نادرًا ما يرتاح الفيلسوف بالجلوس على مقعد السلطان، فالأسئلة الفلسفية النابعة من ضميره وعقله النظري على السواء لا تتوقف أبدًا عن التدفق كل لحظة بشكل لا يسمح له أبدًا بالتأقلم التام مع غابة السياسة، ولعل داوود أوغلو لم يكن استثناءً، فالسنوات الطويلة التي قضاها أستاذًا ومُنظرًا وفيلسوفًا وكاتبًا خلال التسعينات ومطلع القرن الجديد لعلها اتسمت براحة البال أكثر من سنواته الأخيرة التي قرر فيها الاقتراب من السلطة لتجربة أفكاره على الأرض، وهي تجربة وجد نفسه بسببها على رأس السلطة التنفيذية في تركيا في أقل من عشر سنوات.
لم يرُق الكرُسي أبدًا لأوغلو، فالرجل الذي عمل كمستشار لرئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان قبل أن يتم تعيينه رسميًا وزيرًا للخارجية في 2009 وحتى 2014 حين قرر الحزب أن يتولى هو قيادته، يُعاني في موقعه الجديد الذي لم يتم فيه عامين كرئيس لوزراء الدولة الأثقل سياسيًا واقتصاديًا في الشرق الأوسط، وهي مُعاناة تُنبع من المسافة الكبيرة التي اكتشفها بنفسه بين نظرياته “العثمانية الجديدة” كما تسمى، والتي حاول بها إعادة تركيا لموقعها السابق الذي تخلت عنه قبل مائة عام أو يزيد، وواقع الشرق الأوسط الذي تعقّد للغاية خلال قرن كنتيجة للاستعمار والديكتاتوريات العسكرية، وهي مسافة أزّمت من موقفه أولًا كأحد أبرز المسؤولين عن الملف الخارجي، وأعطته فكرة ربما عن صعوبة الانتقال بسلاسة ورشاقة بين النظرية والواقع.
لم تكن تلك هي معاناة داوود أوغلو الوحيدة، فالرجل الذي انتقل من أروقة الجامعات والكتب والورق إلى أروقة الخارجية التركية ودبلوماسيتها العريقة وعلاقاتها المتشعبة مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، شهد بنفسه أيضًا العالم الدارويني للسياسة التركية، وهي سمة ربما تعود لقرون طويلة قبل الجمهورية، فالخلافات لا تخفى على أحد بينه وبين رئيس الجمهورية حاليًا رجب طيب أردوغان، والذي لا يرى بديلًا عن النظام الرئاسي المركزي لحماية إرادة الشعب التركي من الدولة العميقة كما يسميها.
كان الصدام قد بدأ بالفعل بين الفيلسوف والرئيس العام الماضي حين وجد أوغلو نفسه في “حارة سد” مع أردوغان حيال تعيينات الهيئة العُليا للحزب.
“لقد قال الشعب التركي لا للنظام الرئاسي”، هكذا صرح داوود أوغلو في يونيو المنصرم بعد خسارة حزب العدالة والتنمية لأغلبيته البرلمانية لأول مرة منذ صعوده للسلطة، فيما اعتبره البعض استغلالًا لتراجع رصيد أردوغان لإثبات موقفه المعارض لطموحات الرئيس، لكن الفيلسوف الذي تعرّف على عالم السلطة عن طريق صديقه القديم الرئيس السابق عبد الله غُل لم يكن متوقعًا أن ينجح في مصارعة معسكر أردوغان داخل الحزب، لا سيما وأن غُل نفسه لم ينجح حتى الآن في تلك المهمة، ولذا فإن أردوغان السياسي المخضرم، ولاعب الكرة السابق الذي لم يجد وقتًا أبدًا للدراسات العُليا والكُتب، استطاع إدارة المشهد السياسي لصالحه ليخرج منتصرًا من انتخابات نوفمبر المبكرة، ويعيد التأكيد على طموحاته السياسية مسجلًا هدف التعادل لفريقه في أشهر قليلة.
