ترجمة وتحرير نون بوست
تبدو الانتخابات الرئاسية الأمريكية لهذا العام استثنائية للغاية، فمن كان يتوقع الصعود المذهل لشخص كدونالد ترامب أو لمرشح يطلق الاستفزازات الذكية كبيرني ساندرز؟
ولكن الولايات المتحدة ليست المكان الوحيد الذي انعطفت فيه السياسة الديمقراطية الليبرالية في منحنى غير متوقع، حيث يسلّط بيير بريانسو، في مقالة رائعة له في صحيفة بوليتيكو، الضوء على الانهيار الأخير للأحزاب اليسارية التقليدية في أوروبا، ويوضح لنا، بحجج مقنعة، سبب بلوغها الحضيض؛ فالوضع الاقتصادي الكئيب، تحديات الإرهاب، وأزمة اللاجئين تعمل جميعًا على إثارة المشاكل في وجه زعماء أوروبا التقليديين، وبشكل خاص اليساريين، والذين لا يمتلكون إجابات موحدة ومقنعة عن سبل الخروج من مآزقهم، ونتيجة لذلك، يخلص بريانسو بأن “اليسار الأوروبي يبدو في كثير من الأحيان منقسمًا إلى معسكرين: الأول يخسر الانتخابات، والثاني لا يبدو مهتما للفوز بها”.
ولكن على الرغم من ذلك، لا يبدو بأن اليمين الأوروبي يبلي أفضل من اليسار؛ فكما يشير الصحفي البريطاني فريدي جراي في صحيفة السبكتيتور، تعيث الفوضى أيضًا في صفوف المحافظين التقليديين، “في كل مكان تنظرون إليه، بلدًا تلو الآخر، يفوز القوميون المجانيين ويرتعد البراغماتيون المحافظون”كتب جراي، وتابع: “انتصار مرشح حزب الحرية النمساوي، والذي يحب حمل السلاح، نوربرت هوفر، في 25 أبريل، هو أحدث واقعة في سلسلة المكاسب الجديدة التي تحققها الأحزاب الشعبوية اليمينية”؛ فالجيل الجديد – والذي يتضمن ماري لوبان من حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وزعيم حزب الاستقلال البريطاني نايجل فاراج، وجه ضربة قاصمة للمؤسسة المحافظة.
فضلًا عن ذلك، يشير جراي في مقالته بأن بوريس جونسون، عمدة حزب المحافظين في لندن، بدأ يروّج لنفسه باعتباره ترامب المنتظر، حيث يهدف جونسون لتقويض منافسه، ورئيسه من الناحية العملية، رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، والذي يعمل جاهدًا لدرء الهزيمة الكارثية في استفتاء الشهر المقبل بشأن ما إذا كانت بريطانيا يجب أن تبقى في الاتحاد الأوروبي، حيث يرغب جونسون أن تغادر المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، بينما يريد كاميرون أن تبقى بلاده ضمن الاتحاد، وهذا الانقسام، الذي يتنامى بمرارة، تصل آثاره لتمزق صفوف الحزب ذاته؛ فتمامًا كالجمهوريين في الولايات المتحدة، يعمل المحافظون البريطانيون كما يقول جراي على “تمزيق أنفسهم إربًا”.
ما زلنا نصنف السياسيين باعتبارهم “يمنيين” أو “يساريين” دون أن نلحظ بأن هذا هو التمييز يعود تاريخه إلى الثورة الفرنسية
في الوقت الذي يشتد فيه الصراع السياسي، يتزايد الشعور بأن الانقسامات الأيديولوجية السياسية القديمة تنهار وتتمزق على طول الطريق؛ فنحن ما زلنا نصنف السياسيين باعتبارهم “يمنيين” أو “يساريين” دون أن نلحظ بأن هذا هو التمييز يعود تاريخه إلى الثورة الفرنسية؛ فالمرشح الرئاسي “المحافظ” ترامب، والذي قضى جزءًا كبيرًا من حياته يغازل الديمقراطيين، لا يبدو على الإطلاق كشخص عازم على الحفاظ على هذا التفريق، لأنه شخص متمرد وعدواني للغاية، حيث خاض حربًا ضد مبادئ حزبه بمجرد معارضته لمبادئ الجمهوريين المقدسة بالتجارة الحرة وفتح الحدود، وهو الأمر الذي يساعدنا ربما على تفسير سبب تصريح المحافظ الأمريكي تشارلز كوتش مؤخرًا بأن هيلاري كلينتون قد تكون رئيسة أفضل للجمهورية من دونالد، فكلينتون بدأت عملها كجمهورية تتبع مبادئ باري غولدووتر، وقامت بتغيير مواقفها مرات عديدة، لدرجة أضحى من الصعب معه الوقوف على ما تؤمن به حقًا.
