أكتب هذا المقال وأنا أنتظر الحلقة الجديدة من مسلسل لعبة العروشGame of thrones، الاسم ليس غريبًا عن المسامع ولا أظنه بحاجة إلى تعريف، هل يعود جون سنو Jon Snow إلى الحياة؟ يلهج بهذا السؤال ملايين من البشر حول العالم، في سابقة تحمل في طياتها ما تحمل عن تغير المشهد الدرامي البصري في أمريكا والعالم.
لقد بات التلفزيون اليوم أكثر من أي وقت مضى يمارس تهديدًا حقيقيًا للسينما، وبعدما فقدت القاعات السينمائية مكانتها في الكثير من بلدان العالم، بسبب القرصنة، يبدو أن شبكات الفيديو تحت الطلب VoD وتلفاز الإنترنت Internet Television ألفت خصمًا شرسًا لقاعات السينما في العالم المتقدم، كان الكل يشعر بهذا التحول حينما ألقى كل من جورج لوكاس وستيفن سبيلبرغ قنبلتيهما سنة 2013 في جامعة كاليفورنيا، حيث أكدا أن صناعة السينما سوف تلقى ذات المصير الذي يعرفه المسرح اليوم: عروض ضخمة ومكلفة موجهة نحو جمهور قادر على دفع تذكرة من خمسين إلى مائة دولار، أما بقية الأعمال التجارية فيتكفل بها التلفزيون الجديد.
أعتقد أن لقاعة السينما تأثيرًا عميقًا على الجمهور، وأنها تساهم بنسبة لا بأس بها في قيمة الأعمال السينمائية ومدى تأثيرها في المتلقين، لكن، لنسلم أيضًا بأن العمل يمكن أن يكون مستقلاً عن الحامل، ولا شك أن فيلمًا مثل فورست غامب مؤثر سواء على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، لكن التلفزيون اليوم لا يصر على استيعاب الشكل السينمائي فحسب، بل يعمل أيضًا على تغيير هذا الشكل وفقًا لرؤية إنتاجية مختلفة، وربما بدأنا في هوليود نشهد بداية الهجرة نحو الدراما التليفزيونية على حساب السينما.
كان للتليفزيون دومًا نجومه الذين يختلفون عن السينما، لقد ضاع ماتيو بيري وجينفر آنستون في غياهب هوليود بعدما كانا من أهمّ النجوم خلال فترة عرض مسلسل الأصدقاء Friends
ورغم حضورهما المتكرر في الأعمال السينمائية، واجتهادهما وموهبتيهما، فلم يقدرا على استعادة ولو جزء بسيط من تلك الوجاهة القديمة، لكن يبدو أن الأمور تتغير بهدوء وثقة، هاهي صوفي ترنر Sophie Turner التي عرفها العالم في دور سانسا ستارك Sansa Stark في لعبة العروش، تفتك دور البطولة في فيلم إكس مان الجديد، أمام كوكبة من نجوم الشاشة الكبيرة، أما الدلالة الأكبر برأيي، فهي حركة هجرة النجوم التي تحدث بشكل بطيء ومستمر نحو التلفاز، ولعل تألق كيفن سبايسي Kevin Spacey في بيت الورق House of cards خير مثال لذلك.
