في الوقت الذي كان الكل يحرص على بقاء وقف النار متماسكًا بين الجهات المتصارعة في سوريا، جرت مصائب مأساوية جديدة اعتصرت لها القلوب وشابت من هولها الولدان، بحيث لا يُمكن لأحد كان المرور عنها بسهولة قبل أن يسأل الله تعالى الشهادة للضحايا والموت الزؤام للفاعلين أيًا كانوا.
الاحتجاجات التي بدأت في سوريا منذ 2011 لم تعمر طويلًا؛ بسبب تطورها إلى حرب أهلية شملت أنحاء البلاد، وخاصة عندما توصلت الحكومة السورية والمعارضة إلى قناعة بأن الجلوس معًا لا فائدة منه، ثم ما لبثت الأوضاع حتى أخذت طورًا آخر بدخول أطراف أخرى إقليمية ودولية في أتونها، وبأهداف متناقضة وأحيانًا متشاركة، وسواء من حيث المصالح الخاصة أو من حيث الرغبة في محو سوريا من الخريطة الدولية باعتبارها الدولة المتبقية من دول الممانعة.
ففي البداية لم يكن داخل سوريا أي تواجد لأي قوى خارجية لا قوات الناتو، لا قوات أمريكية، ولا تركية، ولم تكن هبطت أي قوات إيرانية أو من مقاتلي تنظيم حزب الله أو قوات روسية، كما لم تكن هناك أي جماعات مسلحة كتنظيم الدولة “داعش” وجبهة النصرة وغيرها، باعتبارها جماعات إسلامية أخذت على عاتقها مهمة إزالة النظام السوري وإقامة الدولة الإسلامية، فالأطراف السورية هي التي انقسمت على نفسها وهي التي استدعت تلك القوى، والتي رأينا كيف فاقت مضارها على منافعها، فيما لو كانت منافع.
على مدار الأزمة، كنا حصلنا على المزيد من المشاهد الدموية المؤلمة والصور الكارثية القاتلة، وسواء من حيث أعداد القتلى والجرحى والمفقودين، أو من حيث لجوء الملايين للهرب والنجاة بأنفسهم إلى خارج البلاد، ناهيكم عن الأوضاع التي طافت بالشرور والأضرار على مقدرات البلاد ومدخراتها.
فقد أنبأت تلك الصور والمشاهد وبشكل واضح، بأن سوريا مصيرها التفسخ والانقسام، وفي ضوء أن كثيرين باتوا مقتنعين بأن القوى العالمية الكبرى متواطئة بالفعل في التضحية بالمكانة السورية وبالإنسان السوري، وحتى في حال لم يبقَ على الأرض نافخ نار، وذلك في سبيل تطبيق خريطة جديدة للمنطقة تفوق مؤامرة “سايكس بيكو” والتي مزقت الأفئدة العربية قبل تمزيق بلدانها.
كان الأسوأ أن ضراوة الحرب بين الأطراف المتقاتلة بدت متكافئة، حيث كانت وفي كل يوم تتبادل ادعاءات النصر المؤزر على الخصوم، إما بالإعلان عن قتل المزيد من المقاتلين، أو بدحرهم والاستيلاء على عتادهم، أو بتحرير الأرض، أو باستردادها، ولذلك كان أمد الحرب ممتدًا وحافلًا باقتراف الجرائم والتي ليس لها رخصة أو غفران.
خلال الفترة الأخيرة، كنا شهدنا ما يُشبه التعاونات بين الجيشين الأمريكي والروسي والتي أسفرت عن التوصل إلى اتفاق حول وقف لإطلاق النار، ليس حنانًا بسوريا أو لإنجاح مفاوضات جنيف المنتظرة، وإنما لضيقهما ذرعًا بنشاطات وأهداف بعضهما البعض، حيث لم تكد تهدأ الأوضاع وتزول المخاوف، حتى عاودت الحرب أوارها وعلى نحو أشد، بحيث ضجت الضمائر الحية بأجمعها عندما شاهدت كيف يتم تدمير حلب على رؤوس سكانها.
إن ما لا يقل خطرًا، هو أن القوى المتدخلة لا يمكنها التخلي بسهولة عن الأهداف التي خاضت تدخلاتها من أجلها، وفي ظل عدم تواجد أهداف وسطية أو إنسانية مشتركة ذات قيمة، ولذلك فإن كافة الجبهات ستكون غير قابلة للهدوء، وفي ضوء أن تلك القوى تستعد لخوض جولات أخرى جديدة من المعارك وبدون أي حساب للأرض والإنسان.
على أي حال، وبناءً على تطورات الأوضاع هناك، فإن أحدًا لم يعُد، وحتى من ليس لديه حفنة من ضمير، لديه القدرة على استيعاب ما يحدث، خاصة وفي حضور يقين لا جدال فيه بأن ما يحدث من قتل وتهجير وتدمير وتخريب يتلاءم والمصالح الأمريكية والوجود الإسرائيلي منذ البداية، وفي النهاية، ستكون له آثار استراتيجية بعيدة المدى لا تنحصر على سوريا بمفردها بل ستشمل النطاق العربي برمته.