط الغرب والأمم المتحدة، وجهود الحكومة الوطنية في طرابلس لاعتبار الناقلة “غير شرعية” من جانب معظم الأطراف المعنية بالنفط الليبي، وعادت الناقلة بالفعل إلى ميناء الزاوية بغرب ليبيا لتفريغ البراميل في الميناء، لا سيما وأن السلطات الهندية، والتي رفرف علمها على الناقلة، انصاعت هي الأخرى للضغط الدولي وطلبت منها الإبحار ناحية أقرب ميناء لها، ولكن إلى من أصلًا كانت ستذهب شحنة النفط تلك؟ كانت الشُحنة في طريقها إلى شركة مسجلة بإمارة الشارقة بالإمارات العربية المتحدة وباسم DSA Consultancy FZC، كما صرّح لاحقًا ناجي المغربي رئيس شركة النفط الوطنية الليبية، وهي شركة حاولت بضعة منابر صحافية الوصول لها دون أن تتلقى أي رد على استفساراتها.
لم يلفت ذلك الخبر نظر الكثيرين على الأرجح، لكنه مؤشر هام على الموقف السياسي الواضح لبعض القوى السياسية والعسكرية في شرق ليبيا، أبرزها بالطبع قوات حفتر، والذي يبدو أن السياسة الغربية تميل لعزله مقابل تحقيق توافق وطني يحفظ وحدة ليبيا، بعيدًا عن طموحاته الشخصية المرفوضة من جانب كثيرين، لا سيما كتائب الثوار في مصراتة، ومراكز الإسلاميين في طرابلس ودرنة، وهو أمر لن يثنيه بسهولة، إذ أن الرجل يعكف حاليًا على إبراز كل ما في جعبته، بما فيه الدعم الإماراتي المحوري له والدعم المصري كذلك، والاستعانة بشخصيات تابعة لنظام القذافي، كما حدث بالفعل في 15 أبريل الماضي حين منح برلمان طبرق عفوًا لطيب الصافي، القيادة الأمنية التابعة لفلول النظام السابق، والذي اضطر للفرار من ليبيا بعد مشاركته في قمع الاحتجاجات عام 2011 أثناء الثورة.
رحلة ناقلة النفط من ميناء الفُجيرة إلى ميناء الزاوية حيث رست لتعيد البراميل التي حمّلتها من ميناء الحريقة
حفتر لا يريد اتفاق الوحدة الوطنية
على مدار أكثر من ستة أشهر الآن لم يصادق برلمان طبرق بعد على اتفاق التوافق الوطني الذي رعته الأمم المتحدة لتشكيل حكومة وحدة وطنية بين الشرق والغرب، وهو الاتفاق المنحاز أصلًا لصالح برلمان طبرق، وتستمر جهود القوى التابعة له في محاربة غيرها على الأرض، أما المجلس الوطني والمتمركز في الغرب، والذي تهيمن عليه جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها الإسلاميين في معظمهم، ورُغم عدم حصولها على تنازلات كثيرة في اتفاق الأمم المتحدة، إلا أنها الطرف الذي قرر القبول بالتسوية ودخل بالفعل في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية رُغم نص الاتفاق على أن برلمان طبرق المنافس لها هو الجهة التشريعية الرسمية للحكومة حتى إجراء انتخابات جديدة، وأن المجلس الوطني التابع للإسلاميين ليس سوى مجلسًا رئاسيًا بدون سلطات تنفيذية على الأرض.
حاولت حكومة الوحدة الوطنية بقيادة فايز السراج أن تجذب برلمان طبرق إذن بتقديم وزارات هامة له، حيث منح وزارات النفط والمالية والدفاع، كما عينت أحد المقربين من حفتر كنائب لرئيس الوزراء، لكن برلمان طبرق ظل على موقفه، وفي آخر محاولة للتصويت على تبني اتفاق الأمم المتحدة، قامت مجموعة من أعضائه بافتعال شجار داخل المجلس أدى لوقف التصويت وتأجيله، وهو أسلوب تكرر بالفعل قبل ذلك في نهج صار واضحًا للجميع من جانب حلفاء حفتر في طبرق لمعارضة اتفاق الوحدة الوطنية.
