قد تناولنا في المقال السابق محدد العامل الخليجي إجمالًا وكيف يساهم في صنع السياسة الخارجية للسعودية والآن نستأنف بمحدد النفط والعلاقات مع أمريكا وكيف يؤثر على تلك السياسة.
العلاقة مع الأمريكي ومحدد النفط
ارتأينا هنا أن نجمع هذين المحددين بفقرة واحدة نظرًا لارتباطهما سواءً من حيث السبب والمسبب، أو من حيث المقدمات والنتائج مما يصعب تحليلهما منفصلين.
كما سبق ونوهنا فإن العلاقة مع الأمريكي قديمة ترجع إلى العام 1945 منذ أن استلمت أمريكا راية المنطقة من الإنجليز، وبالطبع محطات كثيرة وطدت تلك العلاقة لاسيما الخطر الذي كانت تمثله مصر الناصرية على وجود السعودية ذاته، كما عبر بذلك فيصل لكينيدي في رسالة نشرت لاحقًا – بالرغم من الشك في صحتها – ثم الهزيمة الكارثية لمصر وللعرب بـ67 وإدراك السعوديون أنه لا بقاء لهم إلا بارتباط مصيري مع الأمريكي، ثم المحطات التالية مع حروب الخليج التي سنتعرض لها بفقرة تالية.
ونود هنا الإشارة إلى العامل الداخلي الذي كان مساهمًا بشكل رئيسي في تكوين تلك العلاقة، وهو واقع أن الوفرة النفطية السعودية معظمها تقع بالمنطقة الشرقية، أي منطقة التواجد الشيعي الكثيف، والذي أشرنا إلى أنه يمثل المعضلة الأساسية للسعودية، فهنا أحد مخاطر الأقلية الشيعية، التي تصبح أكثرية بالإحساء والقطيف، هو مطلبها منذ الخمسينات إلى الآن بإعادة توزيع الريع النفطي بحيث تكون مناطقهم لها الأولوية بتوزيع عائدات النفط على شكل تنمية بما أن منطقتهم هي منطقة الوفرة النفطية لكل المملكة، فبالتالي لكي يتم شراء الولاء كان لا بد من أن توجد “أرامكو” للنفط، وأن توضع بيد الأمريكان، وأن تكون أرامكو هي نواة كل مشاريع تطوير وتحديث المملكة، فمن هنا تحدث المقايضة بأن وضع عمال أرامكو الشيعة المميز ووجود شريحة متميزة من رجال أعمال شيعة من المنطقة الشرقية هو مقابل الصمت عن مطلب التنمية، وأن مطلب تنمية المنطقة الشرقية سيهدد وضع أرامكو، هكذا كان الوضع التأسيسي، إلا أنه اكتسب أهمية أشد مع انتصار الثورة الإيرانية وصعود الخط الخميني بالمنطقة، فهنا تكون الحاجة إلى زرع الولاء بين العمال الشيعة لمدير أرامكو الأمريكي كبديل عن استيراد ولاء لإيران الثورة.
وبالفعل فكل أطروحات الخميني عن العداء الصفري مع أمريكا، بل حتى فكرة ولاية الفقيه، لم يكن لها تأثير يذكر على الشيعة السعوديين، ولعل أرامكو لعبت الدور الأساسي بهذا، ومن ثم نستطيع أن نفهم الهلع السعودي من التقارب الأمريكي الإيراني، إذ إن ترجمة هذا التقارب عندهم عمليًا هو احتمالية حدوث قلاقل بالمنطقة الشرقية، وهذا ما عجل بتنفيذ أحكام إعدام لشخصيات شيعية سعودية كالنمر، والآن ومستقبل أرامكو غامض بعد إتاحة الاكتتاب بها فيما يعتبره البعض جزءًا من استراتيجية تسييل السعودية لاحتياطتها النفطية ويمكن الإطلاع على المزيد هنا.
المحدد التالي هو الارتباط العسكري؛ كما سبق ونوهنا فهذا الارتباط نشأ مبكرًا متزامنًا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وترجم عمليًا بإنشاء مطار الظهران العسكري من أجل الاستخدام الأمريكي، وتطور وترسخ هذا الارتباط مع مشاركة السعودية بحلف بغداد، ثم مع ارتكاز أمريكا لمحاصرة إيران الثورة بين جناحين أحدهما بالسعودية والآخر بباكستان، ثم توسع بشدة مع عملية عاصفة الصحراء حتى الآن.