نجوم مسلسل الأصدقاء Friends
“كلنا نريد أن نذهب إلى حيث توجد كتابة جيدة”، كان رد الممثلة جاين فونداJane Fonda بشأن توقيعها لمسلسل Netflex الجديد Grace and Frankie، ويبدو أن هناك تيارًا اليوم يعتبر أن الكتابة الجيدة باتت أكبر في التلفزيون، الحقيقة أن الدراما التلفزيونية شهدت في الأعوام الماضية تغيرات كبيرة، ولا شك أن أعمالاً مثل الضياع Lost والهروب من السجن Prison Break مثلت في حينها طفرة تلفزيونية من الناحية التقنية كما الدرامية، لقد قدم المنتجون أموالاً سخية لصناع هذه المسلسلات، وباتت مشاهد الحركة، والمؤثرات البصرية تقارب كثيرًا تلك التي تعرضها السينما، ولقد ساعد تطور تقنيات الـ CGI كثيرًا في هذه المسألة، ويجب القول أن فوندا لم تجانب الصواب كثيرًا، هناك نوع من الشعور السائد بفقدان هوليود للأفكار القصصية العبقرية، بينما صار التلفزيون بوتقة لتلك الأفكار، فهل حقًا يمثل التليفزيون فضاءً فنيًا أفضل من السينما؟ وهل حقًا يمثل مستقبل الصناعة الدرامية؟
يذهب الكثيرون إلى أن المسلسل، يمكن بفضل تعدد حلقاته من مساحة أكبر للتجريب، يمكن للكاتب أن يجرب شكلاً سرديًا معينًا، أو شخصية بمميزات استثنائية، أو حدثًا مهمًا، وإذا ما ارتأى فشل التجربة، فيمكن التخلص منها في غضون حلقات، وتذوب بذلك وسط الشلال السردي المتشعب الذي تتميز به المسلسلات، وهو ما يسمح بمساحة أكبر من الإبداع لجميع أفراد العمل، ربما بمن فيهم الممثلين.
الحماية من المخاطرة، له قيمة كبيرة إذًا على المستوى الفني، ولكن له قيمة أكبر على المستوى الاقتصادي؛ فشركات الإنتاج الضخمة، تجد في المسلسلات شكلاً إنتاجيًا أكثر ضمانًا، أنت لا تشتري مسلسلاً ولا تدفع تذكرة لمشاهدته، وإنما تشتري باقة، أو اشتراكًا شهريًا، حينما يكون العمل سيئًا، لن يكلف المنتجين خسائر ضخمة، وطبعًا يمكن توقيف إنتاج العمل بعد بث حلقات معدودات ومشاهدة ردود الفعل الجماهيرية، يحدث الأمر أيضا من الجهة المعاكسة، حيث يمكن لنجاح العمل أن يدفع إلى تمديده إلى مواسم أكثر بكثير مما كان مقررًا، تمثل الحلقات وحدات إنتاج صغيرة على مستوى التكلفة والمجهود، وهي بذلك تساعد على العمل بشكل مريح ودائم، كما تضمن مواطن الشغل المتواصل على فكرة “مضمونة”، وكل ذلك لا يحصل مع صناعة الأفلام، حيث يتم الانتقال من مشروع إلى مشروع في ظرف أقصر، بما يعنيه ذلك من مشاكل في الاندماج والتفاهم، كما أن الفيلم إما أن ينجح أو يفشل، ولا توجد طرق لإنقاذه، والمسألة الوحيدة التي يحاكي الفيلم فيها المسلسل هي إضافة أجزاء جديدة في حالة النجاح.
فكرة التتمات sequels والبدايات prequels ليست جديدة، ولم تأت بتأثير من المد التلفزيوني، ولكن شهدت السنوات الأخيرة تكثيفًا خانقًا لهذا الشكل الإنتاجي، لقد بات كل شيء يخضع لتتمات، ولو مات البطل في النهاية، فلا بأس من إعادته مادام الفيلم قد حقق نجاحًا يذكر، إن هذه المسألة لا تعكس إفلاس هوليود على مستوى الأفكار فحسب، ولكنها أيضًا تؤكد تأثير الشاشة الصغيرة على الشاشة الكبيرة، يتجلى ذلك من خلال غزو شركتي مارفل وكومكس لقاعات السينما، وحتى ديزني اقتحمت لعبة “تلفزة السينما”؛ لم يعد الفيلم قائمًا بذاته، وإنما صار جزءًا من مسلسل سينمائي يمتد على سنوات، بنهاية الفيلم، لا يبدو أن العقدة الرئيسية قد حلت، ولا يبدو البطل/ الأبطال قد وصل إلى منتهى الرحلة، بل صارت موضة أن يتوقف الجزء عند مشهد مثير يعد بالكثير في الجزء الموالي، أجل إنه المنوال التليفزيوني الذي يغزو الشاشة الكبيرة.
