منذ إنشاء سلطنة الفور الثانية عام 1605م على يد السلطان سليمان سلونقا ويقبع إقليم دارفور غرب السودان أسيرًا للصراعات القبلية والعنصرية التي خلفت ورائها ما يقرب من 300 ألف سوداني، وتشريد 2.5 مليون آخرين، على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي دون أن يحرك ساكنًا.
إقليم دارفور الذي يمثل خمس مساحة السودان بات في الآونة الأخيرة بصورة خاصة مرتعًا خصبًا للصراعات المسلحة بين القبائل هنا وهناك، في ظل انشغال حكومة الخرطوم بأزماتها الداخلية والخارجية، حتى أصبح الإقليم قنبلة موقوتة وشوكة في ظهر استقرار دولة السودان توشك أن تحوله إلى “صومال” جديد إن لم يتدارك عقلاء السلطة الأمر مبكرًا قبل فوات الأوان.
ثم جاء الاقتراع الأخير والذي جرى بمناطق دارفور منتصف أبريل الماضي ليزيد حالة الجدل حول موقف حكومة البشير مما يحدث في الإقليم، حيث تضمن الاقتراع خيارين اثنين، إما أن تظل دارفور مقسمة لخمس ولايات، أو أن تعود كما كانت إلى إقليم واحد متماسك.
وبالرغم من مقاطعة العديد من القبائل وفصائل المعارضة بالإقليم لهذا الاقتراع بوصفه “غير عادل” في ظل الأجواء التي تشهدها ولايات المنطقة في الآونة الأخيرة، وهو ما أيدته واشنطن من خلال التعبير عن قلقها إزاء إجراء الاستفتاء في مثل هذه الظروف، إلا أن إدارة البشير أصرت على إجرائه تنفيذًا لمقررات اتفاق الدوحة للسلام 2011، وهو ما أفضى إلى التصويت على حال البقاء على ما هو عليه من حيث استمرار تقسيم الإقليم لخمس ولايات.
إصرار الخرطوم على إجراء الاستفتاء بالرغم من مقاطعة العديد من الفصائل، ودعمها لاستمرار حالة التقسيم يضع العديد من التساؤلات، أهمها: استفتاء دارفور هل كان خطوة نحو الوحدة أم سعيًا لتكريس الانقسام؟ ثم السؤال الأكثر حرجًا: لماذا تدعم الخرطوم خيار التقسيم؟
إقليم دارفور.. تاريخ الأزمة
يمثل إقليم دارفور خُمس مساحة السودان، يحده من الشمال ليبيا ومن الغرب تشاد ومن الجنوب الغربي إفريقيا الوسطى، وأما الحدود الداخلية من الشرق، فيتجاور إقليم دارفور مع أقاليم سودانية مثل بحر الغزال وكردفان والشمالية.
تمتع الإقليم منذ انضمامه للسودان 1916 بالوحدة والاستقرار، حيث أحكمت حكومة العهد الثنائي (1916–1956م) قبضتها على إقليم دارفور واستعملت نظام الإدارة الأهلية لإخضاع القبائل وإجبارها على الصلح، وتمكنت بذلك من السيطرة على الأمن والاستقرار واحتواء المشاكل آنذاك، لكن ما إن جاءت الإدارة الوطنية بعد الاستقلال حتى ظهرت في المجتمع بوادر تململ قبلي ما انفض ينفجر من حين لآخر.
وبين الحين والآخر وعلى فترات بعيدة كانت تنشب في الإقليم بعض النزاعات نتيجة عدة أسباب، من أهمها، النزاع على الموارد الطبيعية الأرض وبسبب النزوح والخلافات القبيلة والنهب المسلح أو بسبب سياسات الحكومات المركزية وضعف التنمية.
وظل دارفور إقليمًا واحدًا حتى عام 1994، حين قسّمه الرئيس السوداني عمر البشير إلى 3 ولايات، وقبل أن ينتهي 2012 تم إضافة ولايتين أخرتين ليصبح الإقليم خمس ولايات هي: ولاية شمال دارفور وعاصمتها مدينة “الفاشر”، ولاية جنوب دارفور وعاصمتها مدينة “نيالا”، ولاية غرب دارفور وعاصمتها “الجنينة”، ولاية شرق دارفور وعاصمتها “الضعين”، وولاية وسط دارفور وعاصمتها “زالنجي”.