خلال أيام قليلة من تلك الواقعة، قام النائبان الأول والثاني لبرلمان طبرق بتنظيم حوالي 100 من أعضائه ونشر بيان مفاده أنهم يؤيدون حكومة الوحدة رُغم وقف التصويت، وهي خطوة اعتبرتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إيجابية وشجاعة، بيد أن البيان لم يكن خاليًا من بعض الشروط المثيرة للانتباه، إذ دعا البيان إلى إسقاط المادة الثامنة من اتفاق الوحدة الوطنية، والذي ينص على أن المجلس الرئاسي، والذي يمثله المجلس الوطني بغرب طرابلس (الإسلامي في معظمه) يحق له تعيين القيادات العسكرية والأمنية، وهي السلطة التنفيذية الوحيدة ربما التي حصل عليها الإسلاميون من الاتفاق الغربي.
لا تروق المادة الثامنة لحفتر، وهو قائد القوات المسلحة المتمركزة في طبرق الآن، لأنه يعلم بالطبع رغبة المجلس الرئاسي في تعيين شخص آخر بدلًا منه على رأس القوات المسلحة الليبية يكون أقل انحيازًا، وأكثر التزامًا بالوحدة الوطنية، وبعيدًا عن صلاته بنظام القذافي، وأقل امتلاكًا للطموحات الشخصية والتوجهات الانقلابية الواضحة لديه، وأقل عداءً للإسلاميين الذين وصفهم ذات مرة بـ”المرض الخبيث”، أضف لذلك أن عزل حفتر سيعزز من اتفاق الوحدة لأن كتائب الثورة الكائنة في مصراتة، وهي ثورية في معظمها وليست إسلامية رُغم تحالفها السابق مع الإسلاميين، ترفض حفتر تمامًا، وقد يؤدي صعود حفتر إلى عودة تحالفها مع الإسلاميين بشكل يعيد الانقسام كما كان، ولا ننسى هنا أن اتجاه كتائب مصراتة لفك التحالف مع الإسلاميين والتفاوض مع برلمان طبرق لتسوية ترضي كافة الأطراف كانت السبب الرئيسي أصلًا في جلوس الإسلاميين إلى طاولة المفاوضات بعد أن فقدوا حليفهم القوي في مصراتة.
أثار الغارات الجوية التي قامت بها قوات حفتر على المناطق السكنية بمدينة درنة
علاوة على كل ذلك يأتي ملف محاربة داعش، والذي يُعد أولوية للسياسة الغربية الآن نتيجة تمركز داعش في سِرت قرب عدد من المنشآت النفطية، فحفتر يحاول منذ فترة طويلة اللعب على فكرة قدرته وحده على محاربة داعش لكسب الدعم الغربي، بيد أن تلك المحاولة تلقت ضربة حين قامت مجموعة مجاهدي درنة بتحرير المدينة من الدواعش قبل أسابيع قليلة، في ضربة قوية استشعرها حفتر ربما أكثر من الدواعش أنفسهم، وهو ما دفعه خلال أيام لبدء حملة عسكرية جوية على المدينة لم تلق أي تغطية إعلامية كما ينبغي نتيجة انشغال الرأي العام العربي بما يجري بحلب، وهي ضربات أردت كثير من القتلى والمصابين، واستهدفت مناطق سكن المدنيين علاوة على معاقل قيادات مجاهدي درنة الذين حرروا المدينة، في حين وُجِّهَت اتهامات لحفتر في الواقع بتأمين فرار مقاتلي داعش من المدينة، كما أشار ضمنيًا بيان مجلس شوري مجاهدي درنة.