ما من شك أننا نشهد تغيرًا كبيرًا فرضه تطور التقنيات وأجهزة الاتصال، وما من شك أن شركات الفيديو تحت الطلب، وإنترنت التليفزيون، ستمثل الشكل الطاغي للصناعة التلفزية، ولصناعة الترفيه بشكل عام، لكن ذلك لن يسبب إلا انحدارًا للفن، مثلما قضت السينما بشكل أو بآخر على الفضاء المسرحي.
لا أعتقد أن أولئك الممثلين الذين خرجوا من رحم التلفاز، ضاعوا في هوليود ظلمًا، لقد استنزفوا أنفسهم في أعمال تلفزيونية تمتد لسنوات حتى ألفوا شخصية واحدة، وألف الجمهور فيهم وجهًا واحدًا، لقد وجد هؤلاء صعوبة بالغة في النجاح في عمل آخر، ويمكن تذكر مسلسل Joey للممثل Matt LeBlanc (جوي في مسلسل Friends) كمثال جيد على ذلك، وربما باستثناء آلِزُن هانغان Alyson Hannigan التي برعت في مسلسليْ “كيف قابلتُ أمكما” How I met your mother وBuffy، فلا أذكر شخصًا ترك بصمته في مسلسلين مختلفين، ويبدو أن اختيار الممثلين في المسلسلات يتم وفق تقارب الممثل مع الشخصية المفترض آداؤها، كما أنه بامتداد المسلسل، سيقدم الكثير من نفسه خلالها، لأنه من المستحيل أن يتلون الممثل تمامًا طوال سنوات عديدة، يمنح فضاء السينما المحدود نسبيًا، فرصةً ذهبية للممثل كي يتخلص من نفسه تمامًا، كي يبديَ جانبًا واحدًا من شخصيته، يذوب في قالب الشخصية التي يمثلها.
من المؤكد مثلاً أن أنطوني هوبكنزْ Anthony Hopkins ومادز ميكلسن Mads Mikkelsen لا يشبهان كثيرًا شخصية هانيبال الدموية التي أدياها ببراعة، ولكنني يمكن أن أجزم أن مادز كان أقرب إلى نفسه في المسلسل، من هوبكنز حينما أدى الدور ذاته في صمت الحملان Silence of the lambs.
فكرة التجريب المضمون ينطوي أيضًا على نوع من المغالطة، إن المخاطرة جزء من العمل الفني، وله قيمة مضافة، لا شك أن ردلي سكوت قد عانى كثيرًا ليقنع المستثمرين بإمكانية نجاح فيلم Blade Runner، وربما أيضًا لم يقتنعوا، ووافقوا على مضض، لكن لو كان مسلسلاً، لأوقفوه بعد بضع حلقات، أو لاختزلوا الميزانية المخصصة له، لكن لأنه فيلم لا نعرف رأي الجمهور فيه إلا بعد إنتاجه، فرغم تحقيقه مبيعات هزيلة حينئذ، أصبح أيقونة سينمائية خالدة.
إنّ الرابح الأكبر من تعاظم صناعة المسلسلات على حساب السينما، هو حتمًا المنتجون وأرباب الصناعة، لأنها توفر لهم ربحًا أكبر ومخاطرات أقل بكثير.
كما أن المسلسل يمثل قالب دراما “ذلولاً” يخضع إلى متطلبات السوق أكثر مما يخضع إلى متطلبات الفن، ورغم أن المنتجين فتحوا مجالاً واسعًا للحرية التقنية والأدبية أمام المبدعين، فزالت الكثير من الممنوعات الإباحية والعنيفة، وازدادت الميزانيات، إلا أن هذه الحرية مفتعلة، نوع من الطعم الذي يستدرج الفكرة الجيدة، وبمرور المواسم، يأتي التقرير الاقتصادي ليقرر أن هذه الشخصية يجب أن تستمر، لأن الجمهور يريدها، حتى إنني أتساءل إن كان هناك مسلسل واحد لم يتعرض لهذا التدهور الفني في آخر مواسم مما تطلب إنهاءه، ترى هل يعود جون سنو إلى الحياة؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في استطلاعات الرأي أكثر مما تكمن في الحلقة القادمة.