ويعود نشوب النزاع المسلح في الإقليم القابع غربي السودان، إلى عام 1989، حين شبّ صراع عنيف بين الفور والعرب، وتمت المصالحة بينهما في مؤتمر عقد في الفاشر عاصمة الإقليم، ثم بعدها بعشر سنوات نشب نزاع ثانٍ بين العرب والمساليت غرب دارفور ابتداءً من عام 1998 إلى 2001، وتم احتواء هذا النزال باتفاقية سلام بين الطرفين.
ومن الملاحظ أن معظم النزاعات الدائرة في دارفور كانت لأسباب قبلية وعصبية، وليست لأسباب دينية كما يروج البعض، ونستعرض هنا أبرز تلك الصراعات القبلية، مقسمة إلى ثلاثة فترات زمنية.
أولاً: الفترة من 1968 – 1976م
- الصراع بين الرزيقات والمعاليا
- الصراع بين بني هلبة والزيادية والمعاليا
- الصراع بين بني هلبة والرزيقات الشمالية
ثانيًا: الفترة من 1976م – 1980م
- الصراع بين الرزيقات والداجو.
- الصراع بين الرزيقات والفور.
- الصراع بين الرزيقات والبرقو.
ثالثا : الفترة من 1980 – 2000م
وقد شهدت هذه الفترة ما يقرب من 22 صراعًا شارك فيها أغلب قبائل الإقليم، إلا أن قبليتي الزغاوة والمساليت كان لهما النصيب الأكبر من المشاركة في هذه الصراعات.
وثيقة الدوحة للسلام
سنوات من المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركات الممثلة لإقليم دارفور، أفرزت عن توقيع اتفاقية للسلام بين الحكومة وحركة العدل والمساواة السودانية المتمردة في الإقليم في العاصمة القطرية الدوحة، ضمن وثيقة الدوحة للسلام في دارفور، ووقع عن الحكومة السودانية رئيس الوفد التفاوضي أمين حسن عمر، وعن حركة العدل والمساواة قائدها محمد بشر.
وتتلخص أبرز بنود الاتفاقية في الآتي:
أولاً: الترتيبات الأمنية
– نزع سلاح مليشيات الجنجويد بصورة كاملة، ويمكن التحقق منها في موعد أقصاه منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2006، ويحدد مراحل منها تجميع الجنجويد والمليشيات المسلحة الأخرى في مناطق محددة خاصة قبل نزع سلاحها، وسحب الأسلحة الثقيلة.
– إعطاء ضمانات أمنية محددة في مناطق تجمع الحركات المتمردة، وتدابير أخرى ترمي إلى احتواء وخفض وصولاً إلى إزالة التهديد الناجم عن هذه القوات.
– يفرض قيودًا على تحركات قوات الدفاع الشعبية (قوات سودانية شبه عسكرية) ويطلب خفض عناصرها.
– وضع جدول زمني يؤكد أن الجنجويد والمليشيات الأخرى المسلحة ستنزع أسلحتها قبل أن تتجمع القوات المتمردة، وتعد لنزع سلاحها وتسريح عناصرها، وسيتفقد عناصر لحفظ السلام من الاتحاد الإفريقي ويتحققون من أن المناطق آمنة قبل تجمع المتمردين.
– يتعين على الحكومة السودانية معاقبة انتهاكات وقف إطلاق النار من قِبل الجنجويد والمليشيات المسلحة الأخرى، بما فيها قوات الدفاع الشعبي، من خلال نزع أسلحتها وتسريحها.
– يقيم الاتفاق مناطق عازلة حول معسكرات المهجرين وممرات المساعدة الإنسانية والتي لا تستطيع القوات المتمردة والقوات المسلحة السودانية دخولها.
– يحدد المبادئ لإدماج القوات المتمردة في القوات المسلحة السودانية والشرطة.
ثانيًا: تقاسم السلطة
– يعطي الاتفاق الحركات المتمردة الموقع الرابع الأرفع في حكومة الوحدة الوطنية السودانية، وهو موقع أبرز مساعدي الرئيس ورئيس السلطة الإقليمية للفترة الانتقالية في دارفور.
– يحدد العمليات الديمقراطية حتى يختار سكان دارفور قادتهم ويحددون وضعهم باعتبارهم منطقة.
– إجراء استفتاء شعبي في موعد أقصاه يوليو/ تموز 2010 لتحديد ما إذا كانت دارفور ستصبح منطقة اتحادية مع إدارة منفردة.
