“إن أفضل تصرّف من جانبنا تجاه الشعوب الأجنبية هو أن نمتلك أقل روابط سياسية ممكنة معها.. فأوروبا تمتلك مصالحها الخاصة المختلفة جدًا عن مصالح الولايات المتحدة… لماذا يجب علينا إذن أن نتنازل عن مميزات هذا الوضع؟ لماذا نربط مصيرنا بأي جزء في أوروبا ونعقّد سلامنا ورفاهيتنا بخيوط الطموحات والعداوات والمصالح الأوروبية؟ إن سياستنا الحقيقية هي أن نبتعد تمامًا عن التحالفات الدائمة مع أي جزء من العالم الخارجي” — جورج واشنطن، 1796
تبدو ظاهرة ترامب وكأنها فقاعة ظهرت للسطح فجأة دون سابق إنذار، أو ربما مدفوعة بإمبراطوريته المالية باعتباره نتاجًا لتزاوج رأس المال والسلطة، لكن الواقع هو أن الظاهرة التي يجسدها والواقفين خلفها من القواعد الشعبية للحزب الجمهوري، والتي تشهد تحولات كبيرة في السنوات الأخيرة، ليس لها علاقة قوية بفكرة ترامب كرجل أعمال بالأساس، ولكن كصوت خارج عن الصف الجمهوري التقليدي، وأكثر تعبيرًا عن هواجس وتطلعات طبقة واسعة بالفعل من الطبقة الوسطى البيضاء والمحافظة، وهي هواجس ليست بجديدة على التاريخ الأمريكي.
***
في ثلاثينيات القرن المنصرم، ونتيجة لتأثير الأزمة الاقتصادية الكبرى المعروفة بالكساد الكبير على المواطن الأمريكي، والخسائر التي تكبدتها الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى رُغم انتصارها في النهاية مع الحلفاء، كأول مرة تنجر فيها إلى معركة كبرى متجاوزة للأمريكتين (باستثناء حربها مع مسلحي المورو في الفيليبين مطلع القرن العشرين)، علاوة على استدانة بعض الحلفاء منها دون قدرتهم على رد ديونهم، شهد الرأي العام الأمريكي جنوحًا قويًا ناحية “الانعزالية” Isolationism، وهي رؤية تقضي ببساطة بعدم وجود أي حاجة إلى الانخراط في الشؤون الأوروبية والآسيوية والصراعات الدامية الجارية في هاتين القارتين المنفصلتين عن أمريكا بمحيطين كبيرين، وتكريس الموارد الأمريكية كلها للولايات المتحدة وأمنها ورفاهيتها فقط.
تراجع في تلك الفترة الدور الأمريكي بفعل الصوت الانعزالي القوي في الكونجرس، والذي كان قد بدأ عمله مباشرة برفض فكرة عصبة الأمم عام 1919 بعد الحرب العالمية الأولى، وزيادة الجمارك بوجه السلع المستوردة من الخارج، وتخفيف الروابط التجارية الخارجية، وتخفيض الإنفاق على الميزانية العسكرية، وهو توجه عززه اعتقاد الرأي العام بأن المشاركة في الحرب العالمية الأولى كانت خطئًا، لا سيما وأن الصراع في أوروبا عاد من جديد مع انتخاب هتلر في ألمانيا، وهو ما يظهره استطلاع رأي أجري في يناير 1937، والذي قال فيه ثلاثة أرباع المشاركين بأن دخول بلادهم الحرب العالمية الأولى لم يكن صائبًا.
أغنية مناهضة للمشاركة في الحرب العالمية الثانية أواخر الثلاثينيات إبان محاولة روزفلت إقناع الرأي العام الأمريكي بالوقوف للنازية
أدى ذلك الانعزال عما يجري وراء المحيطات إلى ازدهار الاقتصاد الأمريكي، حيث رفض الرئيس فرانكلين روزفلت أنذاك ربط الولايات المتحدة بالاقتصادات الأوروبية المأزومة جراء الحرب، ورفض تثبيت سعر العملة الأمريكية عند قيمة مرتفعة مقابل العملات الأوروبية كما طلب الأوروبيون أثناء مؤتمر لندن عام 1933، وهو موقف ارتكز لرغبة كثيرين في الداخل الأمريكي تخفيض قيمة الدولار في الحقيقة لرفع الصادرات الناتجة عن اقتصادهم المزدهر أنذاك، أضف لذلك أن العزوف عن الانخراط في الشأن الأوروبي والآسيوي رغم حالة الفوران في القارتين أتاح للولايات المتحدة التركيز على جارها الأقرب والأكثر أهمية بالنسبة لأمنها القومي، وهو أمريكا اللاتينية، والتي توسعت فيها واشنطن اقتصاديًا وعززت من مصالحها فيها.