من جانبه، أبدى ترامب إعجابه بالديكتاتور الروسي فلاديمير بوتين، وهي نقطة ضعف يتقاسمها ترامب حاليًا مع نظرائه الأوروبيين مثل فاراج، لوبان، وأوربان؛ فالبنسبة لمحافظي القرن الـ20، كان الدفاع عن الحرية هو المعتقد الراسخ والشرط الذي لا يمكن الاستغناء عنه، أما الآن فأضحى أمرًا ثانويًا.
على أرض الواقع، قد تعمل الإشادة الصريحة لغير المحافظين، المنتمين اسميًا للمحافظين، بالاستبداد والعنصرية على إثارة الهلع في صفوف أسلافهم في الحزب الديمقراطي المسيحي الذي ساعد في بناء الاتحاد الأوروبي في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وغني عن القول، بأن هؤلاء المحافظين المؤيدين لأوروبا كانوا مدفوعين في الخمسينيات والستينيات بوعي متجدد مكّنهم من معرفة المآل الذي قد تودي إليه إطلاق مثل هذه الإشادات.
يصف ساندرز نفسه بأنه اشتراكي ديمقراطي، ولكنه وجمهوره لا يبدون وكأنهم يمتلكون فهمًا واضحًا لمعنى هذا المصطلح
فمثلًا، أعرب أوربان بصراحة تفضيله لسياسية “الديمقراطية غير الليبرالية”، وهو ذاك النوع من الديمقراطية الذي يجسده بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولكن إذا وفى أوربان بكلمته ودحر المؤسسات الديمقراطية في هنغاريا، فإن ذلك سيرقى ليكون بمثابة ثورة يقوم بها اليمين، وليس دفاعًا محافظًا على الوضع الراهن، وفي الوقت عينه، وفي خضم أزمة اللاجئين التي شهدت وصول عشرات الآلاف من المسلمين إلى هنغاريا، عزز أوربان انتماءه السياسي من خلال وصف لنفسه بأنه مدافع شديد عن “القيم المسيحية” في أوروبا، وذلك في الوقت الذي يتحول فيه الأوروبيون بصورة مطردة إلى العلمانية أكثر من أي وقت مضى.
فضلًا عن ذلك، يصف بيرني ساندرز نفسه بأنه اشتراكي ديمقراطي، ولكنه وجمهوره لا يبدون وكأنهم يمتلكون فهمًا واضحًا لمعنى هذا المصطلح؛ فتاريخيًا، الاشتراكيون هم الشعب الذي يؤمن بأن الدولة يجب أن تمتلك وسائل الإنتاج، أو تسيطر على أقل تقدير على أهم مرافق الاقتصاد، ومن هذا المنطلق، فإن وعود ساندرز الغامضة بتشريع التعليم الجامعي المجاني أو تفكيك بنية البنوك هي مجرد فتات لا يرقى للتعبير عن معنى الاشتراكية الحقيقي؛ فساندرز لطالما تشدق بانتقاد جولدمان ساكس، ولكنه لم يقترح تأميمها، اتباعًا لمبادئ الاشتراكية، على أقل تقدير.
من الملفت حقًا أن يعتمر ساندرز عباءة الاشتراكية في اللحظة التي يتخلى عنها نظراؤه الأوروبيون، الذين لطالما اعتبرهم نماذج يقتدي بها؛ فكما يشير بريانسو في مقاله “السياسيون، كوزير الاقتصاد الاصلاحي الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالكاد يخفون ازدراءهم لنظام الحزب البيروقراطي الذي ضاعت ضمنه المفاهيم التقليدية لليسار واليمين”، وفي الوقت عينه، يجد حزب العمال في بريطانيا نفسه متورطًا في جدل حول التصريحات المعادية لإسرائيل، والتي يحمل بعضها إيحاءات واضحة معادية للسامية، والتي أدلى بها بعض موظفيه الرائدين، مما اضطر زعيم حزب العمال جيرمي كوربين للموافقة على إجراء تحقيق مستقل في مزاعم تعصب حزبه، وبالتأكيد لا شيء يبدو أكثر دلالة من هذا على مدى جنوح الحزب بعيدًا عن قيمه القومية الأصلية.
من الواضح أن الفوارق الطبقية لا تزال موجودة، ولكنها أكثر تعقيدًا مما كانت عليه
تشير فضيحة حزب العمال الأخيرة بشكل لا لبس فيه للارتباك العام الذي نجد أنفسنا ضمنه الآن؛ فأقطاب الأيديولوجية القديمة لليسار واليمين، كانت غير مرة تعكس واقعًا اجتماعيًا مهمًا، وتمثل الفجوة الأساسية ما بين الطبقة العاملة الصناعية والزراعية وبين الأشخاص الذين يعطونها الأوامر، ولكن المجتمعات الغربية لم تعد منظمة بشكل مباشر كما كان عليه الوضع منذ زمن، فعدد الأشخاص الذين يعملون على خطوط التجميع وفي المزارع تضاءل بشكل حاد، وسيواصل بالانخفاض على مر الزمن، والحركة النقابية، التي كانت العمود الفقري للأحزاب السياسية اليسارية، تلاشت دونما رجعة، والكثير من أعضاء الطبقة الدنيا الحديثة يمارسون أعمالًا في قطاع الخدمات بدلًا من دورهم التقليدي في قطاع التصنيع، حيث تحوّل هذا القطاع الأخير ليضحي مُسيطرًا عليه بشكل مطرد من قِبل النخب المحافظة الصغيرة والمدرّبة بشكل كبير.