وبالتقرير السنوي عن حالة الخليج بعام 2014 الذي يصدره مركز الخليج لسياسات التنمية تفصيل بالحالة العسكرية الخليجية والسعودية حاليًا، وتعداد وتواجد العسكرية الأمريكية بالسعودية، وعلى حسب التقرير فقد تم تقليص التواجد الأمريكي بمياه الخليج إلى النصف تبعًا لعاملين، الأول هو الانتقال الهيكلي لأمريكا من مستورد إلى منتج للنفط والغاز، وبالتالي يتضاءل عندها أهمية عامل الوصول لمنابع النفط وتأمينها – كما سنبين بالفقرة التالية – والعامل الثاني هو الانتقال إلى آسيا، وبالتالي تكون أمريكا مهتمة أكثر بالتواجد العسكري بمياه مضيق مالقا، إما تواجد مباشر أو عن طريق وكلاء كسنغافورة، والوصول إلى منابع الغاز القزويني من خلال أذربيجان والصراع على أوكرانيا.
ويهمنا هنا إجابة ثلاثة أسئلة: لماذا تواجد أمريكي وليس تواجد عربي؟ وما هو هامش المناورة أو المساحة بين أهداف السعودية العسكرية والأهداف الأمريكية التي تفرضها من خلال تواجدها؟ وما هي خطط السعودية لمعالجة تخفيف كثافة التواجد الأمريكي حاليًا؟
بالنسبة لمسألة التواجد الأمريكي، فكما سنبين بمحدد العوامل الداخلية فمسألة أن السعودية دولة ريعية نفطية إلا أنها لم تبدأ إلا مؤخرًا بترجمة الوفرة النفطية لبناء قوة عسكرية، وبالرغم من أن حسب التقرير أعلاه فالإنفاق العسكري الخليجي عمومًا من أعلى معدلات الإنفاق العالمية، ولكن ما نعنيه هنا هو بناء قوة عسكرية صلبة بكل مراحلها، من التصنيع العسكري إلى بناء المقاتل المحترف إلى امتلاك سلاح استراتيجي يحقق تفوق نوعي، كمنظومة صواريخ باليستية بعيدة المدى كالجار العدو الإيراني، أو سيادة جوية كإسرائيل وإلى حد ما تركيا، أو قوة تدخل بري موسعة وكاسحة كعراق صدام.
نقول إن عدم امتلاك السعودية هذا عائد إلى عامل داخلي سنحلله لاحقًا، وتبقى المحصلة النهائية هي عدم قدرة السعودية على الدفاع عن نفسها، وبالتالي احتياجها الدائم إلى حامٍ خارجي، ولكن المعضلة هنا أن جيرانها العرب يرون فيها وبالخليج عمومًا مجرد بحيرة نفطية تمثل مال وفير، إن كلمة السيسي بالتسريب الشهير له “دول عندهم فلوس زي الرز” لا تمثل قناعة السيسي وحده، ولكنها تمثل بالفعل – للأسف – رؤية البلدان ذات القوة العسكرية الصلبة للخليج، أي مصر والعراق قبيل عاصفة الصحراء وسوريا منذ بداية استقلال الدول العربية إلى الآن، فبالتالي يسيطر على العقلية السعودية، والخليجية عمومًا وإن كان بدرجة أخف، أنها تمثل مطمعًا للبلدان العربية ذات الأداء العسكري العالي والأداء الاقتصادي المتدني، وقد تعزز هذا الهاجس عبر محطتي حرب اليمن واحتلال العراق للكويت، وبالتالي لم يكن واردًا أبدًا – حتى 30 يونيو 2013 – فكرة تواجد عسكري عربي بالخليج لحمايته، باستثناء الأردن للتوافق بالمصالح بين الخليج والأردن ، ولكن على كل الحال فالأردن لا تصنف من ضمن الدول العربية العسكرية، فبالتالي كان البديل هو الالتجاء لقوى كبرى للحماية، تمثلت بأمريكا طالما أن هناك توافق بالمصالح بين السعودية وأمريكا لا فكاك منه، فبالتالي لا تدار العلاقة بين السعودية والأمريكي بهاجس المطامع.
أما إجابة السؤال الثاني عن هامش المناورة بين المصالح السعودية والأمريكية، فعلينا أن نذكر معلومة وردت إلينا من مصادر شخصية، وهي أنه مع نهاية عام 2014 فكل طقم مجلس الأمن القومي الأمريكي بإدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وعلى رأسهم كونداليزارايس قد انتقل للسعودية ليشكل فريقًا استشاريًا للسلطة الجديدة بالمملكة، وهذا الفريق هو الذي يحمل عقلية وأطروحة مشروع القرن الأمريكي الجديد مقابل أطروحة القرن الأسيوي التي بشرت بها هيلاري كلينتون, وهو الذي سيحمل لواء إعادة تفعيله الرئيس الأمريكي القادم إذا كان جيب بوش أو ترامب أو أيًا كان الذي ستحسم له الانتخابات الداخلية في الحزب الجمهوري وفاز بانتخابات الرئاسة.