لم تكن المصالح الاقتصادية الأمريكية الدافع الوحيد للانعزال ولا تجربة الحرب العالمية الأولى، بل وأتى مع هاذين العاملين أزمة لاجئين ضخمة جراء الحكم النازي في ألمانيا، والذين تدفق الكثير منهم تجاه الولايات المتحدة الأبعد والأكثر استقرارًا خاصة حال قامت الحرب، وكان الرأي العام الأمريكي رافضًا تمامًا لفتح الباب للاجئين الأوروبيين دون قيود، لا سيما مع اعتقاده بأنهم ربما يعيدون العجلة للوراء في اقتصاد كان يتعافى لتوّه من الكساد الكبير، وأنهم بالطبع سينافسون الأمريكيين على وظائفهم وقوت يومهم، وهو ما أدى لظهور أشكال مختلفة من “معاداة السامية” أنذاك بالنظر لكون اليهود شريحة كبيرة من اللاجئين، وهو موقف لم يتغيّر حتى مع ظهور أشد صور العنصرية النازية ضد اليهود بإصدار قوانين نورمبرغ في ألمانيا، إذ أن استطلاعًا للرأي أجرى عام 1938 أشار إلى أن 71% إلى 85% من الأمريكيين يرفضون رفع أعداد اللاجئين المسموح لها بالوصول إلى أمريكا.
***
كانت تلك أمريكا القديمة بالطبع، والتي تبدلت تمامًا مع دخولها للحرب العالمية الثانية في منتصفها بعد توسع هتلر الشديد وحادثة بيرل هاربر، ومن ثم قيامها بالجزء الأكبر من إعادة البناء في أوروبا بعد الحرب بموجب خطة مارشال، والاستفادة من ذلك اقتصاديًا فيما بعد بجر القارة العجوز المدمرة جراء الحرب، واليابان كذلك، إلى مدار الاقتصاد الأمريكي (أو العالمي إن شئنا القول،) ومن ثم صارت المصالح الأمريكية متجاوزة للأطلنطي والهادي على السواء، وظهرت حتمية الحرب الباردة بينها وبين الروس المتاخمين لأوروبا واليابان من الغرب والشرق، ثم توسع الدور الأمريكي عالميًا لأقصى مدى بانتقال الصراع البارد إلى بقية بلدان العالم، من أفريقيا والشرق الأوسط إلى الهند والصين.
إثر تلك التحولات تبدلت الساحة السياسية الأمريكية لتتناسب مع معطيات الدور الجديد للنظام الأمريكي في العالم، وظهرت تقاليد جديدة بين الأحزاب الأمريكية مستمرة حتى يومنا هذا، وفيما يخص الحزب الجمهوري بالتحديد فإنه عُرف منذ تلك الفترة بميله الشديد للتحالفات الأمريكية التقليدية في أوروبا واليابان وإسرائيل والخليج وغيرها، والحفاظ على المنظومة الدولية التي أسستها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزيز فكرة السوق الحر والاتفاقيات التجارية الدولية، بشكل يعزز بالطبع من المصالح الأمريكية ومن توسع الاقتصاد الغربي و/أو العالمي.
فعالية للجنة “أمريكا أولًا” في ثلاثينيات القرن الماضي
بعد أكثر من نصف قرن على ولادة تلك المنظومة، تبدو هناك تحولات عالمية اقتصادية وسياسية كبرى تعيد للأذهان جزئيًا بعضًا مما جرى في ثلاثينيات القرن الماضي، فأوروبا مأزومة اقتصاديًا منذ الأزمة المالية عام 2008، والمصالح الاقتصادية الأمريكية تبدو في حال أفضل بالابتعاد عن الترابط التجاري بينهما لصالح ارتباط أمريكي بالأسواق الناشئة والكبيرة في أمريكا اللاتينية والصين والهند وآسيا برمتها، كما أن الانخراط العسكري الأمريكي بعيدًا عن الجوار الأمريكي المباشر لم يعد جيد السمعة في الشارع الأمريكي نتيجة الذكريات السيئة لحربي العراق وأفغانستان، على غرار الذكرى السيئة للحرب العالمية الأولى.
بالإضافة إلى ذلك هناك هاجس متزايد من الهجرات القادمة التي ستزيد من انحياز الكفة لصالح “غير البيض،” لا سيما القادمين من المكسيك والذين يصبون في زيادة أعداد اللاتينيين في المجتمع الأمريكي، وهي كلها أسباب خلقت ظروفًا مشابهة لظروف الثلاثينيات جزئيًا بشكل خلق بين الشرائح الأمريكية البيضاء المحافظة نوعًا من “القومية الأمريكية” المتوجسة من العولمة والمجتمع المفتوح، وهي مفارقة بالطبع بالنظر لتوجس كثيرين في مجتمعات عديدة من العولمة الأمريكية، لكن بعض الأمريكيين على ما يبدو هو من لا يريدها الآن لأسبابه الخاصة.