كان الصدام قد بدأ بالفعل العام الماضي حين جرى اجتماع ساخن بين الرجلين بخصوص أعضاء الهيئة العُليا للحزب، والتي من المفترض أن يقوم رئيس الحزب بتعيينها، لكن داوود أوغلو الرئيس الجديد للحزب، والذي أراد الدفع بأسماء مختلفة عن معسكر أردوغان، وجد نفسه ببساطة في “حارة سد” مع رئيس الحزب القديم، بل ووصل الأمر إلى قيام وزير المواصلات، وذراع أردوغان الأيمن، بن علي يلدرم، صاحب الإنجازات الكبرى في البنية التحتية، بالإعلان عن طريق المقربين منه رغبته ترشيح نفسه كرئيس للحزب في “كونجرس” الحزب كما يسمى بدلًا من أوغلو، وسرت أخبار بالفعل مفادها أن هناك أعضاء داخل الحزب يجمعون توقيعات من أجل ترشيحه.
لعبة سياسية مرهقة دخل فيها الفيلسوف وخسر بالطبع، ليوافق على قائمة أعضاء الهيئة العُليا التي كتبها أردوغان بنفسه في النهاية، والتي تضمنت أسماءً جديدة بالكُلية من معسكر الرئاسة، وأخرجت أسماءً ثقيلة لأول مرة كانت يومًا ما من مؤسسي الحزب، أبرزها نائب رئيس الوزراء بولنت أرِنتش والذي اختلف مع أردوغان هو الآخر حيال تناوله لتظاهرات جَزي بارك عام 2013، وحيال ملف النظام الرئاسي.
الفيلسوف الذي تعرّف على عالم السلطة عن طريق صديقه القديم الرئيس السابق عبد الله غُل لم يكن متوقعًا أن ينجح في مصارعة معسكر أردوغان داخل الحزب.
رُغم تلك الضغوطات حاول الفيلسوف أن يبقى في الكُرسي لعل وعسى يستطيع مجاراة اللعبة السياسية ويثبت نفسه، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كما يُقال أتت منذ أيام، حين قرر حزب العدالة والتنمية سحب سُلطة تعيين قيادات الحزب الفرعية من رئيس الحزب، وهو أوغلو حاليًا، وإيكالها للهيئة العُليا التي انتقاها أردوغان، بعد أن ظلت تلك السُلطة لأربعة عشر عامًا في يد رئيس الحزب، وبينما قال المدافعون عن القرار بأن الحزب المؤسس عام 2001 كان في الأصل يمنح تلك السلطة للهيئة العُليا حتى قرر منحها بشكل غير اعتيادي لأردوغان، فإن الغالبية تعلم تمامًا أن توقيت سحب تلك السلطة الآن وثيق الصلة بالخلافات بين الرجلين.
بدون أي رفقاء سياسيين في الهيئة العُليا للحزب ولا بين صفوف قياداته الفرعية، وبينما تجرى حرب ضروس في جنوبي شرقي البلد يتصاعد معها استخدام الدولة للخطاب القومي اليميني لتوحيد صفوف الأتراك، فإن الفيلسوف الذي يعتبر نفسه مسلمًا في المقام الأول، ويرى العروة العثمانية متعددة اللغات والهويات نموذجًا أمثل لتركيا، والذي قال عن نفسه يومًا بأنه يعتبر نفسه مصريًا في القاهرة وكُرديًا في ديار بكر ويونانيًا في أثينا وبوسنيًا في ساراييفو وسوريًا في دمشق، والذي كتب في ميثاق تركيا 2023 بوضوح أن الدستور الجديد لن يحتوي على كلمة “تركي” ليتجاوز بذلك فكرة تركيا كوطن للأتراك فقط ويجعلها وطنًا متعدد الأعراق، قد ضاق ذرعًا بمقعد السلطة اليوم بما يكفي ليرحل عنه، وربما للأبد.
لم يُرق له كرسي السياسة أو لعله هو الذي لم يرُق لعالم السياسيين، والذين لا يزال كثيرون منهم يدافعون عن مناصرة أردوغان، ويعتبرون أن الفيلسوف الوحيد الآن في الحزب لا يمكن أن يدير دفة السياسة التركية مثلما يديرها أردوغان، وأن معركة تكسير العظام الدائرة داخل وخارج تركيا حاليًا يصعُب أن يخوضها الفيلسوف والسياسي معًا، وأن السفينة تحتاج الآن لقبطان واحد قوي ومخضرم مثل أردوغان.