يمكننا أن نعد الأفكار الرئيسية بمشروع القرن الأمريكي بالنقاط التالية:
1- تأسيس قواعد عسكرية دائمة في جنوب أوروبا وجنوب شرق آسيا وفي الشرق الأوسط.
2ـ تحديث القوات الأمريكية بصورة منتظمة ودائمة، بما في ذلك التطوير المستمر للطائرات المقاتلة والغواصات وقدرات الأساطيل.
3- تطوير ونشر نظم الدفاعات الصاروخية وضمان السيطرة الاستراتيجية على الفضاء العسكري.
4- السيطرة المطلقة على فضاء الاتصالات والإنترنت والأقمار الاصطناعية.
5- زيادة الإنفاق العسكري بحيث لا يقل في وقت من الأوقات عن 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
وبشكل منذر بالخطر، وصفت وثيقة PNACهذه أربع مهام رئيسية للقوات المسلحة الأمريكية: أن (1) تخوض و(2) تحسم النصر في حروب كبيرة ومتزامنة، وأن (3) تتخذ الإجراءات الواجبة، بما في ذلك (4) إعادة التركيب لتوفير الأمن في المناطق المتوترة.
فإذًا من خلال هذا الطرح يمكننا أن نحدد الاختلاف بين متبني تلك الرؤية وأصحاب الرؤية الليبرالية – بل والبنائية – بالعلاقات الدولية الذين يشكلون الإدارة الأمريكية الحالية، بأن رؤية الإدارة الحالية لموقع أمريكا بالعالم بأنها ستكون الأولى بين متساويين، وبالتالي عليها أن تهتم أكثر بالتشبيك مع الأقطاب الصاعدة بالعالم استنادًا على المدخل والأدوات الاقتصادية، كالتنمية العالمية والشركات العابرة للقارات وقضايا البطالة وحروب العملات وتخفيض سقف الدين الأمريكي .. إلخ، ومع ما يتطلبه هذا من تقليل الانخراط بالصراعات الإقليمية، إلا ما يرتبط بالبنية العالمية، مع توسعة مساحة الشراكة مع وكلاء إقليميين يتفقون بالأهداف الأساسية للرؤية الأمريكية بالعالم، وتلك هي الرؤية التي بناء عليها ترغب إدارة أوباما منذ أول يوم باستعادة العلاقات مع إيران وتوسعة العلاقة مع تركيا، لكي يكون هذا محورًا موازنًا للعلاقة الإقليمية مع السعودية – إسرائيل.
وهذا هو مدخل تفسير تدخل أمريكا المباشر بسوريا مع صعود داعش، إذ إن هذا التدخل بتقديرنا نابع من أن داعش تخرق الترتيب الدولي المستقر منذ الحرب العالمية الثانية، بأن تستقطع جزءًا من دولة ما وجزءًا من دولة أخرى لتكوين دولة جديدة غير مستندة على نزعة انفصالية لعرق أو طائفة أو قومية متجانسة، فالتدخل هنا ضد داعش استجابة لهذا الخرق للنظام الدولي ولمنع تكراره بأي مكان بالعالم مجددًا.
بينما متبني رؤية مشروع القرن الأمريكي الجديد يتبنون رؤية مختلفة مستندة إلى تثبيت القيادة الأمريكية للعالم، وليس كالرؤية الأولى بين متساويين أو قيادة جماعية للعالم، ومن ثم تلك الرؤية تفرض غلبة الأداة العسكرية على غيرها من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، ومن ثم الحاجة إلى التوسع بإقامة القواعد العسكرية بالعالم، وبالطبع منها الشرق الأوسط والخليج، والانخراط أكثر بالصراعات الإقليمية بهدف تغيير بيئة الصراع نفسها وإعادة هندستها، وليس فقط إحراز نصرًا على الخصم، وأن النماء الاقتصادي الأمريكي مرتبط بممارستها دورها السيادي هذا، فبالتالي بناء عليه:
يمكن الاستنتاج من معلومة قدوم طقم مجلس الأمن القومي الأمريكي كمستشارين للسعودية أن أمريكا تحت إدارة جمهورية جديدة ستنخرط بشكل أكبر بالحرب ضد داعش، حتى بعد معركة تحرير الموصل المرتقب حدوثها بأواخر أكتوبر 2016 حسب المتداول، وأن مقدم هذا الطقم للتمهيد لتغير السياسات تلك، وهو ما سيتطلب دور أكبر وأوسع للقيادة المركزية الأمريكية بالشرق الأوسط بالسعودية لتنسيق تلك الحملة باستعارة تجربة الجهاد الأفغاني ضد السوفيت، والذي أصبحت فيه باكستان مقرًا مركزيًا موحدًا لتنسيق هجمات المجاهدين، فتكون السعودية مماثلة لهذا الدور الباكستاني في الحرب بسوريا، فبالتالي مطلوب استعادة تلك التجربة وقت إدارة ريجان – بما أن متبني طرح القرن الأمريكي هم بالضرورة متبني الطرح الريجاني حول الإدارة الأمريكية للعالم – مع استبدال السعودية بباكستان، وهو ما يتطلب مرونة أكبر مع دور سعودي، وعدم حدوث توتر لترتيب البيت السني للاصطفاف بتلك الحرب.