ومن هنا يحق لنا التساؤل، هل المبرمج الذي يعمل مع جوجل يمثل اليسار أم اليمين؟ وماذا عن المزارع الذي يعتمد على دعم الدولة؟ أو العامل الخبير الذي يقوم بتجميع المعدات الطبية المتطورة؟ وهل يعد الشخص الذي يعمل في أحد البنوك التي تقدم خدمات الإقراض الإلكترونية (peer-to-peer lender) جزءًا من الطبقة الرأسمالية الحاكمة؟
من الواضح أن الفوارق الطبقية لا تزال موجودة، ولكنها أكثر تعقيدًا مما كانت عليه؛ فالتحديات السياسية الكبرى لعالم اليوم، كمسائل زواج المثليين، حياة السود مهمة، وإدماج المهاجرين المسلمين، تثير في كثير من الأحيان تحديات ثقافية بذات قدر استثارتها للعوامل الاقتصادية، على سبيل المثال، لطالما عمد كل من الديمقراطيين الأمريكيين وزعماء حزب العمل البريطاني لتصوير أنفسهم كمدافعين عن الأقليات التي تنتجها المجتمعات المتعددة الثقافات على نحو متزايد، ولكنهم اكتشفوا مؤخرًا بأن تلك الأرضية الانتخابية الأساسية القديمة التي يعولون عليها، تحديدًا الطبقة العاملة البيضاء، تحوّلت بعيدًا عنهم، وقدمت ولاءها لأشخاص كترامب وفاراج، ولكن الضبابية الفكرية التي يحوزها أولئك الشعبويون الجدد، والذين يدينون بنجاحاتهم للقبلية وللشعور الغريزي وليس للبرامج القوية والمتماسكة التي طرحوها، تقودنا للتساؤل حول إذا ما كانوا قادرين حقًا على الإتيان باستجابات أفضل من تلك التي نمتلكها اليوم.
ما نراه الآن، وفي جميع أنحاء الغرب، هو نظام سياسي متخلف بشكل كبير عن الحقائق الاجتماعية المعقدة؛ فهل الولايات المتحدة مستعدة حقًا لحقبة ما بعد الطبقة المتوسطة السياسة؟ لست متأكدًا من الإجابة، ولكن الشيء الأكيد هو أن المشكلة بحد ذاتها تستقطب الكثير من الانتباه، حيث تقترح إحدى المؤسسات الفكرية المحافظة أن نأتي باسم جديد للرأسمالية، وهنا سأتمنى لهم حظًا سعيدًا بهذه المهمة الغريبة! كما انطلقت دعوات أكاديمية لتأسيس حزب ديمقراطي اجتماعي أمريكي، وهو اقتراح يشبه طرح استجابات من القرن الـ19 لمشاكل القرن الـ21، آخذين بعين الاعتبار الجمود الذي يخامر أحزاب الديمقراطيين الاشتراكيين في أوروبا، ومن جانب آخر، يقترح أحد المفكرين تأسيس حزب جديد تمامًا يسمى بـ”حزب الابتكار”، مفترضًا بأن مشاكلنا الراهنة ستلقى إجابات كاملة في وادي السيليكون، ولكن الحالة المزرية للثقافة المدنية التي نلمسها على الفيسبوك وتويتر تشير إلى أننا لا يجب أن نحبس أنفاسنا جماعيًا منبهرين بهذا الاقتراح.
بالطبع، يمكن أن تكون هذه الرؤى المستقبلية خطوة على الطريق الصحيح؛ فمن المرجح أننا نواجه نوعًا من إعادة ترتيب الهيكلية السياسية الأساسية، المترافقة ببعض التحولات العميقة في ميزان القوى الاجتماعية، ولكننا لا نستطيع تصور الاتجاه الذي ستمضي به هذه التحولات، بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال أكثر تطرفًا، وهو أن الديمقراطية الليبرالية الغربية بشكلها الذي تعودنا عليه، تشهد اليوم نهايتها السياسة، وتأثير ذلك قد يكون صاخبًا للغاية، وإذا حكمنا على الأمور من خلال التشنجات الحالية التي يقاسيها النظام السياسي في الغرب، لن تبدو احتمالية حصول ذلك مستبعدة للغاية.
المصدر: فورين بوليسي