دخل أوغلو للسلطة وشهد بنفسه كيف صنعت السياسة التركية “معاوية” تركي، لكنه شهد أيضًا عدم قدرته على التحوّل لواحد منهم.
شخصيًا، لربما يكون داوود أوغلو، وزوجته كذلك وهي طبيبة نساء، ممنونًا بالخروج من السلطة ومتاعبها وزياراتها الرسمية ورحلاتها الطويلة والمتتالية، وعازمًا على العودة مرة أخرى لمقعد الأستاذ والكاتب ليتسنى له الكتابة عن تجربته في السلطة كفيلسوف في المقام الأول، ولعل تلك التجربة القصيرة قد غيّرت بعضًا من أطروحاته، أو أكدت له على المُعضلة “الأموية” التي تهيمن على السياسة منذ قرون طويلة، والتي يستحيل بمقتضاها أن يصبح المرء سياسيًا دون تنحية الأفكار والمبادئ والأخلاق، على الأقل إلى الدرجة الثانية، ورفع بناء القوة السياسية إلى الأولوية الأولى.
دخل الفيلسوف السلطة، وشهد بنفسه كيف صنعت السياسة “معاوية” تركي لعله بالفعل أفضل معادلة ممكنة كما يقول أنصاره داخليًا وخارجيًا، ولكنه شهد بنفسه أيضًا عدم قدرته على التحول إلى واحد من هؤلاء، وأنه محظوظ، ومدين للحزب للمفارقة، كونه خاض تلك التجربة في دولة ديمقراطية ومفتوحة، مغايرة تمامًا للنظم الوسيطة التي حكمتها المؤامرات السلطانية، والتي لربما طارت فيها رأسه على غرار رؤوس كثيرة في العهد العثماني طارت فقط حين استشعر السلطان خروجها عن الخط، ومغايرة كذلك للدولة العسكرية التي حكمت لعقود قبله، والتي كانت لتحكم بإعدامه أو سجنه أو طرده كما جرى للمئات على مدار تاريخ تركيا الحديث، وكما يجري حاليًا لمفكرين مثله في نظم عسكرية لا تزال منتشرة بطول الأرض وعرضها.
لربما يكون داوود أوغلو ممنونًا بالخروج من السلطة ومتاعبها وزياراتها الرسمية ورحلاتها الطويلة والمتتالية، وعازمًا على العودة مرة أخرى لمقعد الأستاذ والكاتب ليتسنى له الكتابة عن تجربته.
اليوم، وبينما أعلن أوغلو انعقاد كونجرس الحزب يوم 22 مايو المقبل وعدم ترشحه كرئيس للحزب مجددًا وبالتالي تركه لمقعد رئاسة الوزراء خلال أسابيع، يكون الإعلان رسميًا قد تم عن هذا الافتراق؛ الافتراق بين أوغلو وأردوغان، بين الفيلسوف والسلطان، بين المفكر والسياسي، وهو افتراق حتمي لتسير السفينة بشكل أفضل كما يقول أنصار السلطان، ولأن قباحة السياسة لن تتغير كما يقول أنصار الفيلسوف، ولأن وقت الراحة قد حان أخيرًا كما قرر أوغلو وزوجته بالفعل، وكما بدا من خطابه الأخير للحزب والأقصر منذ توليه منصبه، والذي لم يتجاوز نصف ساعة.
“لو لزم الأمر سأترك منصبي وأضحي بنفسي من أجل الحزب… ولن أسمح لتلك الحركة النقية والرجال الأنقياء القائمين عليها أن يحزنوا أبدًا وهم الأمل الوحيد للمقهورين في العالم… الليلة هي الإسراء والمعراج… لنتأمل جميعًا ونذكِّر أنفسنا…” بهذه الكلمات ودّع داوود أوغلو حزبه منذ يومين، وودع الحياة السياسية برمتها على الأرجح، وكل ما علينا انتظاره هو ما سيجود به قلمه في السنوات القادمة عن تجربته الفريدة في السُلطة التركية، والتغيّرات التي أحدثتها بالتأكيد في فلسفته ونظرياته.