النقطة التالية هي شرح تعامل السعودية مع طرح الإدارة الحالية الأمريكية بتوسعة التحالفات مع الإيرانيين والأتراك، على أن نسهب بمحدد الخطر الإيراني على السياسة السعودية، فهنا كما سبق أن نوهنا الإدارة الأمريكية معنية بالقضايا العالمية وليس الاهتمامات المحلية مع توسعة الأدوار للوكلاء، وبالتالي هي تنظر للإشكالية السورية والدور التركي والسعودي والقطري فيها ضد إيران بمنظور كمي وإجمالي، بمعنى أنه طالما حلفاؤها الأساسيين الأربعة في الشرق الأوسط أي تركيا والسعودية وإسرائيل وإيران (بعد إتمام الاتفاق النووي) معها في تناقض فهذا لا يناقض المصلحة الأمريكية، بل بالعكس يجعل الحوكمة على هؤلاء الحلفاء أوسع وأسهل، طالما أن هذا التناقض لا يتماس مع العلاقة الامريكية ومحدداتها مع كلا منهم، فالإدارة الأمريكية لا تمانع من دور سعودي وتركي بسوريا والعراق ضد إيران طالما أن هذا الدور لا يؤثر على محادثاتها مع إيران بجنيف، وطالما لا يفضي هذا الدور إلى تحالف تركي سعودي لا يمر بأمريكا، والسعودية مدركة لهذا، فبناء عليه ما تمارسه من أدوار مخالف لوجهة النظر الأمريكية خاصة بمصر وسوريا تعلم يقينًا أنه لن تقف بوجهه الإدارة الأمريكية ولديها هامش المناورة فيه حتى لو لم ترض عنه أمريكا، وإن اقتضت الضرورة فأمريكا لديها من وسائل الضغط حتى لا يتعدى هامش المناورة ما تقبله الإدارة الأمريكية كضغطها لانسحاب السعودية بـ 2013 من التقدم لعضوية مجلس الأمن.
أما بالنسبة لإجابة السؤال الثالث: ماذا السعودية فاعلة إزاء تخفيف كثافة الوجود الأمريكي بالخليج؟ فقد قدمنا جزءًا منه أعلاه بالتشبيك مع مشروع القرن الأمريكي الجديد، ولكن المسألة أكثر تعقيدًا، فالسعودية تدرك على المدى البعيد أن أمريكا بطريقها خلال العقد القادم لتخفيف هذا التواجد، وثانيًا كما نوهنا هذا التواجد لن ينفعها بالتعامل مع التحديات الداخلية، وثالثًا لدى السعودية توجس حقيقي من أن التقارب الأمريكي مع إيران لن يعصمها من الخطر الإيراني، سواء غير المباشر عبر وكلائها، أو المباشر بإمكانيتها غلق مضيق هرمز وصواريخها بعيدة المدى، فبالتالي أصبح واجبًا على السعودية أن تطور أدواتها بنفسها، وأول تلك الأدوات هي درع الجزيرة.
وكما سبق ونوهنا في محدد العامل الخليجي بالسياسة السعودية فإن إشكالية مثلث الإمارات – قطر – السعودية هو العائق الأساسي الذي منع منذ تأسيس درع الجزيرة بعيد تأسيس مجلس التعاون الخليجي نفسه بسنتين أن يكون قوة فاعلة حقيقية، وكل المقترحات الطموحة لتطويره فشلت لاختلال ميزان القوة كمًا ونوعًا بين السعودية وبقية الدول الخليجية، وهو ما يعني أن درع الجزيرة سيتحول إلى قوة سعودية ولكن بواجهة خليجية، وهذا ما جعل الدول الخليجية تلجأ بالأساس إلى مظلة الحماية الأمريكية كاختيار مفضل عن العمل العسكري الخليجي المشترك، إلى أن تم تطوير مقترح بـ 2005 يهدف إلى زيادة وتطوير قوات الدرع على أن تكون كل قوة مشاركة تابعة بقرارها لدولتها وليس للقيادة المشتركة للدرع!
