في ذاك الحي الذي يعرف بـ “إسطنبول الراين”، أسير في طريقي إلى لقاء تنظمه مجموعة أخرى من متطوعي العمل مع اللاجئين، لا ترى عيني على طول الطريق سوى مشهد اللافتات المكتوبة باللغة التركية، لا أسمع سوى الحديث بالتركية من حولي، أشعر بقدر كبير من الالتباس، فبعد قضاء كل هذه الوقت في إسطنبول أتيت إلى ألمانيا وفي نفسي رغبة في التغيير، إلا أنني وفي نفس الوقت أعلم تمامًا أنني أسير في قلب ألمانيا وإن كنت لا أشعر بذلك، يثير هذا الارتباك مجموعة من التساؤلات عن الشعور بالاغتراب وقدرة الإنسان على التأقلم في نفسي.
أصل إلى مدخل المبنى الذي يقام فيه الاجتماع المعروف بـ “مقهى اللاجئين” كل ثلاثاء، تباغت أنفي رائحة توابل قوية لا يقابلها المرء بسهولة في هذا الجزء من العالم، أدخل إلى المخزن القديم الذي تم تحويله إلى مركز لمساعدة اللاجئين، تزين الحوائط صور لرجال الشرطة الأوروبيين يبرحون اللاجئين ضربًا على الحدود، فوق الصور أرى تعليقًا مكتوب بخط اليد: “احذر فإنه مملوء بالسموم”.
في الداخل، تجلس مجموعة كبيرة من البشر لا يبدو عليها بأي الأحوال أنها تأتي من نفس المكان في العالم، يتحدث الجميع إلى بعضهم البعض في ود حذر، تأتي فتاة ألمانية إلى مقدمة الغرفة لتبدأ في الحديث مخبرة الجميع عن سعادتها باللقاء ورغبتها في دوام مجيئهم، إلا أنها لا تكف عن الحديث عن الطعام، تقول الفتاة سنسعد برؤيتكم في لقاء كذا وكذا حيث سيكون لدينا الكثير من الطعام، فلتشرفونا في لقاء الموسيقى الآتي حيث سنتشارك الطعام والشراب.
أقدم نفسي إلى الشاب الجالس بجانبي، أخمن من ملامحه أنه عراقي، يرحب الشاب بي بحرارة ويقدم نفسه:
عمر – 25 عامًا – من ديالى في العراق
أخبره أنني قد عرفت أنه عراقي قبل أن يخبرني ليضحك بشدة، يشير إلى الندبات التي تملأ وجهه ضاحكًا ليقول:
لا شك أنك عرفت أنني عراقي من كل هذا
أستسمح معذرته قائلًا إنني لا أفهم ما يعني، يقول إن كل هذه آثار ما فعله به رجال الحشد الشعبي، يخبرني أنه قد أتى إلى ألمانيا منذ أربعة أشهر، أستشف من حديثه مع الآخرين بالألمانية أنه واقع في الأزمة المعتادة للعرب في ألمانيا؛ صعوبة اللغة الألمانية.
أبدأ في الحديث معه عن الوضع في ديالى، تسألنا فتاة ألمانية تشاركنا المائدة عن مشكلة ديالى، أخبرها في إيجاز أن المحافظة تقع بين منطقتي نفوذ الشيعة وداعش في العراق، يضحك عمر بشدة ويخبرها بأنهم لا يساعدوه في إنهاء إجراءات لجوئه بالرغم من أنه إذا كان قد قرر الذهاب إلى الموصل والانضمام إلى داعش فإنهم كانوا ليعينوه رئيس وزراء فقط لأن اسمه عمر كيدًا في شيعة العراق، لا تفهم الفتاة النكتة على الإطلاق، إلا أن ضحكي الشديد عليها يجعل عمر يقوم من مكانه ليحتضنني في ضحك يخالطه البكاء.
يقترب شخص يبدو على ملامحه الود الشديد ليحدثني وإياه، أستغرب عربيته وإن كنت أفهمها بلا أي مشكلة، أقدم نقسي إليه وأطلب منه أن يقدم نفسه:
أمير – 29 عامًا – سني من الأهواز – إيران
أدرك أن هذه هي المرة الأولى التي أقابل فيها أحدًا من عرب الأهواز وأخبره بذلك، يضحك بقدر كبير من السعادة، يعطيني الرضيع الذي يحمله بين يديه مخبرًا إياي أنه ابن جيرانه المولود في ألمانيا، ثم يكمل ضاحكًا أنني الآن أحمل أول عرب أهواز مولود في ألمانيا أقابله في حياتي.