– إجراء انتخابات على جميع المستويات في موعد أقصاه يوليو/ تموز 2009 بموجب الدستور الوطني الانتقالي.
ثالثًا: تقاسم الثروات
– إنشاء صندوق لإعادة إعمار دارفور وتنميتها.
– تدفع حكومة الوحدة الوطنية 300 مليون دولار أولاً ثم 200 مليون دولار سنويًا خلال سنتين أخرتين.
– يلزم الاتفاق المجموعة الدولية بعقد مؤتمر للدول المانحة لإنشاء صناديق إضافية من أجل دارفور.
– ينشئ لجنة للعمل مع الأمم المتحدة لمساعدة اللاجئين والمهجرين على العودة إلى منازلهم.
– ينشئ لجنة لتقديم تعويضات إلى ضحايا النزاع.
حكومات الخرطوم.. الحاضر الغائب
الكثير من الخبراء حمّلوا حكومات الخرطوم المتعاقبة خلال العقود الماضية مسؤولية تفجير الأزمة في دارفور، إما بالانشغال بالصراعات الداخلية بين الأحزاب والكيانات التي شكلت إدارة الحكم في البلاد وفي مقدمتها أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي، أو بالتورط في مستنقع المواجهات السياسية والمسلحة أحيانًا مع بعض الكيانات والتنظيمات الاحتجاجية، منها اتحاد عام جبال النوبة في إقليم كردفان الذي رفع لواء التمثيل السياسي لأبناء المنطقة في البرلمان ومناهضة مصادرة الأحزاب السياسية لحقوق الأقاليم في ترشيح قيادات تلك الأحزاب في المحافظات الغائبة، كما نهض تنظيم آخر في الأنقسنا تحت مسمى اتحاد الفونج وانتهت الحقبة الديمقراطية الأولى بانقلاب الفريق عبود في أكتوبر 1964م، وإثر تفاقم الحرب في جنوب السودان وانسداد قنوات الحل السلمي ثارت في الخرطوم القوى السياسية ممثلة في حركة الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي والنقابات لتعود الحقبة التعددية مرة أخرى، وهنا تنامت حركة الاحتجاج السياسي لدى جبهة نهضة دارفور.
وبعد سنوات من الصراع والمواجهات الدامية، ارتأت حكومات الخرطوم المتعاقبة التخلي عن مسؤولياتها تجاه دارفور، وألقت على حكومات الولايات وفروعها بالمحافظات المختلفة مهمّة إدارة الإقليم.
ونظرًا لما تعاني منه حكومات الإقليم من جهل سياسي وافتقار للخبرات الإدارية، فقد أدى فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية في ظل غياب البرامج السياسية الجيدة، إلى تفاقم الأمور وازدادت معدلات الصراعات المسلحة، وهو ما تجسد في ملايين القتلى والمشردين حسبما أشارت تقارير الأمم المتحدة.
كل هذه العوامل والمعضلات مجتمعة أدت إلى خلق حالة من التوتر والصراع بين المجموعات القبلية المختلفة في الإقليم، كما أن مناخ التنافس والنزاع في دارفور جعل الإقليم سوقًا رائجة لتجارة الأسلحة وانتشار ثقافة الحرب.
ويبقى السؤال: الاستفتاء حل أم أزمة؟
من يتابع الفترة التي سبقت الاستفتاء وما تلاها من ردود أفعال يجد أن المشهد السياسي السوداني قد انقسم إلى نصفين، كل منهما يعكس وجهة نظر متناقضة مع الأخرى، وجهة نظر تمثل المصلحة الذاتية لكل فصيل وفقط، أما الشعب فهو من يدفع وحده الثمن، ويتحمل دون غيره أعباء التعنت والجهل السياسي لجميع الأطراف.
المشهد الأول: تمثله حكومة الخرطوم والتي ترى أن إجراء الاستفتاء كان أمرًا حيويًا تنفيذًا لبنود اتفاق السلام بالدوحة بصرف النظر عن الأجواء غير المستقرة التي تخيم على إقليم دارفور.