وهذا بحث يشرح تلك الإشكالية.
ولكن مع قدوم ثورات الربيع العربي واقتحامها الخليج من خلال الانتفاضة البحرينية ومظاهرات الكويت ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت بإمارة راس الخيمة وكان داعمًا لها إخوان الإمارات – كما تبين من أوراق خلية الإمارات – ومن ثم أصبح هاجس انتقال عدوى الثورات للخليج أمرًا حقيقيًا، استغلت السعودية هذا الخوف وتلك المخاطر للدفع بدور أكبر لدرع الجزيرة تمثل بدخوله البحرين، ولكن هذا بالرغم من أنه كان دافعًا للعمل العسكري الخليجي المشترك للأمام لم يسبق مثيله، ولكنه أيضًا كان له ضررًا بتحول هذا العمل المشترك للأمن الداخلي منافسًا ومنازعًا لأدوار أجهزة الأمن المحلية، بدلاً من الأمن الاستراتيجي المتعلق بالتهديد الإيراني، وثانيًا هذا التدخل لم يعالج تلك المشكلة إذا إن بعد فض اعتصام اللؤلؤة بالمنامة سحبت الكويت قواتها المشاركة خشية من احتجاجات شيعية على هذا التدخل الرابط بحث في تلك الإشكالية.
ولكن يبقى أن تلك خطوة أزالت الكثير من المحاذير وحققت بالفعل عملاً عسكريًا مشتركًا ناجحًا من خلال قوات الدرع يمكن التأسيس عليه.
والنقطة التالية المتوقعة في هذا الأمر هو أن تكون تلك القوات تستوعب الخصوم لكل دولة على حدى تبعًا لمنطق تأسيسها، فبينما السعودية عدوها الأساسي هو إيران وحلفاؤها من العراق إلى سوريا إلى الحوثي، نجد الإمارات عدوها الأساسي الإسلاميون والجهاديون كعدو عسكري، بينما نجد قطر تتفق بالعداء للنظام السوري ولكنها لا تجد غضاضة في الإسلاميين ولا تعتبرهم أعداءً لها، بينما عمان تعترض بشكل علني على اعتبار إيران عدو، فهنا ستألف السعودية بين منظومات الأعداء تلك للوصول لصيغة وسط تسمح بتوسعة دور الدرع، وهو بالفعل ما قد تم بالقمة الخليجية السابقة، حيث إنه بالرغم من أن القمة قد سبقها لاءات ثلاثة عمانية وهي لا للاتحاد ولا للعملة الخليجية الموحدة ولا لتوسعة دور الدرع، فقد صدر عن القمة القرار بتكوين القوة الشرطية الخليجية الموحدة، والتي ستكون معنية بمواجهة الاضطرابات الداخلية بدلاً من الدرع، وهو ما يعني توسعة دور الدرع بالأمن السياسي والاستراتيجي وليس أمن الأسر المالكة الخليجية، ومن المرجح أن عمان قبلت بهذا في مقابل أنه كان من قرارات القمة أن السياسة المتبعة من الخليج للتعامل مع إيران هي سياسة حسن الجوار، وقد أعقب تلك القمة تصريح لوزير الخارجية القطري بأن درع الجزيرة سيتم تطويره حتى يصبح ناتو خليجي.
وهذا التصريح بالفعل شديد الدقة حيث إن استراتجية التطوير للدرع قائمة بالأساس على التكامل بينه وبين الناتو وأهدافه، خاصة المتعلق بالدرع الصاروخي الذي يطمح الناتو لبنائه ليمثل قوس حصار ضد كل من روسيا وإيران والصين.
ويمكن الاستزادة هنا عن العلاقة بين الخليج والناتو.
الاتجاه الثاني للتعامل مع تقليل التواجد الأمريكي هو ما يمكن تسميته “دبلوماسية الشيكات السعودية” أي تمويل وتكوين ميليشيات وجيوش، بل وتمويل حروب كاملة، وهذا هو ما انتهجته السعودية في تمويل ألوية من الجيش الحر بسوريا وتحديدًا لواء اللاذقية وزهران علوش، ومن المرجح أن تنتهجه السعودية بالتنسيق مع الإمارات بتنسيق حملة السيسي بليبيا مقابل أدوار أكبر لمصر بالأزمة اليمنية بدا تبين أخبارها، هنا هذا مختلف عن الهاجس السابق شرحه إزاء الدول العربية العسكرية، أو أول استجابة برجماتية له، فمن ناحية كون أن السعودية هي من تنفق على الاقتصاد المصري فهو ما يجعلها مطمئنة تجاه أي نوايا مصرية، وثانيًا التحفيز بالمخاطر، أي كون النظام المصري مستمرًا بحالة سيولة ويواجه مهددًا وجوديًا متمثلاً بالإخوان المسلمين سيجعله بحالة احتياج دائم للغطاء الإقليمي الخليجي، بالشكل الذي يحقق للسعودية الحالة العربية الأمثل كما شرحنا أعلاه، أي أن يستمر النظام الإقليمي العربي ولكن بمركزية الاحتياجات الخليجية للعمل العربي المشترك وتوظيف المقدرات المصرية للتعامل مع تلك التهديدات.