لم تكن غريبة إذن ظاهرة حزب الشاي التي ظهرت للسطح في السنوات القليلة الماضية، والتي هددت قواعد الحزب الجهوري بوضوح، وهو ما استتبع تحول جذري في طبيعة الحزب واتجاهات ناخبيه بما يفسّر، أولًا، اقتصار السباق على تِد كروز ودونالد ترامب، وهما من الخارجين عن الخطاب التقليدي للحزب الجمهوري بدرجات مختلفة، وثانيًا، حصول ترامب في الأخير على بطاقة الترشيح بخطابه الأكثر إثارة للجدل، والمرتكز لفكرة “أمريكا أولًا” كما يُشار لها، وهي فكرة قديمة تعود للثلاثينيات أيضًا.
“مواقف ترامب كلها مضادة لكل المواقف التقليدية للحزب الجمهوري، فهو ضد التجارة الحرة وضد الاعتماد على التحالفات الدولية وضد الحفاظ على النظام العالمي الذي بنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية،” هكذا يقول إريك إدلمان، سفير الولايات المتحدة السابق لدى تركيا، والمسؤول الرفيع بوزارتي الدفاع والخارجية أثناء إدارة جورج بوش الابن، في إشارة واضحة إلى خروج ترامب عن النص الجمهوري القديم، واستدعائه للخطاب القومي الذي سبقه قبل الحرب العالمية، وهو ما يجعل ترامب في الحقيقة قوميًا انعزاليًا أكثر منه محافظًا.
دونالد ترامب مع أحد مؤيديه
على العكس من جورج بوش إذن، لا يريد ترامب أن ينقل جنود الولايات المتحدة إلى العراق وأفغانستان، أو يعزز من دورها العسكري في شرق أوروبا واليابان، بل يريد بناء حائط كبير يعزلها عن جارها الجنوبي المتاخم لها، كما يريد زيادة الاعتماد على الصناعة الأمريكية لا على الواردات اليابانية والأوروبية، ويهاجم الاتفاقيات التجارية التي وقعتها الولايات المتحدة متعهدًا بتمزيقها تمامًا لكي تعود الولايات المتحدة “عظيمة” كما كانت سابقًا على حد قوله.
يصعب تخيّل تطبيق كل ما يتفوّه به ترامب في حملته، فالراجح هو أن الحائط لن يُنبى بالفعل مع المكسيك، وأن الاتفاقيات التجارية التي تصب في صالح الولايات المتحدة لن تُلغي بجرة قلم، لكن الواضح في نفس الوقت هو أن خطاب ترامب يتقاطع جزئيًا مع متطلبات النظام الأمريكي حاليًا فيما يخص التحولات الجارية من حوله، فالمنظومة الأمريكية، كما في الثلاينيات، تحتاج إلى الانسحاب مما يجري على الشاطئ الشرقي للأطلنطي، سواء في أوروبا المأزومة ماليًا أو الشرق الأوسط الغارق في صراعاته الدموية، وإلى الانتباه للمنافسة التي تشكلها الصين كجار قريب وضخم اقتصاديًا يشكل تحديًا غير مسبوق تاريخيًا للقوة الأمريكية، خاصة في أمريكا اللاتينية، وهو ما يفسر الانفتاح على كوبا لاحتوائها، والدعم غير الرسمي لليمين البرازيلي في جهود الإطاحة باليسار، بشكل يغلق الطريق نوعًا ما على حلفاء الصين في المنطقة.
في النهاية، قد تبدو لاعقلانية و”جنونية” مواقف ترامب كما تُسمى طاغية على ترشيحه وفكرة وصوله للرئاسة، بيد أن الأمر قد يكون أكثر عقلانية مما يبدو، لا سيما وأن الولايات المتحدة في النهاية دولة مؤسسات عريقة لن يتمكن ترامب من تحريكها وفق أهوائه بالكامل، وبالنظر للجذور الاجتماعية القوية لظاهرة ترامب فإن استفادة المؤسسة الأمريكية من صعوده ومن خطابه الانعزالي، مضافة للموجة اليمينية داخليًا، لعلها كافية ليحتل الرجل أربع سنوات من تاريخ الولايات المتحدة إن استطاع تحقيق الفوز بالفعل، أو ربما ثماني، وهو ما يتيح إعادة تعريف الدور الأمريكي بشكل أقل التزامًا بدور “شرطي العالم” غير المفيد لواشنطن الآن، علاوة بالطبع على إعادة تعريف فكر الحزب الجمهوري برمته.