“لقد هُزَم مقاتلو داعش في درنة وفروا على أقدامهم وبالسيارات عبر 800 كيلومتر في عرض الصحراء، لكن طائرات حفتر لم تكترث بقصفهم،” هكذا قال المجلس في بيان رسمي متلفز أدان فيه ما أسماه بمحاولات حفتر سرقة انتصاره في المدينة، وفي محاولة للفت الأنظار للجهود التي يقوم بها حفتر للاستحواذ وحده على كعكة “الحرب على داعش،” والتي يُصر الغرب حتى الآن على إتمامها عبر حكومة الوحدة وتشكيل جبهة من كافة القوى العسكرية الموجودة، غير أن المناصفة بين حفتر وغيره في محاربة داعش، وقدرتهم بعد ذلك بالتبعية على المطالبة بمناصفة المكاسب والامتيازات العسكرية، يضرب تمامًا مشروع حفتر القائم على إقصاء كافة منافسيه على المستوى العسكري بحُجة “توحيد القوات الليبية،” وهو ما يفسر رغبته في قيادة المعركة منفردًا، في حين تُصِر حكومة الوحدة على عدم اتخاذ أي إجراء عسكري بوجه داعش دون موافقتها كما صرّحت منذ أيام.
***
بشكل واضح اليوم، فإن القوة العسكرية لحفتر، والقوة السياسية الواقفة خلفه والممثلة في أغلب أعضاء برلمان طبرق حتى الآن، تقف عائقًا أمام تنفيذ اتفاق الوحدة الوطنية المدعوم من كافة الأطراف الإقليمية عدا الإمارات ومصر، في سياسة واضحة لا يمكن تفسيرها إلا بالرغبة في توسيع هيمنة حفتر كقائد عسكري، وتكرار السيناريو المصري في ليبيا، وهو سيناريو تدفع ناحيته بقوة الإمارات نتيجة لرفضها أي نوع من التوافق مع الإسلاميين مهما كانت التنازلات التي قاموا بها، كما حدث بالفعل في اتفاق الوحدة الوطنية برعاية الأمم المتحدة، ودعمها للديكتاتوريات القوية على حساب تعزيز الآليات الديمقراطية في العالم العربي، وهو ما يفسر وقوفها خلف حفتر الذي سيتمكن بالفعل من القيام بانقلاب إن نجح في مراكمة قوة عسكرية ومالية كافية، وهو ما يفسر جزئيًا محاولته مؤخرًا تصدير النفط منفردًا.
في النهاية، يقف حفتر ومن خلفه الإمارات أمام عقبة رئيسية وهي أن كافة القوى الغربية، إضافة إلى القوى الداعمة للإسلاميين كقطر وتركيا، تدفع بقوة لتبني اتفاق الوحدة الوطنية، بل وأن الكثيرين الآن من صناع القرار في الغرب بدأوا بالاعتقاد بأن الدعم الذي قدموه لبرلمان طبرق عزز من رصيده أكثر من اللازم بشكل لعله منحه الثقة للتصرف بذلك الشكل المنفرد والمتعجرف، والمسوّف فيما يخص تبني الاتفاق الوطني، وأن أي انحياز له أكثر من ذلك، وأي قبول لطموحات حفتر الشخصية، سيهدد ليبيا كلها بالانزلاق للحرب الأهلية مجددًا، خاصة مع احتمالية عودة كتائب مصراتة للتحالف الإسلامي، وأن الحل الأمثل ربما هو الضغط لتنفيذ الاتفاق، بما يشمله ذلك من الإطاحة بحفتر من قيادة القوات المسلحة لترسيخ الاتفاق، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي العام الماضي للنظر في إدراج اسمي حفتر وقائد سلاحه الجوي صقر الجروشي على قائمة العقوبات.
ما إن كان الضغط الغربي سينجح أم لا هو أمر ستكشف عنه الأيام، كما ستكشف أيضًا عن إمكانية تطبيق طموحات حفتر الانقلابية من عدمها، وهي إمكانية ستعيد توحيد الصفوف على الأرجح بين الثوار والإسلاميين، ولن تمر بسهولة كما مرت نفس المحاولة في مصر نتيجة القوة العسكرية التي يمتلكها الثوار والإسلاميون معًا في ليبيا.