ومن هنا هذا أول مدخل تفسيري للتقارب الحالي، أو الممكن حاليًا، مع الإخوان المسلمين، والذي بدأ من عهد الملك الراحل عبد الله، حينما قابل السفير السعودي بالقاهرة الدكتور ياسر علي وعرض عليه وساطة سعودية بين الإخوان والنظام، والذي كان بدون تنسيق مع النظام المصري وهو ما نتج عنه اعتقال ياسر علي بعد هذا اللقاء مباشرة، المنطق هنا هو الضغط على النظام العسكري الحالي بمصر بحيث يكون خاضع لتهديدات دائمة تجعله لا يمثل خطرًا على السعودية، وتستطيع دائمًا توظيفه والاستفادة القصوى منه، ومن المرجح أن يستمر خط دبلوماسية الشيكات هذا وتتوسع به السعودية بعهد سلمان، إذ إن هذا أقرب وأدنى لتجربته بدعم الجهاد الإسلامي بأفغانستان والبوسنة.
والعامل الثالث هو اتجاه السعودية لتطوير صناعة عسكرية مستقلة، ومثال عليه الصفقة التي أشار إليها تقرير مركز الخليج أعلاه بين السعودية ووزير الدفاع السويدي، التي استقال على إثرها وزير الدفاع السويدي، نظرًا لأنه تخطى بها القواعد التقليدية بالسويد لمثل تلك الصفقات، وستركز السعودية هنا على ثلاثة جوانب أكثر من غيرهم، هم تطوير مقدرات سلاحها الجوي، والثاني تطوير مقدرات لحروب الجبال للتعامل مع التحدي الحوثي الذي يمكن أن ينتقل لسلاسل جبال عسير، ثم تطوير مقدرات قواتها على خوض الحروب اللامتكافئة أو حروب الإرهاب.
المحدد التالي بالعلاقة بالأمريكي هي علاقة أمريكا بإسرائيل، أو بمعنى آخر كون أمريكا هي التي تستطيع أن تحدد مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي – من وجهة نظر السعودية -، فبالرغم من أن بموضوعية السعودية هي أقل الدول الخليجية في العلاقة المباشرة بإسرائيل مقارنة بقطر والإمارات والأردن، ولكن كما أشرنا فإن من المحددات الأساسية للسياسة الإقليمية السعودية التمدد بفراغ الريادة العربية، فبطبيعة الحال من يريد أن تكون له الريادة العربية عليه أن يتصدر للقضية الفلسطينية، ولكن ليس هذا هو المحدد الوحيد، فلدى السعودية رؤية صحيحة إلى حد ما أن قضية الصراع العربي الإسرائيلي ليست متعلقة بفلسطين وحدها، بل بعمق فلسطين الاستراتيجي المتمثل بلبنان والأردن وسوريا والعراق، أي بيئة السعودية والخليج الشمالية، وبالتالي تكون لدى السعودية نظرية من خلال حروب الخليج المختلفة هي أنها إذا لم تعمل بعمقها الشمالي سينتقل عدم الاستقرار إليها جنوبًا, بالإضافة لحاجة السعودية إلى وجود مرفأ لها على البحر المتوسط، هذا كان المنطق الحاكم لمبادرتها للسلام الشامل التي تقدم بها الملك فهد بقمة فاس سنة 1982 ثم المبادرة العربية التي تقدم بها الملك عبد الله سنة 2002 وهو نفس المنطق الذي جعل السعودية تدخل دوامة الحرب الأهلية اللبنانية إلى أن كللت جهودها بتوقيع اتفاقية الطائف التي أنهت الحرب الأهلية، وأتت برجلها رفيق الحريري رئيسًا للوزراء، وهو نفس المنطق الذي يجعلها أيضًا تستثمر بالجيش اللبناني بدبلوماسية الشيكات، بالرغم من إدراكها وقوع الجيش اللبناني داخل دائرة هيمنة حزب الله، وحتى بعد توقف الدعم السعودي للجيش اللبناني حدثت وساطة فرنسية لاستمرار هذا الدعم من خلال فرنسا.