وصل أمير إلى ألمانيا منذ خمسة أشهر مع زوجته الفارسية، يخبرني أنه علمها العربية ويقدمني إليها، تخبرني أنها تواجه صعوبة في فهم لهجتي المصرية، إلا أنها تصمت للحظة وتخبرني أن اللهجة المصرية تظل أسهل كثيرًا من اللغة الألمانية، وإن كانت تشابه لهجة أهل كولون في إثارتها للضحك.
يسألني أمير إن كنت أود التدخين معه في الخارج، أدرك في هذه اللحظة أني لم أدخن منذ ساعات وأثني على قوله، نخرج معًا ونبدأ في الحديث، أسأله عن كيف يشعر في ألمانيا، يحشو لفافة تبغ ويخبرني أثناء ذلك
ألمانيا كالفتاة التي تعمل في الداخل، جميلة وباردة،
أضحك متذكرًا عددًا من المواقف مع الفتيات الأوروبيات بشكل عام، ندخن في صمت لبعض الوقت، يقطع أمير هذا الصمت قائلًا أن أحدًا لم يسأل عنه منذ أتى إلى هنا، أسأله ماذا يعني ليرد علي قائلًا إنه أتى باحثًا عن حياة أفضل، إلا أنه لا يشعر أنه حي أصلًا منذ أتى.
أدرك أن الحديث قد بدأ في اتخاذ منحى كفيل بجلب كل ما أحمله داخلي من هواجس إلى السطح، أتعلل بحاجاتي للدخول كي أقطع سلسال الحديث، الخوف يحكم تصرفاتي في تلك اللحظة، فما بذلت من جهد لكبت هذه الهواجس كاد أن يتركني جسدًا بلا روح.
بمجرد دخولي إلى الغرفة مرة أخرى، يقترب مني شاب وسيم يتحدث اللهجة الحلبية بوضوح، يقول بسرعة: “أنت بقى المصري اللي الناس كلها عم تحكي عنه” لينهي جملته بلهجة مصرية مصطنعة قائلًا: “أهلًا وسهلًا يا معلم”.
ريبال – 21 عامًا – حلب
يتحرك الفتى بنشاط غريب في كل مكان، يواظب على محاولة الحديث بالألمانية مع كل من يتحدثها بلا كلل، يبدو واضحًا أيضًا أنه يفضل الحديث مع الفتيات عن الفتيان من الألمان، أخبره هذه الملاحظة ضاحكًا ليضحك بدوره قائلًا:
“خلنا نعيش حياتنا”
وصل ريبال إلى كولون منذ خمسة أشهر، خرج في بداية الأمر إلى لبنان ثم إلى تركيا ثم إلى اليونان حتى نهاية هذا الطريق الشهير، يخبرني أنه يسكن بالقرب من حيث كنا، ثم يبدأ في إخباري عن إعجابه بتنوع الحي وانفتاح أهل كولون على من هم غيرهم، زار ريبال عشر مدن ألمانية بعد وصوله بشهر واحد، قرر البقاء في كولون فقط لأنه أحبها.
يسكن ريبال مع صديق سوري وشابين من إريتريا والصحراء الغربية، يزعم أن الأفارقة هم أطيب من خلق الله، ثم يسألني عن نفسي، أخبره عن عملي ودراستي وحياتي بين تركيا ومصر وأوروبا، يخبرني أن تركيا هي أم الدنيا وليست مصر، أضحك كثيرًا وأخبره أنه يعيش في ضاحية من ضواحي إسطنبول البعيدة بعض الشيء وليس في ألمانيا حقًا، يفكر في الأمر ويتفق معي، ثم يضيف: “لولا تركيا لما كتبت لنا الحياة، أمي تعيش الآن في عنتاب، ادعو لي أن أستطيع استقدامها قريبًا”.
تدق الفتاة الألمانية الجميلة على الكأس معلنة تأخر الوقت ونهاية اللقاء، أنظر إلى ساعتي وأكتشف أننا قد دخلنا إلى يوم جديد، أبدأ في الحركة إلى الباب ملقيًا السلام على كل من تبقى، يأخذ أمير يدي ويشد عليها قائًلا:
“لنلتقى مرة أخرى، أتمنى أن أستطيع استضافتك في بيت لي قريبًا”.
أخرج إلى شوارع الحي الفقير، لليل في كولون مهابة ما، الضوء خافت ويلمع على الزجاج المكسور أمام مقام قتلى الهولوكوست، تستمر موسيقى قراصنة الأقحوان كالمعتاد في الخروج من مشغل الموسيقى، وأفقد ثباتي أخيرًا على الأسفلت المصهور.