هذا الاستفتاء بحسب وزير الإعلام السوداني عبد الكريم موسى لن يسهم في تعقيد الوضع القبلي، وهو مجرد استفتاء إداري لأهل الإقليم، مضيفًا أنه يرجح ويقف مع استمرار بقاء الإقليم على نظام الولايات ليكون جزءًا من السودان الكبير، مؤكدًا أن المواطنين في دارفور ذاقوا حلاوة نظام الولايات وحقق رضا سياسيًّا ومجتمعيًّا كبيرًا، وهو كذلك يفوّت الفرصة على من يرون أن الاستفتاء عتبة أولى للانفصال.
الوزير السوداني شدد على أن الاستفتاء أحد استحقاقات اتفاقية الدوحة التي وقعتها حكومة الخرطوم وحركة التحرير والعدالة المعارضة 2011، والذي نص على “يتقرر الوضع الإداري الدائم لدارفور من خلال إجراء استفتاء يجرى على نحو متزامن في ولايات دارفور، خلال فترة لا تقل عن عام بعد التوقيع على الاتفاق”.
أما فيما يتعلق برغبة الحكومة في الإبقاء على الإقليم كولايات خمس دون توحيدها، قال نائب الرئيس السوداني حسبو عبد الرحمن، إن العودة لتطبيق نظام الأقاليم بديلًا عن الولايات مستحيلة، معتبرًا أن ذلك قد يقود دارفور إلى المطالبة بالحكم الذاتي، الذي يقود إلى الانفصال.
حسبو أضاف: علينا الاستفادة من تجربة الجنوب وعلينا ألَّا نعيد الانكفاءة، إن فعلنا ذلك سنضعف الوحدة الوطنية، وقد تتحول العودة للأقاليم إلى مناداة أو مطالبة بالحكم الذاتي.
المشهد الثاني: يمثله متمردو دارفور، ممن يرون أن التصميم على إجراء الاستفتاء في ظل هذه الأجواء يعد مغازلة لأمريكا في وقت يسعى النظام السوداني إلى كسب دعمهم وتأييدهم في رفع العقوبات الأمريكية عن الحكومة السودانية، مضيفين أن الحكومة السودانية تتيقن بأن هذا الاستفتاء لن يؤدي إلى استقلال دارفور، على أساس أن سكان دارفور أكثرهم مهجريون.
كما تساءل المعارضون لهذا الاستفتاء عن مغزى تنفيذ بعض استحقاقات اتفاق الدوحة بعد نحو 5 سنوات على توقيعه، مشيرين إلى أنه غير عادل وأن ما يشاع بشأن توحيد الإقليم يقود إلى الانفصال على غرار ما حدث في جنوب السودان، ليس أكثر من فزّاعة الهدف منها، تكريس الانقسام والتشتت بما لا يقلق حكومة البشير.
في السياق ذاته فإن موقف الولايات المتحدة الأمريكية لا يختلف كثيرًا عن موقف المتمردين، فواشنطن عبرت عن قلقها، وحذرت من أنه “إذا أجري الاقتراع وفقًا للقواعد والظروف الحالية، فلن يكون تعبيرًا صادقًا عن إرادة الشعب”.
وأكد المتحدث باسم “قوى الإجماع الوطني” المعارض في السودان، فاروق أبو عيسى، أن المعارضة ستعمل على مقاومة حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بشتى السبل، مؤكدًا أنه بمجرد زواله، سيعود إقليم دارفور باعتباره إقليمًا واحدًا، الأمر الذي ينذر بأن ملف دارفور لم يغلق بعد.
أبو عيسى أشار أنه كان من الممكن أن يتم إرجاء الاستفتاء لحين الانتهاء من حالة الصراع المسلح داخل ولايات الإقليم، والعمل على تقريب وجهات النظر بين الحركات المتمردة والقبائل بما يقود في نهاية المطاف إلى الاتفاق على خيار محدد يرضي جميع الأطراف، منوهًا أن الإسراع في تنفيذ هذا الاستحقاق عليه علامات استفهام جدلية تبحث عن إجابة.
وبعد انتهاء الاستفتاء الذي تمت مقاطعته من قبل فصائل عدة من المتمردين، والإعلان عن بقاء الوضع على ما هو عليه، من حيث تقسيم دارفور إلى عدة ولايات، يبقى السؤال: هل من الممكن أن يقود هذا الاستفتاء إلى وحدة السودان إقليمًا واحدًا في مأمن عن التفتت، أم يزيد الوضع اشتعالاً وتأزمًا ويكرس لمزيد من الانقسام الذي من المحتمل أن يتحول إلى انفصال على غرار ما حدث في الجنوب؟