مجددًا المنطق هنا هو أن تكون بيئتها الشمالية هي بيئة الحرب بالوكالة بينها وبين إيران بدلاً من أن تنتقل تلك الحرب إليها بالخليج، وهو نفس المنطق الذي عبر عنه عبد الله ملك الأردن في استغاثته بدول الخليج وقت اشتعال الحراك الأردني، أنه إذا لم تتحرك الدول الخليجية لنجدته ستجد تلك الدول الثورات قد انتقلت إليها، فهنا لكي تمارس السعودية دورًا بتلك المنطقة سيكون عليها أن تضطلع بالجهد الأساسي في عملية السلام، وهو الذي بدأت قطر منافستها فيه، باحتضانها لحماس وتقديمها لمبادرة خاصة بها للسلام قائمة على تبادل الأراضي، لنفس الأسباب ولأسباب المنافسة الخليجية الذاتية التي شرحناها أعلاه.
لذا من المتوقع تطورًا في السياسة الخارجية السعودية حسب تقرير لمؤسسة راند وهو أن تسمح أمريكا لدور أكبر لمبادرة السلام السعودية، كثمن ترتضيه السعودية لكي لا تخرب مساعي أمريكا لإتمام الاتفاق النووي مع إيران، ويمكن الاطلاع على ملخص التقرير الذي يتناول احتمالات رد الفعل السعودي والإسرائيلي على إتمام هذا الاتفاق هنا.
وهذا هو رابط تحميل التقرير كاملاً.
المحدد التالي بالعلاقة مع الأمريكي هو محدد النفط: والكلام هنا مختلف عن مسألة تأسيس أرامكو للنفط، نتحدث هنا عن الدرس الذي استخلصته السعودية من تجربتها الممتدة ما بين عام 1973 الى نهاية الثمانينات، قبل حرب أكتوبر بعام واحد كانت أمريكا أعلنت خروجها من اتفاقية بريتون وودز وإنهاءها عمليًا، أي خروجها من نظام الغطاء الذهبي لعملتها واعتمادها على مجمل صادرتها للعالم كغطاء لعملتها، وهو ما يعني عمليًا أنه ليس هناك شيء صلب يقيم الدولار، وأن الدولار هو الذي يقيم نفسه بنفسه، ودخلنا في عصر اقتصادي غريب يحدده ماكينة طباعة الدولار بالخزانة الأمريكية! ولكن عندما كان هذا النظام آخذًا بالتأسيس حدثت حرب أكتوبر ومعها قرار حظر النفط الذي قاد الموقف الضاغط فيه الملك فيصل، وبعد أن انتهت حرب أكتوبر ومعالجة آثارها بدخول مصر في تسوية منفردة، كان لا بد من التعامل مع الآثار الجانبية لتلك الحرب، وعلى رأسها إمكانية حدوث تمرد جديد من السعودية أو استخدام سلاح النفط، كان هذا مع مجيء إدارة ريجان عندما اعتمد مبدءًا للسياسة الأمريكية بالشرق الاوسط بمرتكزين: الأول الالتزام بأمن إسرائيل والثاني هو سرعة الوصول لمنابع النفط، والذي تطور لاحقًا مع سقوط الاتحاد السوفيتي إلى سرعة الحوكمة بإمدادات النفط، وهو المبدأ الذي اعتمدته بالأصل إدارة كارتر بآخر عهدها، فهنا وتزامنًا مع هذا المبدأ بدأ سيناريو هبوط النفط العنيف بالثمانينات، والذي كان ببدايته طبيعيًا ومنطقيًا اقتصاديًا، ولكن مع منتصف الثمانينات أصبحت تلك الأزمة غير منطقية، حيث إن السعودية قد خفضت إنتاجها النفطي لكي يحدث إعادة ضبط للأسعار، ومع ذلك استمرت الأسعار بالهبوط، وهذا كان بسبب أن الأمريكان استخدموا سياسة تسهيل كمي وطباعة للدولار حتى يتم التأثير على مؤشر البترو- دولار، حتى يتم تثبيت هذا النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وحتى تعلم السعودية أن استخدام النفط كأداة للضغط على الدول الغربية ليس متاحًا مستقبلاً، وأن السعودية هي التي ستتضرر من هذا وليس أمريكا! ومن ثم انتهت الأزمة عندما قررت السعودية أن تلتزم بحصتها في إمداد الطلب العالمي وليس تبعًا لاحتياجاتها الوطنية، وأنها لن تخل بتلك الحصة أو تخفضها مهما كان الظرف وهو ما يشرحه المحور الاقتصادي من نفس تقرير حالة الخليج المشار إليه.
فمن هنا لا تجد السعودية غضاضة في سياسة زيادة إنتاجها النفطي، حتى لو استمر نزيف خفض الأسعار، إذ إنها ترى في تلك السياسة هي الاستجابة الأمثل لتحول أمريكا لمنتج للنفط الصخري والغاز، اذ إنها ترى أن التشبيك مستقبلاً سيكون على أساس احتياج أمريكا للسعودية للتأثير على الإنتاج الإجمالي لروسيا والصين إذا ما تأثرت احتياجاتها النفطية، وأيضًا فالصين متأثرة سلبًا بانخفاض الأسعار من جهة أخرى، إذ إنه من ناحية يجعل الطلب أعلى على المنتجات البترولية من الغرب مقابل المنتج الصيني، كما أن انخفاض سعر البترول يضرب خطط الصين بخفض سعر عملتها.
وهو ما نوه إليه إجمالاً أيضًا هذا التقرير الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات، وإن لم يستفض بشرحه، ولكنه يحمل دلالة على أن هذا هو الاتجاه الذي ستكمل به السعودية مهما كانت مخاطره.
هناك عامل آخر متعلق بمحدد النفط ومتعلق أيضًا بعلاقة السعودية ببيئتها الخليجية أو تحديدًا قطر، حيث إه مع تكلفة النفط الأحفوري العالية مقارنة بالغاز سواء مسالاً أو من خلال المد عبر أنابيب وخطوط نقل، حتى مع سياسة تخفيض الأسعار سيكون الغاز هو الاختيار المفضل لتلبية الطاقة العالمية مقارنة بالنفط، وهو ما يعني اختلال التوازن أيضًا بين السعودية وقطر لصالح قطر، إذ إن قطر هي أكبر منتج للغاز بالخليج، وهي بالفعل تطمح للدخول بمشاريع محطات تسييل الغاز بجنوب أوروبا لتلبية الطلب الأوروبي، وبالفعل كان أحد استثمارات قطر بعلاقتها بإدارة الرئيس مرسي هو الاتفاق على إقامة محطة لتسييل الغاز لتلبية الطلب المصري بالتعاون مع مجموعة القلعة المصرية، وقد كان هذا المشروع يمثل بديلاً لمصر الإخوان عن الغاز الإسرائيلي، وهو المشروع الذي توقف مع الانقلاب وعاد الاعتماد مجددًا على النفط السعودي الإماراتي وعلى الغاز الإسرائيلي، ومن ثم فهذا أيضًا أحد أهم المحددات التي ستجعلنا نعلم إلى أي مدى سيكمل التقارب الجديد مع قطر ومتى سينتهي، وهو: هل سيكون هناك مشاريع مشتركة بين السعودية وقطر لنقل الغاز القطري خارج الخليج عبر السعودية إلى البحر الأحمر؟ هل سيتم التنسيق بين السعودية وقطر في السياسة تجاه الشام والعراق من أجل تعطيل مشروع خط الغاز الإيراني الذي يمر عبر العراق وسوريا ومن ثم للتصدير من اللاذقية إلى أوروبا لحساب مشروعي الغاز القطري والتركي؟
بقي عامل أخير متعلق بالمحدد الأمريكي وهو: من يصنع السياسة السعودية الأمريكية المشتركة التي تبدو مترامية الأطراف ما بين أرامكو والنفط والقواعد العسكرية؟ الإجابة أن من يملك تلك الخيوط ويحدد مسار تلك العلاقة فعلاً داخل الإدارة الأمريكية هو مكتب العلاقات السياسية العسكرية الأمريكي الذي يربط بين الخارجية الأمريكية والبنتاجون، أو الذي يمثل مندوب البنتاجون داخل وزارة الخارجية الأمريكية، هذا هو المكتب الذي تجتمع عنده كل خيوط العلاقة مع الخليج وإيران إجمالاً، ومن ثم التعرف وتتبع المواقف المعلنة عنه والشخصيات المكونة لإدارته وعقلياتهم وتصريحاتهم في ملف أوسع من هذا سيجعلنا نستطيع أن ندرك بشكل أفضل تلك العلاقة شديدة التشبيك والتعقيد، وتلك هي صفحة المكتب على الإنترنت والشخصيات المسؤولة به.
كما تجدر الإشارة بختام هذا المحور إلى أن مدير المكتب بينيت تايلوار puneet talwar كان هو المسؤول عن المحادثات السرية بشان البرنامج النووي الإيراني التي كانت بوساطة عمانية والتي أفضت إلى الاتفاق المبدئي وبالرغم من علاقته الوثيقة بكافة أركان الحكم السعودي الآن إلا أنه بالرغم من تلك العلاقة الوثيقة لم تعلم السعودية شيئًا عن تلك المحادثات حتى إعلان نتائجها وهو ما يثير الآن قلقها وهواجسها.